يوماً بعد يوم يزداد عدد اللبنانيين الذين يديرون ظهورهم للبر ومشاكله، ويختارون البحر صديقاً ومتنفساً أخيراً. فعلى طول الشاطئ اللبناني يمتد طابور جديد، ولكن هذه المرة ليس لملء خزان الوقود، وإنما لاستخراج رزقهم من داخل الماء. تتعدد المبررات التي تدفع الناس إلى صيد السمك، فمنهم من يواظب عليها منذ عقود، وآخر يبحث عن الوحدة ومصارحة أمواج البحر بهمومه، فيما يجني بعضهم "الفراخ" بسواعده بعد أن عجز عن شراء اللحم الذي بلغ سعره مستويات قياسية (نحو 160 ألف ليرة) للكيلو الواحد، أي ربع الحد الأدنى للأجور.
الشاطئ للجميع
"الصيد عشق وراحة نفسية"، بهذه الجملة تختصر مدرّسة اللغة الفرنسية كلود عواد علاقتها مع الصنارة. تقول إنها "من الجيل القديم لصيادي السمك، علماً أن لديها فوبيا من جميع أنواع الحيوانات، باستثناء السمك الذي تتحمل وخزاته وتمرده". عندما كان أبناؤها صغاراً كانت تستأجر شاليهاً لتمضية فصل الصيف، وهناك تعلمت الصيد من إحدى السيدات التي كسرت الصورة النمطية الاجتماعية السائدة.
تعلقت كلود كثيراً بالصنارة، فبعد نهار طويل من الاستجمام والسباحة كان زوجها وأبناؤها يطالبون بالعودة إلى المنزل، إلا أنها كانت تلتزم مكانها بانتظار أن تعلق سمكة إضافية، لأن "أحلى متعة بأن تشدك سمكة نحو الأسفل، ومن ثم تسحبها، وتكتشف الفرحة وهي تفرفر بين يديك". مع الوقت، تحوّلت إلى معلمة للصيد، مشيرةً إلى أنها علّمت جميع أبناء المنتجع السياحي، "كنت كل يوم أشتري صنارة، وكانت تنكسر"، كما علّمت صديقاتها الصيد من أجل التنفيس عن همومهن.
انقطعت كلود لنحو عشر سنوات عن الصيد، بعد أن باعت إحدى سياراتها. في الصيف الماضي، عادت إلى شغفها السابق، وراحت تصطاد السمك في محمية جزيرة الأرانب في ميناء طرابلس. وأسهمت "الرزقة الكبيرة" في زيادة تمسكها بهذه الهواية، "ما إن أرمي الصنارة حتى أصطاد سمكة أو اثنتين".
تتعجب كلود أن بداية هذا الصيف تختلف عن سابقاتها، لأن الكمية أصبحت قليلة. يظهر حب كلود للصيد على مُحياها، فهي ما إن تذكر الصيد حتى تبتسم ابتسامة عريضة، متحدثة عن مجموعة منافع يجنيها الصياد "تساعده على ترك التدخين"، تعلّمه الصبر وضبط الأعصاب، كذلك التركيز والسباق مع الوقت، بالإضافة إلى تقوية البصر.
اختارت كلود "عِشرة" وصداقة أهل البحر، وتتفاعل السيدة المتقاعدة مهنياً بإيجابية مع "أصحاب الكار الجديد"، الذين يساعدونها في إصلاح عدة الصيد وحمل الأغراض الثقيلة، كما يزودونها أحياناً بالعجينة.
أعباء أصحاب القوارب
ويعتمد أبناء مدينة الميناء في طرابلس على صيد السمك، ويمتلك العديد منهم قوارب مجهزة، معتمدين على "الشباك والأشراك". وانعكس غلاء سعر صرف الدولار سلباً على حرفتهم، ويشكو الصيادون من أن موسم الصيد يتقلص بسبب عدم تجهيز المرافئ البحرية بما يكفي من شروط الأمان، ويعبر رافايال غرمريان عن استيائه من حالة "مرفأ حئران الطبيعي"، فبسبب عدم تجهيزه وصيانته، يضطر الصيادون إلى إخراج قواربهم خلال فصل الشتاء اتقاءً لتحطمها بدءاً من شهر أكتوبر (تشرين الأول).
كما أن إصلاح القوارب أصبح "موجعاً" وكلفته مرتفعة للغاية، بما يفوق طاقة ذوي الدخل المحدود، معطياً مثالاً على ذلك أن "ثمن لوحي الخشب طول المتر ونصف المتر مليون ليرة ونصف المليون، أما الطامة الكبرى إذا ما كان العطل على مستوى المحرك أو الميكانيك"، كما "أن الخيط الذي كان سعره 50 ألفاً أصبح اليوم بـ300 ألف، هذا إلى جانب انقطاع مادة المازوت وانتشار السوق السوداء".
ويوضح غرمريان أن "الصيادين يستدينون شتاءً للاستمرار في العيش بانتظار شهر أبريل (نيسان) وموسم الصيف"، كما أنهم لا يتمتعون بحقوق وضمانات اجتماعية.
وأسهم ارتفاع سعر صرف الدولار في زيادة الاعتماد على الصيد المحلي بسبب ارتفاع ثمن السمك المستورد، ويطمئن غرمريان بأن "البحر غير ملوث لأن المجارير تلوث الشاطئ فقط لا أعماق البحار"، مطالباً بقمع "الهواة المضاربين على الصيد، لأنه بغياب الرقابة يمكن لأي شخص إحضار أسماكه وعرضها في السوق في ظل الفوضى"، و"حصر بطاقة الصيد بالمحترفين الذين يعتاشون من البحر، ومنح الهواة بطاقة هاوٍ".
البيئة البحرية في خطر
ويعاني قطاع الصيد البحري أخطاراً جمة، يعود البعض منها إلى سوء إدارة المرافق العامة للدولة وصب المجارير على الشاطئ اللبناني، ومن ناحية أخرى سوء سلوك الصياد الذي يؤدي إلى مخاطر بعيدة الأجل. ويرفض الخبير في البيئة البحرية، سامر فتفت، تصنيف المناطق إلى "مناسبة وغير مناسبة للصيد"، مفضلاً الحديث عن "أساليب صيد تقضي على الثروة السمكية، وأخرى تحافظ عليها".
ويحذر المهندس فتفت من "استعمال فاضح للديناميت والسم في لبنان"، وما يليها من مخاطر على الثروة السمكية وصولاً إلى "بحر متوسط خالٍ من الأسماك". ويتحدث فتفت عن مخاطر إضافية ناجمة عن المجارير التي تصب في البحر، وكذلك بقايا المصانع التي تعتبر أكثر خطورة من المياه الآسنة للمجارير بسبب كثافة السموم.
ويتطرق أيضاً إلى "الصيد غير الأخلاقي" الذي تُستخدم فيه سموم خطرة تُباع في محلات المبيدات والأسمدة الزراعية، وتُرش على الأشجار أو تستعمل لمكافحة الفئران، إلى جانب "صيد الأسماك ذات الأحجام الصغيرة التي لا تُترك لتتزاوج وتبيض أقله لمرة واحدة بمعدل آلاف البيوض"، وعليه "نحن نستهلك السمك الصغير الذي لم يبلغ حتى"، موضحاً أن الأسماك تتغذى من السموم المستخدمة، وبالأغلب الميتوميل والزرنيخ، التي تُخلط مع العجين وترمى في البحر. هذا السلوك لا يضر بالبيئة البحرية فحسب، وإنما أيضاً بالطيور التي تتغذى عليها، بالإضافة إلى ظهور حالات تسمم لدى أفراد استهلكوا سمكاً ملوثاً.
ويؤكد فتفت أن "موسم السمك الحالي هو الأسوأ لأنه وبسبب ارتفاع سعر الأسماك يُلاحق الصياد السمكة أياً كان حجمها من أجل بيعها"، مستهجناً غياب ثقافة "catch and release"، لناحية إعادة الأسماك الصغيرة إلى البحر، "ففي لبنان كل ما يستخرج من البحر، يوضع في السلة".
وتتفاقم مشكلة البحر المتوسط في ظل هجرة سمك البحر الأحمر إليه عبر قناة السويس، ويحذر فتفت من سمكة النفيخة "lagocephalus" السامة، التي لا تفترسها إلا مجموعة أسماك في طور الانقراض، ألا وهي القرش الصغير، "اللقز" "Epinephelus"، و"البصاص".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعلق فتفت على اصطياد قرش بطول ثلاثة أمتار قبالة شاطئ ببنين في عكار شمال لبنان، لافتاً إلى وجوده بأعداد قليلة، ويوصف القرش بـ"زبال البحر" لأنه يمتص جميع المواد الضارة، تحديداً الرصاص والمواد الكيميائية الأخرى. ويُصنّف ضمن "السمك غير اللذيذ"، إلا أن "الصيادين يبيعونه بأسعار مهاودة واقتصادية، ويشتريه العامة بسبب رخصه على الرغم من ضرره بسبب وجد كميات كبيرة من الرصاص في نسيجه".
لا تتوقف المخاطر في طرابلس اللبنانية عند هذا الحد، بل تزداد الأخطار الناجمة عن جبل النفايات القديم الذي تنزل عصارته إلى البحر، بالإضافة إلى سقوط أجسام بلاستيكية تغتذي منها الأسماك والسلاحف البحرية ظناً منها أنها تأكل قنديل البحر، حسب فتفت.
قرار فرنسي للصيد
وعند مقاربة موضوع الصيد البحري في لبنان من الناحية التشريعية، عليك أن تتمتع بدفاعات نفسية قوية من أجل مواجهة الصدمات المتلاحقة. أولى الصدمات تعود إلى التشريع الذي ينظم هذا القطاع والذي يعود إلى عهد الانتداب الفرنسي، ففي 28 سبتمبر (أيلول) 1929، أصدر المفوض السامي بالوكالة (تيترو) قراراً ما زال العمل به مستمراً إلى يومنا هذا. كما أن التعديلات التي طرأت عليه، لم تجعله متطوراً بل انصبت على رفع قيمة الرسم السنوي، حيث يُفرض على كل جهاز صيد من أية فئة أو قياسات كانت 1000 ليرة، كما يفرض على رخص الصيد المعطاة للمراكب أو الزوارق ذات المحرك أو الشراع رسم سنوي قدره عشرة آلاف ليرة لبنانية.
جرائم بلا رادع
ولا تتوقف الغرابة عند مستوى الرسوم السنوية، بل تتجاوزها لتظهر بأوضح معالمها مع تحديد العقوبات والجزاءات المالية التي تتراوح بين 100 و1000 ليرة لبنانية، وعند هذا المستوى من السذاجة في ظل دولار تجاوز مستوى 15 ألف ليرة لبنانية، لا يبقى من قوة للعقوبة، ولا رادع يحول دون المخالفة سواء على مستوى صيد الأسماك والبذار التي لا تنطبق عليها الأحجام القانونية، أو استعمال أشراك وشباك بقياسات ممنوعة، أو حتى استخدام السموم والمتفجرات.
ربما أدركت وزارة الزراعة أخيراً فداحة هذا الأمر، لذلك سلمت في مارس (آذار) 2021 الصيغة النهائية لمشروع "قانون الصيد المائي وتربية الأحياء المائية" إلى لجنة الزراعة النيابية، للاطلاع عليه وتعجيل إقراره بعد سلوكه المجرى القانوني. وإلى حين إقرار القانون الجديد، يستمر الصيد البحري خاضعاً لمندرجات قرار المفوض السامي الفرنسي بعد نحو مئة عام من الزمن.