في بلد تشكل العادات والتقاليد فيه مرجعاً أساسياً وخطاً أحمر لا يمكن تخطيه أو حتى الاقتراب منه، انتشرت ظاهرة زواج القاصرات منذ سنوات مضت، ووقع ضحيتها آلاف الفتيات اللواتي حُرمن من حقهنّ في التعليم والاختيار في ما يخص شريك حياتهنّ، فنجد في بعض مناطق السودان، خصوصاً وسط البلاد وشمالها، انتشار هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من سعي المدافعات عن حقوق المرأة والطفل لإنهاء الظاهرة فإنها ما زالت مستمرة، خصوصاً في القرى البعيدة والأرياف التي لا تعترف بتعليم الفتيات. لذلك جاء أول المطالب في انتفاضة ديسمبر (كانون الأول)، بضرورة تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي لم يحدد سناً محددة للزواج، وإنما جعلها ملتبسة وسمح بتزويج الفتيات دون السن القانونية (18 عاماً).
"مؤتمر البنت"
ونظم المهتمون بالأمر مؤتمراً سنوياً للبنات أقيم بمدينة الأُبيض شمال كردفان بمشاركة 100 فتاة من كل الولايات السودانية، وركز هذا العام على منع زواج الأطفال تحت شعار "البنات يقدن التغيير".
وعن المؤتمر، قالت الصحافية والمشاركة تهاني آدم سعدان، إنه "تناول في يومه الأول أهدافاً أساسية متمثلة في محاربة العنف خصوصاً في فترة كورونا. وتناول أيضاً اتفاقية سيداو".
وكان التركيز الأكبر على العنف المتمثل في زواج الأطفال، وجرى حديث عن القوانين والسياسات المتعلقة بزواج القاصرات في السودان، مع أخذ إفادات عن أوضاع الفتيات في الولايات المختلفة، وأسهمت المشتركات في كتابة توصيات للحكومة بتعزيز دور الشباب للحد من الانتهاكات التي تقع ضد الأطفال مع تضمين قضية زواج تلك الفئة في السلم التعليمي، وإصدار مجلات أسبوعية توعوية، وتكوين جمعيات لتوعية المجتمع ومراقبته في ما يخص العنف.
في السياق ذاته، أضافت سعدان، "دعم الأسر الفقيرة وتمكينها مهم، لأن غالبية الأسر تُزوج بناتها بسبب الفقر. كما أنه من المهم مشاركة النساء في صياغة الدستور السوداني، وتدريب العاملين في أجهزة الدولة على كيفية التعامل مع العنف، وتوعية المجتمع بعد سنّ القانون بضرورة احترامه، كلها أمور مهمة".
ومن أبرز التوصيات في المؤتمر حسب الصحافية، "سنّ قانون قومي يُجرّم زواج الأطفال من أهم التوصيات التي قُدمت"، و""منظمة بلان الإنمائية والإنسانية التزمت بتمويل المشروع، وهناك رغبة قوية من المشاركات بتغيير المجتمع والحد من ظاهرة زواج القاصرات وغيرها من أساليب العنف".
الأحوال الشخصية
ويلعب قانون الأحوال الشخصية دوراً كبيراً في السودان، وهو الذي يحفظ حق المرأة حيناً وينتزعه منها حيناً آخر، لذلك كانت الأصوات المهتمة بقضايا المرأة، تنادي مراراً وتكراراً بتعديله ليناسب الجميع، ومنع المجتمع من ممارسة سلطاته في تزويج القاصرات وختان البنات وغيرهما.
إيناس مزمل، الناشطة في حقوق المرأة، قالت إن "زواج الفتيات من المشاكل التي فيها الكثير من التناقضات بين قانون الطفل وقانون الأحوال الشخصية، ويظل الأمر مُعقداً طالما أن السنّ الموضوعة للزواج في قانون الأحوال الشخصية 10 سنوات، والسماح لولي أمر الفتاة بعقد قرانها من دون علمها وموافقتها"، وتضيف مزمل، "لا شك أن الوعي زاد، وتقلصت الحالات في المدن، لكن ما زالت القرى تسجل إحصاءات مرتفعة، وذلك لأنها مرتبطة لديهم بقيم مجتمعية لها علاقة بالشرف. المجتمع المدني يعمل جيداً لتقليل الأعداد، ولكن يجب على الحكومة إلغاء القوانين المختصة بالعنف ضد القاصرات، لأن الزواج القسري والإجباري شكل من أشكال العنف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق متصل، ترى مزمل أن "الإصلاح القانوني الشامل في السودان والإصلاحات التشريعية أصبحا ضرورة ملحة، من ضمنها إلغاء قانون الأحوال الشخصية بشكله الحالي لأنه مجحف. فزواج الأطفال انتهاك وجريمة معقدة، يحرم الطفلة من حقها في التعليم والحياة الطبيعية، ويحرمها أيضاً من الزواج في العمر الذي تكون فيه مؤهلة جسدياً ونفسياً واختيار الشريك المناسب، لذلك المسؤولية تكاملية بين الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان وجماعات الضغط والإعلام".
الموقف القانوني
وعلى الرغم من أن القانون الجنائي يحدد 18 عاماً سناً قانونية، فإن قانون الأحوال الشخصية لم يضع في الاعتبار هذا القانون، هذا ما أوضحه المحامي معز حضرة، قائلاً، "قانون الأحوال الشخصية لم يحدد سناً معينة لزواج الفتيات، لذلك هناك إهمال كبير لهذا الجانب، على الرغم من تحديد 18 عاماً سناً قانونية. لاحظنا انخفاض نسب زواج القاصرات في المدن، ولكن ما زالت النسب مرتفعة في القرى، ما يستوجب العمل على وضع قوانين تحفظ حق الفتيات في عدم إجبارهنّ على الزواج وهن قُصّر ومن دون رغبتهنّ".
المجتمع ينتفض
صحيح أن هذه الظاهرة تعززها العادات والتقاليد، إلا أن المجتمع في الفترة الأخيرة شهد تطوراً ملحوظاً، إذ تعتبر الغالبية زواج القاصرات جريمة لا يمكن السكوت عنها.
الموظفة حليمة عبد الله أكدت أنها "منعت تزويج قاصر وهددت أسرتها بتبليغ الجهات المعنية في حال زُوجت، خصوصاً أن عمرها لا يتعدى السنوات الثماني"، وواصلت قائلة، "لا يمكننا إنهاء الظاهرة بين ليلة وضحاها، ولكن بالعمل المشترك والضغط المستمر ستختفي تدريجياً مع مرور السنوات. أما تجاهل الأمر فسيفاقم المشكلة، ولا بد من توعية المجتمع بالتوازي مع تشريع القوانين".
السودان البلد الـ 29 عالمياً
إحصاءات أُجريت عام 2017، تبين أن 34 في المئة من البنات زُوجن قبل عامهنّ الـ 18، و12 في المئة زُوجن قبل عامهنّ الـ 15، ليكون السودان البلد الـ 29 عالمياً في ترتيب الدول التي تُزوج الأطفال.
وفي سياق متصل، قال الخبير القانوني، عوض الله الحاج، إن "المحاكم أبطلت مرات عدة زيجات فتيات دون 18 عاماً. وذلك عندما لجأن هنّ أو أحد أفراد أسرهنّ إلى القانون لمنع إتمام الزيجة. بينما يُعتبر قانون الأحوال الشخصية غير واضح في ما يتعلّق بسنّ الزواج القانونية، وتنص المادة 215 من قانون الأحوال الشخصية على أن السن القانونية هي 18 سنة، في الوقت نفسه هناك مواد أخرى تسمح بزواج القاصرات، ويسمح بتزويج الفتاة فور بلوغها. وأيضاً يسمح بتزويج الطفلة ذات الأعوام الـ 10 عن طريق الوصي عليها"، و"لكن القانون هذا قديم ولا يؤخذ به حالياً على الرغم من أنه لم يتغير. وأي زيجة يمكن إيقافها في حال كانت الفتاة غير موافقة، ليس فقط لأنها دون السن القانونية بل لأن عقد قران الفتاة دون موافقتها يعتبر عقداً باطلاً من الناحية الشرعية".