من المهم في أي مفاوضات أن يتحلى المرء بأخلاق عالية. ولسوء حظ أبناء إيرلندا الشمالية وشركاتها التجارية، فإن بوريس جونسون قد تخلى عن هذا المبدأ منذ بعض الوقت وهو يواجه صعوبات في تبنيه من جديد. لقد كان هو من وافق على إبرام البروتوكول الإيرلندي التابع لاتفاقية الانسحاب وأيضاً على الاتفاقية التجارية التي جعلت من الممكن البدء في تنفيذ "بريكست" في 1 يناير( كانون الثاني) من العام الحالي. وها هو الآن يبدو وكأنه يشكو من أن الاتحاد الأوروبي يتوقع منه الالتزام بتفاصيل البروتوكول الدقيقة.
فهو يتهم الاتحاد الأوروبي باتبّاع نهج بالغ الصرامة لا يقبل التعديل حتى كأنه "قُدّ من حجر". في المقابل، يبدو أن الطلب الذي تقدم به هذا الاتحاد لجونسون مطالباً إياه بتنفيذ التزاماته المنصوص عليها في الصفقة، طلب معقول.
إن إعلان المملكة المتحدة في مجلس العموم العام الماضي عن أنها ستخرق القانون الدولي "بطريقة محدودة ولفترة قصيرة" لم يصب في مصلحتها. على رغم أن الخرق يتعلق بأحد بنود اتفاقية الانسحاب، التي أقر الاتحاد الأوروبي في النهاية على أنه غير ضروري، فإن موقف بريطانيا لن يسهم في تعزيز سمعتها كدولة تحترم النظام الدولي القائم على القانون.
كان جونسون في موقع دفاعي أثناء قمة السبع في كورنوال. ففي واحدة من المفارقات التاريخية، وجد نفسه أمام فريق الاتحاد الأوروبي الذي كان يضم خمسة من أصل المشاركين التسعة في القمة، وهم قادة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا إضافة إلى شارل ميشال رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، وأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية.
وعلى الرغم من نفي المتحدث باسم رئيس الوزراء أن يكون جونسون قد شعر أن الآخرين "اتفقوا عليه"، فلربما شعر بالحاجة إلى عرض قضيته بصورة أقوى مما لو كان هناك توازن بينه وبين الطرف الآخر. والواقع أن هناك بعض الحجج المقنعة التي تدعم موقفه. فالبروتوكول يسمح تحديداً بالتفاوض حول طرق تنفيذ قواعده، كما ينطوي على إجراء اختبار لمعرفة ما إذا كان معقولاً بما يكفي. وليس هناك من يعتقد بشكل جدي أن لفائف النقائق المرسلة إلى مخازن السوبر ماركت في إيرلندا الشمالية تشكل فعلاً تهديداً للسوق الموحدة التابع للاتحاد الأوروبي، حتى ولو انتهى المطاف ببعض هذه النقانق في جمهورية إيرلندا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونظراً إلى أن التباعد بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على صعيد القوانين والنظم والإجراءات لا بد منه في المستقبل، فقد تنشأ بعض المشكلات، لكن يبدو أن هذا الاتحاد يتخذ موقفاً متشدداً في الوقت الحالي.
وكما لفت رئيس الوزراء محدثيه مراراً وتكراراً، فإن الغاية من البروتوكول كانت تفادي إقامة نقاط تفتيش على الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، لا سيما أن المملكة المتحدة صارت خارج الاتحاد الأوروبي. ومع أنه لم يقل ذلك صراحة، فإن الخيارات الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها إذا تعذر الاستمرار على أساس البروتوكول، هي إلغاء اتفاقية الـ"بريكست"، كما يفهمها جونسون، أو إنشاء حدود مادية صلبة بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا.
ومن المؤسف أن جونسون قد أضعف الثقة بمرجعيته التفاوضية إلى درجة تراجع معها موقفه حتى بات يشكو من أن زعماء الاتحاد الأوروبي "يسيئون فهم" تماسك المملكة المتحدة باعتبارها "دولة واحدة"، قائلاً "أنا في حاجة إلى جعلهم يدركون ذلك".
كما أن التلويح بتعليق البروتوكول لا يساعد في استرجاع أي جزء من تلك الثقة. بالطبع يتيح البروتوكول نفسه تعليقه بشكل مؤقت بموجب المادة 16، إذا كانت هناك أسباب اجتماعية ملحة تدعو إلى ذلك، وهذا الشرط قد ينطبق على الوضع الحالي. إلا أن ذلك يبدو تهديداً بالغاً بالابتعاد عن الاتفاق كلياً، في خطوة تنم عن الإحباط أو عدم المرونة، ولا ينفع في التخفيف من وطأتها التذكير بأن فون دير لاين نفسها كانت قد هددت بتطبيق المادة 16 بسبب الخلاف حول اللقاحات. فذلك كان خطأ كبيراً إلى درجة يجدر معها ألا يحاول أي طرف أن يكرره من جديد.
وكما لاحظنا في مناسبات عدة من قبل، فإن "بريكست" لم يجرِ تنفيذه حتى الآن ولن " يُنفذ" على الإطلاق، أي أن بريطانيا لن تخرج نهائياً من الاتحاد الأوروبي. سيكون هناك المزيد من المفاوضات بشأن كل واحد من جوانب اتفاقية التجارة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور. وسيتوقف نجاح هذه المفاوضات على مدى الثقة والاحترام المتبادلين.
وإذ يتوجب على جونسون أن يبني تلك الثقة، يبدو أنه منهمك بتبديد ما بقي منها.
© The Independent