ما أن اتفقت أطراف الحوار الليبي على موعد الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية، في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، حتى عاد الجدل حول مسودة الدستور التي توارت لأعوام، بعد نقاش كبير رافق صدورها ورفض لها من مكونات سياسية وثقافية واجتماعية عدة في البلاد.
مسودة الدستور التي صدرت عام 2017، بعد نقاشات طويلة لإعدادها من لجنة الصياغة المكونة من 60 عضواً، عادت بعض الأطراف الليبية إلى المطالبة بالاستفتاء عليها قبل التوجه للانتخابات، بخاصة تيار الإسلام السياسي إضافة إلى طيف واسع في الوسط السياسي غرب البلاد، بينما تصرّ التيارات التي تمثل معسكر الشرق والأقليات الثقافية مثل الأمازيع والتبو على رفضها جملة وتفصيلاً.
هذا الخلاف حول مسودة الدستور، شكّل أخيراً عقدة كبيرة في المفاوضات الجارية بين مجلسي النواب والدولة، عطّل حسم ملف الحوار السياسي والإعداد للانتخابات العامة، وبات يمثّل تهديداً حقيقياً لإجرائها في الموعد المحدد لها، فما هي أوجه الخلاف حول هذه المسودة؟
حكاية مسودة الدستور الخلافية
في يوليو (تموز)2017 ، اعتمدت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي رسمياً مشروع الدستور، بموافقة أكثر من ثلثي أعضائها، بعد أعوام من الانتظار، ووسط آمال عريضة بأن تسهم هذه المسودة في حل جزء من أزمات البلاد الكبيرة، التي كانت في أوجها وقتها، إلا إن العكس هو ما حدث تماماً.
وبعد أن صوّتت هيئة صياغة الدستور على مشروع الدستور الليبي، بواقع 43 صوتاً من أصل 57، تقدّم عدد من أعضاء الهيئة بطعن بشأن عدم مشروعية جلسة تصويتها، أمام محكمة في مدينة البيضاء شرق البلاد. استند الطاعنون في رفضهم لإحالة مشروع الدستور إلى البرلمان، إلى أن "التصويت عليها تم يوم السبت، الذي هو عطلة رسمية في جميع الدوائر والمصالح الحكومية في ليبيا".
لم تتأخر محكمة البيضاء في الحكم بقبول الطعن في أغسطس (آب) من العام ذاته، أي بعد شهر من صدور المسودة، في الشقّ المستعجل، قبل أن تقضي في موضوع الدعوى في يناير (كانون الثاني) 2018 وتحكم ببطلان قرار إحالة المسودة إلى مجلس النواب.
طعن في بنغازي
بعدها بأشهر قليلة، طعنت شخصيات عامة من مدينة بنغازي ومنظمات المجتمع المدني في مشروع مسودة الدستور، أمام دائرة القضاء الإداري في محكمة استئناف بنغازي، وقضت المحكمة بعدم الاختصاص بنظر الدعوى المرفوعة ضد الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، التي تقدمت بها تلك الشخصيات والمنظمات، واستند الحكم إلى أن الهيئة ككيان أنشئ تنفيذاً لأحكام الإعلان الدستوري وهي هيئة أنيط بها التأسيس لسلطات الدولة وهياكلها بإعداد مشروع دستور يُطرح للاستفتاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل نهاية 2017، دعت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، السلطات والبعثة الأممية في ليبيا، إلى اتخاذ التدابير اللازمة لإجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد، وطالبت في بيان بـ "اتخاذ ما يلزم لعرض مشروع الدستور على الشعب، وإزالة كل المعوقات التي تقف في طريق إنهاء المراحل الانتقالية، عن طريق عملية ديمقراطية يشارك فيها الليبيون بالداخل والخارج"، وهو ما لم يتم حتى يومنا هذا، بسبب الرفض الكبير للمسودة المطروحة للاستفتاء عليها.
وقال عضو الهيئة ومنسق لجنة التوعية والتثقيف إبراهيم البابا إن "الدعوة موجهة للسلطة المؤقتة والبعثة الأممية، لأنه لا حل لليبيا إلا عبر الاستفتاء على مشروع الدستور التوافقي الذي يجمع بين كل الأطراف، والمقرر داخل البلاد، ومكتوب بأيادٍ ليبية، وحصل على نسبة عالية من الأصوات داخل الهيئة".
رفض التيار البرقاوي
بعد هذه الدعوة، هدّد التكتل الاتحادي الوطني الفيدرالي، ممثل إقليم "برقة"، بالدعوة إلى العصيان المدني في حال إقرار تمرير مسودة الدستور المقدمة إلى البرلمان، بهدف إصدار قانون الاستفتاء بحقها، معتبراً إياها "مظلمة تاريخية لأهل برقة". وأوضح التكتل في بيان "نرحّب بأي قانون للاستفتاء على الدستور، يتضمن الاستفتاء في كل إقليم على حدة، وسنقاطع أي استفتاء لا يتضمن هذا المطلب العادل، باعتبار أن المثالثة أصبحت أمراً مسلّماً به، وواقعاً تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً ." طلب الاستفتاء في كل إقليم منفرداً، جاء بسبب خشية التكتل من مرور الدستور الذي لا يلبّي مطالب الإقليم بالمغالبة، باعتبار أن معظم الكثافة السكانية في ليبيا تتركز في الغرب.
اعتراض الأقليات على المسودة
في المقابل، قوبلت مسودة الدستور المقترحة من لجنة الصياغة، برفض الأقليات الليبية لها منذ بداية النقاشات حولها. ويقول عضو المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا هشام حمادي إن "الأمازيغ لم يشاركوا في صياغة الدستور وقاطعوا أعمال الهيئة منذ بدايتها"، ويرى أن "مشروع الدستور لم يصدر بطريقة قانونية، لأنه يُفترض أن يكتب بالتوافق مع المكونات الثقافية، التي من بينها التبو والطوارق، بحسب ما جاء في الإعلان الدستوري".
ولم يشارك الأمازيغ في انتخابات الهيئة، بسبب رفض المؤتمر الوطني "البرلمان الأسبق" تعديل نظام التصويت على اتخاذ القرارات المتعلقة بحقوقهم الثقافية، وإبقاء نظام التصويت بغالبية ثلثي الأعضاء زائداً واحداً، وهو ما عدّه الأمازيغ إجحافاً بحقهم لاعتبارهم أقلية داخل الهيئة.
ويتمسك الأمازيع حتى اليوم بمطلب تعديل الدستور الجديد ليتوافق مع الهوية الليبية وتاريخ البلاد، ويشددون على أن الحق الأمازيغي يندرج تحت ما يُسمّى بـ "حقوق الشعوب الأصيلة وبحقوق المواطنة وحقوق الإنسان".
وأصدر المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا بياناً بعد صدور المسودة، طالب فيه بأن "يكون الدستور معبّراً عن الهوية الليبية بجميع مكوناتها العربية والأمازيغية، تحقيقاً للعدالة وأن تكون اللغة الأمازيغية رسمية في الدستور الليبي، ووضع آلية وجدول زمني لتحقيق ذلك، ويتم التنصيص على وجوب حمايتها والإنفاق على إنشاء مراكز بحثية خاصة بها لتطويرها لتواكب العصر، وتدريسها في المناطق الأمازيغية وخارجها لمن يرغب بذلك، وأن تكون في الوثائق الرسمية للدولة، وأن تتم الإشارة إلى جميع المكونات في (العلم والنشيد والعملة وطوابع البريد وشعارات الدولة الليبية)، وغيرها من حقوق الإنسان والمواطنة".
مقاطعة مكون "التبو"
لم يختلف موقف أقلية التبو الليبية عن الموقف الأمازيغي من مسودة الدستور، إذ رفض ممثلا التبو في الهيئة التأسيسية، السنوسي حامد وهلي وخالد أبو بكر وهلي، إقرار مشروع الدستور، قبل التوافق عليه مع التبو، قائلين إن "الهيئة يستحوذ عليها المكوّن العربي الذي هيمن على تنظيم أعمالها وقراراتها، بلا أي اعتبار لقرار القوميات الأخرى".
وتابع العضوان في بيان أن "ما وضعه الإعلان الدستوري المؤقت من مبدأ اتخاذ قرارات الهيئة التأسيسية، وفقاً لمعادلة توافقية صريحة تجمع ما بين الغالبية والأقليات القومية، بحيث لا تهيمن الغالبية على الأقليات، وعبر إصدار الهيئة قراراتها بالثلثين زائداً واحداً، مع وجوب التوافق مع التبو والطوارق والأمازيغ، لأن هذه المعادلة هي الشرعية الوحيدة بكل المقاييس لتأسيس دولة ليبيا الجديدة".