ترك عقد النزاع السياسي والعسكري في سياق الأزمة الليبية بصمات واضحة على الكثير من المدن الليبية الكبرى، لكن أوضحها يبقى ما شهدته العاصمة طرابلس، مركز النزاع على السلطة والثروة، على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي.
ليس غريباً أن تتأثر "تريبوليس" أو المدن الثلاث كما كانت تعرف قديماً، قبل أن يتحور الإسم بمرور الزمن إلى طرابلس، بالأزمات العميقة التي ضربت البلاد منذ سقوط نظام معمر القذافي في العام 2011، كونها تحوي ثلث معدل السكان، إذ يقطنها وضواحيها نحو مليوني نسمة، من مختلف المكونات القبلية والاجتماعية والثقافية في ليبيا.
فكيف تأثر ثلث سكان ليبيا بتبعات الصراع السياسي الذي شهدته البلاد، وشكلت مدينتهم محوره الرئيس؟ وكيف يتعاملون مع الأوضاع المعيشية الصعبة التي تمر بها نتيجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتبدلات على خريطة النفوذ العاصمية، التي تغيرت كثيراً في السنوات العشر الأخيرة؟
شاخت عروس البحر
"شاخت عروس البحر"، هكذا وصف لنا الإعلامي الليبي عبد الرحيم محمد طرابلس المدينة التي شكلت عشقاً دائماً له، على الرغم من أنه ابن مدينة بنغازي، وهو يصف لنا انطباعه عنها، خلال زيارته الأخيرة لها قبل شهرين، بعد قطيعة جبرية دامت سبع سنوات كاملة.
ويتابع وصفه للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في طرابلس، بعد غياب سنوات عنها، "لم تتبدل طرابلس على المستوى المعماري، فهي لا زالت بعد سنوات الحرب تحتفظ بموقعها التاريخي الرئيس على شاطئ البحر، مثل السراي الحمراء وقوس أوروليوس وميدان الشهداء، ولا تزال المدينة القديمة صامدة وميدان الجزائر يعج بالنشاط، لكن ملامح الوجوه تبدلت فلم تعد كما كانت خلال الـ30 السنة الماضية التي عرفت فيها العاصمة بتفاصيل حياتها الدقيقة".
وأضاف "طرابلس طوال التاريخ تعتمد على الحركة التجارية، الاقتصاد عصب الحياة فيها، وأي أزمة تضربها تترك أثاراً قاتلة على المدينة، وهذا ما حدث أخيراً، فكثير من الشوارع التي نهضت طوال القرن الأخير بفضل التجارة، مثل شارع أول سبتمبر وشارع ميزران وحي الأندلس وشارع الرشيد، بدت لي بائسةً وحركتها ضئيلة والكثير من المحال التجارية الشهيرة أقفلت أبوابها، بسبب عدم القدرة على دفع الإيجارات الضخمة، في ظل ضعف القدرة الشرائية بسبب نقص السيولة الحاد في المصارف".
هجرة الوجوه العريقة
ويقول الإعلامي عبد الرحيم محمد، إن "أهم ما شاهده في طرابلس خلال زيارته لها أخيراً هو غياب الوجوه الطرابلسية الأصيلة، ذات الجذور العريقة، وهم الذي يعرفون في طرابلس باسم (ولد المدينة)، نتيجة المتغيرات الأخيرة التي طرأت عليها، وأغلبهم شد الرحال نحو تونس والبعض الدول الأخرى، هرباً من الظروف الصعبة على المستوى الأمني بالتحديد".
ويتابع "تغيّر نمط الحياة الطرابلسية مع تبدل خريطة النفوذ، التي باتت تسيطر فيها وجوه طارئة استفادت من الظروف الأخيرة للصعود في سلم الطبقات. فهناك الآن حكام جدد للمدينة بفضل المال وسطوة السلاح، بعضهم من خارج العاصمة".
ويخلص إلى أن "طرابلس وعلى الرغم من كل الظروف، تبقى عروساً للبحر، مدينة تحتفظ دائماً بجمالها وأسرارها الخاصة، ونمط الحياة الطرابلسية الفريد الذي يشدك إليها في كل حين، مهما تبدلت الظروف".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعادة شيء من الهدوء
وتنفست طرابلس الصعداء قليلاً مع انتخاب السلطات الليبية الجديدة، وتوقف المعارك التي دارت في ضواحيها الجنوبية، أغلب فترات العام الماضي، واستقرار الأوضاع السياسية والأمنية إلى حد ما، التي تتأثر بها العاصمة دائماً أكثر من باقي المدن الليبية.
ويتحدث الصحافي الطرابلسي زياد مستور عن انعكاس حالة الاستقرار النسبي في البلاد على العاصمة، قائلاً "بلا شك توقف الحرب وعودة الاستقرار منحا طرابلس فسحةً من الهدوء لتلتقط أنفاسها، بعد أن عاش سكانها في قلق دائم، نتيجة الظروف الأمنية والصراع السلطوي في السنوات الماضية".
وأضاف "عادت الكثير من العائلات التي نزحت من طرابلس هرباً من الحرب، وبدأت المدينة تنفض أثارها شيئاً فشيء، على أمل أن تستقر الأوضاع نهائياً خصوصاً على الصعيدين الأمني والاقتصادي".
ويشير مستور إلى أن "طرابلس كانت دائماً تتميز بشيئين، نشاطها التجاري شمالاً والزراعي جنوباً، وكلا القطاعين شُلا تماماً في السنوات الأخيرة، مع انعدام السيولة في المصارف التي أضافت أعباءً ثقيلةً على اقتصاد المدينة".
ويقول إن هذه الظروف تبدلت اليوم بشكل نسبي "الزائر لطرابلس اليوم يراها بوضوح تستعيد نشاطها، من شط الهنشير شمالاً، حيث عادت العائلات لارتياد المقاهي الشهيرة على الكورنيش، والمصائف في تاجوراء عامرة بعد سنوات من المعاناة، والشوارع التجارية تستعيد نشاطها، وعادت مزارع طرابلس الشهيرة في الجنوب لإمداد البلاد بما لذ وطاب من الخضروات والفواكه، بعد أن تحولت لمسرح للحروب خلال العامين الماضيين".
وجهة سياحية وتاريخ عريق
وتتميز طرابلس عن باقي المدن الكبيرة في ليبيا، مثل بنغازي ودرنة ومصراتة والزاوية، باحتضانها الكثير من المعالم التاريخية والثقافية، التي تشكل وجهة جذب سياحية كبيرة، تأثرت بظروف البلاد الأمنية في العشرية الأخيرة.
هذه المكانة الثقافية والتاريخية التي تميز طرابلس، دفعت يوماً وزراء الثقافة في دول منظمة المؤتمر الإسلامي لاختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2007.
أشهر المعالم الأثرية والسياحية في العاصمة، المدينة القديمة وهي أحد أبرز أماكن الجذب السياحي في طرابلس، لما تختزنه من تواريخ، بداية من العصر الفنيقي والبيزنطي والروماني وصولاً إلى العهد العثماني، حيث كانت تاريخياً مركزاً للتجارة العابرة للصحراء إلى البحر الأبيض المتوسط عبر مينائها الشهير.
وتمتد هذه الحزمة من المعالم التاريخية من شواطئ طرابلس حيث تقبع السرايا الحمراء، واحدة من أشهر القلاع العثمانية في شمال أفريقيا، وأفضلها حالاً، مروراً بقوس "أورليوس" الذي كان يشكل سابقاً بوابة المدينة وبني في العهد الروماني.
وتتناثر بقية حبات العقد التاريخي الفريد في وسط المدينة، خلف الآثار المطلة على البحر، وتبدأ بجامع الناقة العريق وكاتدرائية طرابلس وبرج الساعة في المدينة القديمة، مروراً بحوش القرمانلي المشيد أواسط القرن الـ18، وسوق الترك وأسواق قديمة وأبراج وجوامع عتيقة وحمامات فريدة، بقيت شاهدة حتى اليوم على المستوى الحضري للمعيشة، الذي كان دائماً العنصر المميز لسكان عروس البحر، أمام طوق من مظاهر الحياة البدوية جنوب العاصمة.
إحياء الدور الثقافي لطرابلس
وتشير الناشطة رحاب الغرياني، إلى أهمية إحياء النشاط السياحي والثقافي في طرابلس، "العاصمة كانت دائماً مركزاً ثقافياً وحضارياً متوسطياً بارزاً، وعلينا كمثقفين أن نحيي دورها هذا، لكي ننسي أهلها سنوات المعاناة التي عاشوها".
وتعتبر الغرياني أن "استعادة طرابلس لدورها الثقافي الحيوي مهم للبلاد بشكل عام، وليس طرابلس فقط، كونها محط الأنظار في ليبيا، وهو ما نعمل عليه حالياً كمؤسسات المجتمع المدني في العاصمة، عبر إطلاق حملات لترميم معالم المدينة وإقامة مناشط ثقافية وفنية كبرى فيها، تعكس تاريخها وجمالها وأهميتها حتى خارج حدود الوطن".