"مرر رواية "اليوم المقدس" إلى القائمة القصيرة، وستحصل على شيك بعشرين ألف فرنك". بهاتين الجملتين المستفزتين يفتتح الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج روايته الجديدة "أحجية إدمون عمران المالح" الصادرة عن دار نوفل (هاشيت أنطوان). تشجع مثل هذه البداية على قراءة الرواية، وتفتح بالتالي سؤالاً أساسياً: إلى أين سيصل الكاتب بعد هذا المدخل المغلف بالتشويق؟
إن الجواب عن هذا السؤال لا يأخذ كثيراً من الوقت. فأحجية إدمون عمران المالح تعيدنا إلى مجد الرواية القصيرة. نحن أمام عمل لا يتجاوز مائة صفحة، لكنه يزدحم بالأحداث والتفاصيل التي لا تترك للقارئ فرصة للتوقف قبل الوصول إلى نهايتها.
وإذا كان الكاتب قد أغرى القارئ بعتبة عبد الفتاح كيليطو "ينبغي التيه قبل الوصول"، فإن القارئ في المقابل سيجد التيه فحسب، ذلك أن الوصول شيء لا تمنحه الرواية، وإنما تشير إليه. إذ ليس ثمة أفكار محسومة أو انحياز واضح لجهة ما، على الرغم من أن الرواية تتطرق لموضوعين كبيرين يعتبران تربة خصبة للأفكار والأسئلة: الفساد الثقافي من جهة، وهجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل، ومن ثم علاقة المسلمين باليهود.
الرواية موضوع نفسها
وإذا اعتبرنا أن هذين الموضوعين هما ضفتا الرواية، فإن القارئ سيكتشف الماء الذي يجري بينها، إذ يبدو أن الموضوع الجوهري للرواية هي الرواية نفسها، أي مسألة كتابتها. ويمكن أن نسمي هذا الموضوع الذي يشغل الكاتب والسارد معاً "الهم الروائي". هذا الهم يحمله بطل الرواية الصحافي اليهودي عمران المالح الذي ولد في المغرب، ثم تم تهجيره إلى إسرائيل، التي هرب من التجنيد فيها في اتجاه فرنسا، حاملاً معه مخطوط روايته. عمران يعبر عن حيرته الفكرية والوجودية تعبيراً منبثقاً من داخل العالم الروائي، فهو يحس بعد تعاقب الأهوال والتجارب في حياته بأنه صار "شخصية غير حقيقية، شخصية روائية مسطحة، شخصية من حبر، ابتكرها كاتب ما". لذلك يعود ليطرح هذا السؤال الغريب: "هل أنا حبيس العالم الداخلي لرواية ما؟". إن هذا المذهب الدلالي سيجعل المونولوغ أسلوباً طاغياً على الرواية، وعنصراً أساساً في بنائها. ويؤدي المونولوغ هنا وظيفة تتلاءم مع الرواية القصيرة، فهو يكثف الأحداث والزمن على الرغم من كونه صامتاً ومكتوماً في ذهن الشخصية، كما أشار إلى ذلك ليون سرمليان في "تيار الفكر والحديث الفردي الداخلي". يوظف الكاتب المونولوغ ليتراجع إلى الخلف تاركاً للقارئ أن يصل إلى الأرجاء الداخلية للشخصية دون وساطة المؤلف. يتعلق الأمر بلحظة ينحو فيها السرد جهة الشعر كما كان يرى جيمس جويس، معتبراً أن المونولوغ يعبر عن أكثر الأفكار خفاءً، من دون تنظيم منطقي بالضرورة. لا تجعل الرواية الوجود محوراً للكتابة، بل تجعل الكتابة هي محور الوجود.
تتطرق الرواية إلى مسألة بالغة الأهمية، وهي تسرب الذات الكاتبة إلى مكتوبها. فكل روائي، على ما يبدو، مهما جنح إلى الخيال ينقل بالضرورة شيئاً من حياته ومن ذاته إلى العمل الذي يشتغل عليه. فحين شرع السارد مثلاً يحكي لفرانز عن مشروعه الروائي الجديد، وقدم له تفاصيل عن مسار الحكي، ذكره زميله الذي يعرف حياته أن ما يريد كتابته ليس سوى سيرته الشخصية. سيفاجأ السارد نفسه من ذلك، إذ يبدو أنه قد نسي تلك الأحداث، أو نسي على الأقل أنها تعنيه. فقصة الحب المستحيل التي جمعت بين الشاب اليهودي والفتاة المسلمة، والتي كان السارد يبني عليها روايته الجديدة هي قصته وتجربته، غير أنها خرجت من عالم الواقع وذهبت إلى أرض النسيان.
تشير الرواية إلى مسألة أخرى تتعلق بالكتابة، هي لغتها. إذ يتوقف عند حالة اختيار كاتب مغربي الكتابة باللغة الفرنسية، بدل لغته العربية.
مزاج شعري
لا تتحدث "أحجية إدمون عمران المالح" عن كتابة الرواية فحسب، بل إنها تمتد إلى الشعر. ويمكن للقارئ أن يحس بشغف السارد ومشاعره الهائلة تجاه قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، القصيدة الوحيدة التي كان يحفظها بلغتها العربية، هو الذي لم يكن يجيد هذه اللغة. وهي القصيدة التي نقلها إليه صديقها اليهودي شمعون دنكور الهارب من سطوة حزب البعث العراقي، بعد أن أراد ضابط في الجيش أن يأخذ منه صديقته.
بعد أن استحوذت دور النشر الكبرى على جائزة غونكور، قررت دور النشر الصغيرة والمتوسطة السعي إلى إحداث جائزة موازية، تمنحها هيئة ثقافية جديدة اسمها "منظمة الثقافة الحرة". الصحافي عمران المالح الذي يحرر الملحق الثقافي في جريدة "لوموند" الفرنسية هو عضو لجنة التحكيم بالجائزة الجديدة، وفرانز غولدشتاين زميله في قطاع الثقافة، ناشر، وأخوه في الديانة، وكلاهما مثقف يهودي يقيم في فرنسا. يخبر فرانز إدمون أن كل أعضاء لجنة التحكيم قد وافقوا على تمرير رواية "اليوم المقدس" إلى اللائحة القصيرة إلا هو، وهي رواية لكاتب عربي يكتب بالفرنسية. تنتاب عمران صدمة كبيرة، إذ يستغرب من شراء ذمم أعضاء يفترض أنهم خيرة مثقفي فرنسا، الذين يظهرون في الإعلام بصورة المثقف الحر والمستقل.
يرفض عمران هذه الرشوة، لأن الرواية ضعيفة، ولا تقدم سوى صورة فلكلورية عن الإنسان العربي، وهي تلك الصورة التي يريدها غولدشتاين وأشباهه من المسيطرين على الساحة الثقافية. غير أن مقاومته تخفت أمام سطوة عصابة ثقافية تقف وراءها مافيا تقوم بعملية غسيل أموال في مجال نشر الكتب.
أسئلة متعددة
تحمل الرواية رسائل سياسية وإنسانية وأسئلة تهم التاريخ والفكر الديني، وتحمل أيضاً إشارات ترتبط بالحياة الثقافية الراهنة، حتى أن القارئ يبحث من حين لآخر عن الشخصية الحقيقية التي نقلها الكاتب من الواقع إلى الورق، وقد يهتدي إليها أو إلى من يشبهها. إنها رسائل غير مباشرة متروك للقارئ مهمة فك شفراتها.
تعتمد الرواية بناءً دائرياً في السرد، فهي تنتهي من حيث بدأت، على الرغم من التفاوت الزمني. وترتكز في بنائها أيضاً على تقنية العلبة الصينية، فنحن أمام حكايات صغيرة داخل الحكاية الكبيرة. ثمة قصة عمران، وقصة بطله إدمون، وقصة الخالة ميمونة، وقصة فرانز غولدشتاين أيضاً. وهناك لجوء إلى تقنية السرد والسرد المضاد. فما يحكيه عمران مثلاً عن قصة خروجه من إسرائيل يعود في جزء لاحق من الرواية ليحكيه على نحو مختلف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتشظى شخصية إدمون عمران المالح إلى شخصيتين روائتين، الأولى هي شخصية عمران المالح في رواية احجيوج، والثانية هي شخصية إدمون المالح في رواية عمران المالح، نحن إذاً أمام شخصية روائية في رواية شخصية روائية أخرى. ليس الأمر بالضرورة متاهة، بقدر ما هو تجميع لشخصيتين متقاربتين، تجمع بينهما خصائص وسمات كثيرة. غير أن القارئ قد يتساءل: ما الذي يريد الكاتب أن يخفيه أو يرفعه عن شخصيته الأولى ويمرره عبر شخصيته الثانية الأكثر شبحية؟
غير بعيد عن جواب لهذا السؤال، ربما يريد الكاتب أن يقنعنا أننا جميعاً في النهاية شخصيات روائية، وأن حياتنا هي في بداية المطاف ونهايته رواية، رواية تحتاج فقط إلى من يكتبها. هذا ما يقوله الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج في رواية قصيرة ومكثفة، لكنها في الآن ذاته مشوقة ومحكمة البناء.