كان جون روبنسون، من جامعة كامبريدج، يختصر "قانون" الأزمات بمعادلة محدّدة: "لكل مشكلة سياسية سببٌ اقتصادي، ولكل مشكلة اقتصادية حلٌ سياسي". لكن المعادلة في لبنان معقدة أكثر مما يشرحه الخبراء الاقتصاديون. إذ لكل أزمة سياسية أسبابٌ داخلية وخارجية وشخصية وسلطوية تتجاوز الاقتصاد. ولكل أزمة اقتصادية حلٌ سياسيٌ يصعب الوصول إليه. لماذا؟ لأن تشخيص الأزمة المالية والاقتصادية المقلقة في لبنان يكشف أن "الانقسام السياسي" هو "أمّ المشاكل"، كما يقول مسؤول في صندوق النقد الدولي خبيرٌ بلبنان وحريصٌ عليه. والعلاج حاضر وممكنٌ، لكن استخدامه يحتاج إلى إنهاء الانقسام السياسي الذي يمنعه. وهذا صعب إن لم يكن مستحيلاً.
وليست مناقشة الموازنة السنوية في مجلس الوزراء، الذي هو مجلس نيابيّ مختصر، سوى صورة بالأشعة لحالة المريض اللبناني. فالحكومة متأخرة أشهراً عن الموعد الدستوري لتقديم موازنة للعام 2019، سبقتها موازنة للعام 2018 بعد عشر سنوات من دون موازنات. وهي محكومة بإجراء إصلاحات مالية واقتصادية وإدارية كان يجب التوصل إليها وتطويرها قبل عقود. لكن مصالح القوى الأساسية فيها تقطع الطريق على الذهاب نحو إصلاحات جدية. فلا مجال للانطلاق من رؤية اقتصادية تضمن الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج. ولا شيء يوحي بأن خفض العجز أقلّ صعوبة من زيادة الموارد، ما دامت نسبة النمو الاقتصادي تراوح بين السلبية وبين 1 في المئة. حتى وزير الاقتصاد، فإنه اعتبر أن مشروع الموازنة "لم يقاربْ مشكلاتٍ أساسيةً مثل تباطؤ النمو الاقتصادي وتنامي العجز في حسابات لبنان الخارجية وارتفاع خدمة الدين العام". ومن باب التساهل إطلاق تسمية موازنة على مشروع أكثر من 90 في المئة من أرقامه للرواتب والأجور وخدمة الدين العام وعجز الكهرباء وأبواب أخرى للإنفاق، ويبقى ما بين 7 و9 في المئة للإنفاق الاستثماري.
ومن الوهم الرهان على تعديل جديّ في السياسة الضريبية المرسومة لمصلحة الأقوياء والأثرياء. فالاتجاه السهل هو دائماً تحميل الأطراف الضعيفة كلفة العجز. وقمة العبثيّة في موضوع الضرائب قول مسؤولٍ كبيرٍ إنه لا نستطيع فرض ضرائب على الفقراء لأنهم لا يستطيعون الدفع، ولا على الأغنياء لأنهم يرفضون الدفع. وحتى في المحاولة الخجولة لخفض النفقات، فإن مشروع الموازنة اصطدم بواقع التراكم التاريخيّ لما كرّسته الزبائنية السياسية من "امتيازات" لأنواع من الموظفين. هكذا، حدث إضرابٌ مفتوحٌ في مصرف لبنان ومرفأ بيروت و"أوجيرو" والضمان الاجتماعي والجامعة اللبنانية ومعظم المصالح المستقلة، ونزل الاتحاد العمالي العام إلى الشارع وأعلن القضاة "الاعتكاف" في مكاتبهم. والمطلب هو إلغاء المادتين 60 و61 من مشروع الموازنة، اللتين تهدفان إلى توحيد الصناديق وتقارب الرواتب في كل المؤسسات العامة وإخضاع موازنات المصرفِ المركزيّ والضمانِ الاجتماعيّ وبقية المصالح المستقلة لرقابة وزير المال.
وما عاد من السهل تقديم جوابٍ واضحٍ عمّن وعمّا يحكم أو يتحكم بلبنان. السلطة الظاهرة؟ حزب الله وبندقيته؟ المصارف؟ أمراء الطوائف؟ أم هؤلاء جميعاً وأكثر بنسبٍ متفاوتة؟ الكل يعرف أين مزاريبُ الهدر والمعابرُ غير الشرعية ومن يقوم بإدخال المواد من دون رسومٍ في المطار والمرفأ وسواهما. لكن العين بصيرةٌ واليد قصيرة. فالبلد الغارقُ في الدين العامِ مشلولٌ بالإضرابات وعاطلٌ من العمل. وأمراء الطوائف مستقلون، لا عن القوى الخارجية، بل عن مفهوم الدولة. وكل واحد منهم يحاول أن يحشر في الإدارة أنصاره ومحازبيه وأقرباءه، إذ زادت نسبة موظفي القطاع العام في لبنان بالقياس على عدد السكان على نسبة التوظيف في أي بلدٍ غير البلدان التي تمارس التأميمَ وتدعي الاشتراكية. وهذا في الحقيقة "اقتصادُ الشلة" تحت عنوان "رأسمالية الدولة".
ويحدثونك عن مكافحةِ الفساد وقانون "من أينَ لك هذا"، الذي لم يُطبّق منذ صدوره في خمسينيات القرن الماضي. وهذه المرة امتدّت يدُ التحقيق إلى أسماء معروفة، لكن الحيتان الكبيرة لا تُمس. فالفاسد الكبير تحميه مرجعيته الطائفية والمذهبية. حتى الفاسد المتوسط وأحياناً الصغير يجد من يحميه. وإذا كان الفساد قائماً في كل بلدان العالم، فإن الفاسد يدفع الثمن عندما يُكشف في الأنظمة الديمقراطية الراقية. وإذا كان التبرير المعلن لبعض الفساد هو أنه نوعٌ من "تزييت أو تشحيم الماكينة"، فإن الفساد هو "الحمضُ النوويّ" للنظام الطائفي اللبناني والأنظمة السلطوية في العالم الثالث. أليس هذا ما كشفه الحراك الشعبي في الجزائر والسودان وتونس والعراق واليمن وسوريا ومصر؟ وهل كان ضرورياً أن تحدث ثوراتٌ شعبية لكي تظهر خفايا "السرايات" الحاكمة بالشراكة مع رجال أعمال مقربين؟
ليس قليلاً عددُ الذين يحذّرون يومياً من أن لبنان على شفير الإفلاس. ولا أحد يعرف متى نصل إلى وقت نبدأ بإيفاء الدين العام على مراحل، ونحن في انقسام سياسيّ حول الوسائل المطلوبةِ لمجرّد خفض العجز وإنهاء تنامي الدين العام. حتى الذين يؤكّدون أن لبنانَ "مسروقٌ لا مكسورٌ ومفلسٌ"، فإن شبكة المصالح لدى التركيبة السياسية تعيق حركتهم. والمشكلة أن المسرح يكاد ينهار من تحت الجالسين والواقفين فوقه، من دون أن يقبل أصحاب الأوزان الكبيرة تخفيفَ الحمل، مع أن انهيار المسرح يقضي على الجميع.
والمشهد المخيفُ واضح: الرأسمال الاقتصاديّ يقلّ، الرأسمال السياسي الوطني يصغرُ، ورأسمالُ العصبياتِ يزداد. واللعبة كانت ولا تزال تُدار بالتواطؤ بين اللاعبين في الداخلِ والخارج. أما "العيشُ المشترك" الذي هو "رسالةُ" لبنانَ، وفق الفاتيكان، فإنه قائمٌ على مزيجٍ مما سمّاه ميشال شيحا في أربعينيات القرنِ الماضي "الخوفُ السياسيّ المتبادلُ، والمنفعةُ الاقتصاديّة المشتركة".