للمرة الثانية في أقل من عشر سنين، تتحول العاصمة الليبية طرابلس إلى مركز رئيس لصراع مسلح على انتزاع السلطة ومركزها في ليبيا. وإذا كانت معركة طرابلس الأولى، إبان ثورة فبراير (شباط) 2011، مرت برداً وسلاماً على سكانها، فإن العملية العسكرية التي أطلقتها القوات المسلحة العربية الليبية، في أبريل (نيسان) الحالي، لتحرير العاصمة من المجموعات المسلحة، التي تسيطر عليها، تبدو مختلفة جداً وأكثر فداحة في التكاليف والثمن.
لماذا طرابلس؟
الدخول إلى طرابلس متشابه في الحالتين المذكورتين في كثير من الأوجه. ففيهما تعد العاصمة المعركة الحاسمة لصراع مسلح بدأ خارجها، لكنه ينتهي في قلب ميدانها الرئيس والأشهر، أي "ميدان الشهداء". فالمُسيطر عليه عسكرياً هو الذي يملك مفاتيح السلطات في ليبيا، المتمركزة في العاصمة، التي تدير عمليات إنتاج وتصدير النفط، كالمؤسسة الوطنية للنفط، والمؤسسات التي تستثمر مداخيله الضخمة، كالمؤسسة الليبية للاستثمار والمصرف الليبي الخارجي.
ويحمّل الليبيون الرئيس السابق معمر القذافي مسؤولية مركزة الدولة ومؤسساتها، على غرار كل الأنظمة الشمولية في العالم. إذ عمد إلى نقل كل المؤسسات السيادية والعامة إليها، بشكل ممنهج، بعد سنوات من استيلائه على السلطة في نهاية سبعينيات القرن الماضي. ويكفي أن نشير إلى نقله مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط من عاصمة الشرق، وثانية أكبر مدن البلاد، مدينة بنغازي، وهي مقر تأسيسهما. وهذا ما جعل السيطرة على طرابلس أمراً لا غنى عنه، لمن أراد تسلم زمام الأمور في ليبيا.
عاصمة ليبيا الحديثة
طرابلس هي عاصمة ليبيا الحديثة، منذ إعلان الاستقلال في العام 1951 على يد الملك إدريس السنوسي، وهي أكبر مدن البلاد وأكثرها كثافة سكانية. إذ يزيد تعداد سكانها عن المليون، وقد أنشئت على رأس صخري مطل على البحر الأبيض المتوسط، مقابل الرأس الجنوبي لجزيرة صقلية. ويتوسط مركز المدينة "ميدان الشهداء" وقلعة السرايا الحمراء التاريخية، التي بنيت في العهد العثماني. وتسمى مدينة طرابلس منذ القدم "عروس البحر المتوسط"، لجمال بساتينها ومبانيها البيضاء.
أنشئت طرابلس على يد الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد، واكتسبت أهمية كبيرة بعدما أصبحت محطة تجارية تربط الشمال الأوروبي بالجنوب الأفريقي. في البداية، سميت باسم أويا، قبل أن يتحول اسمها إلى "تريبولي"، أو المدن الثلاث، وهي أويا وصبراتة ولبدة الكبرى. وقد أُكتشف في طرابلس العديد من الآثار الفينيقية والبونيقية المهمة، التي ترجع إلى عصر نشأتها وعهدها الأول.
العهد الروماني
استولى الرومان على أويا والمدن الثلاث، في بداية العهد الميلادي وشادوا المدينة ببضع منشآت، لم يبق منها حالياً سوى قوس النصر في البلدة القديمة، والمعروف بقوس ماركوس أوريليوس نسبة إلى الإمبراطور الروماني.
في أواخر القرن الأول ميلادي، مُنحت طرابلس درجة المُستعمرة الرومانية في عهد الإمبراطور تراجان، حتى عهد الإمبراطور أنطونيو بيوس في القرن الثاني للميلاد. وظلت على وضعها، مستعمرة تابعة للامبراطورية الرومانية، حتى القرن الخامس للميلاد، قبل أن تخضع لحكم الوندال في القرن الخامس والبيزنطيين في القرن السادس.
خلال غزوات الوندال، دُمرت أسوار لبدة وصبراتة وكان نتيجة ذلك نمو أويا وزيادة أهميتها، بعدما كانت الأقل أهمية بين مدن "تريبوليس" الثلاث.
الفتح الإسلامي
في العام 645 ميلادي، فتح المسلمون طرابلس، خلال حقبة خلافة عمر بن الخطاب. وبقيت المدينة تحت الحكم العربي بين العامين 1146 و1158 عندما استولى عليها النورمان الصقليون. واحتلها الإسبان منذ العام 1510، حتى تسليمها إلى فرسان القديس يوحنا من مالطا في العام، الذين سيطروا عليها حتى العام 1551. إذ استعان الطرابلسيون النازحون إلى شرق المدينة، في المنطقة التي تعرف اليوم باسم تاجوراء، بالعثمانيين للتخلص من الاحتلال المسيحي للمدينة المتمثل بالإسبان وفرسان القديس يوحنا.
صمود طرابلس في وجه غزاة البحر
مع إطلالة القرن الـ 16، شهد البحر الأبيض المتوسط صراعاً بين المسيحيين والمسلمين للسيطرة على المنافذ البحرية والبحر المتوسط، لأهمية ذلك في السيطرة على طرق التجارة البحرية.
وشهدت تلك المرحلة بعض أهم الملاحم في تاريخ طرابلس، حين اتجهت إسبانيا بأسطولها البحري الكبير إلى مهاجمة موانئ شمال أفريقيا، واستولت على بضع مدن مهمة، مثل سبتة وطنجة وتلمسان ووهران وبجاية وطرابلس في العام 1510. ودافع سكان طرابلس عن مدينتهم باستماتة، وهذا ما ذكره الكونت بتر ودي فارو، قائد الحملة الإسبانية على طرابلس، في رسالته إلى نائب صقلية. إذ كتب "لقد كان الطرابلسيون يقاومون مقاومة عنيفة".
ونتيجة اشتداد المقاومة الوطنية، وتزايد خطر العثمانيين فـي البحر، فإن الإسبان تنازلوا عن طرابلس لفرسان القديس يوحنا في العام 1530. لكن هذا القرار لم يرضِ سكان المدينة، الذين استعانوا بالدولة العثمانية القوية، وقتذاك، لطردهم. وهو ما حصل بقيادة القائد العثماني درغوت باشا، الذي تزعم الحملة المكونة من العثمانيين والمقاومة الطرابلسية. وبعد النصر على قوات القديس يوحنا اتخذ درغوت باشا من تاجوراء مقراً للقيادة موقّتاً، وأصبحت طرابلس رسمياً ولاية تابعة للدولة العثمانية، تحت اسم "ولاية طرابلس".
وشهدت طرابلس إزدهاراً كبيراً في بداية العهد العثماني، فأُنشئت الأسواق، التي تركزت في الناحية الشرقية من المدينة القديمة، ولا تزال معالمها حتى اليوم.
وترجع أسباب تمركز هذه الأسواق في هذه الناحية من طرابلس إلى قربها من البحر. إذ إنه منفذ تصريف الإنتاج واستقبال البضائع الآتية من الشمال الأوروبي. كما أن طرابلس كانت قريبة من مصدر السلطة، بعد بناء قلعة السرايا، التي لا تزال حتى اليوم في عداد أهم معالم طرابلس التاريخية، التي صارت مقر الإدارة العثمانية.
العهد القرمانلي
سيطرت الأسرة القرمانلية على مقاليد الأمور في ليبيا مطلع القرن الـ 17. إذ قاد الضابط التركي أحمد باشا القرمانلي ثورة على الوالي العثماني بمساندة شعبية بسبب الفساد الذي استشرى في ولاية طرابلس الغرب. فاستولى على الحكم ووضع حداً للفوضى والفساد، ومنح السلطان العثماني مكرهاً ولاية طرابلس حكماً شبه ذاتي لإدارتها.
ازدهرت ولاية طرابلس في العهد القرمانلي، وصارت ليبيا تملك أسطولاً قوياً مكّنها من أن تتمتع بشخصية دولية وأصبحت تنعم بنوع من الاستقلال. وصارت قوة مهابة في المتوسط، حتى أنها خاضت معارك بحرية مع الولايات المتحدة الأميركية، انتهت بتوقيع معاهدة سلام تلتزم فيها أميركا دفع ضرائب سنوية لباشا طرابلس، مقابل عدم التعرض لسفنها في البحر المتوسط.
وللدلالة على الازدهار الذي عاشته طرابلس في ذلك العهد، يكفي أن نعرف أنها كانت تضم 36 مسجداً و3 حمامات عامة ومدرستين ومستشفى كبيراً وكنيسة وعدداً كبيراً من المباني التاريخية، مثل قصر القرمانلي وقنصليات أوروبية عديدة، كالقنصلية الفرنسية والهولندية والبريطانية وقنصلية جنوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد ذلك وهنت الدولة القرمانلية، وعاد العثمانيون إلى السيطرة على المدينة وإعادة تبعيتها إلى السلطان في إسطنبول، في ما يعرف بالعهد العثماني الثاني.
لاحقاً، وقعت طرابلس تحت الاستعمار الإيطالي، الذي نزل على شواطئها في العام 1911. واعتبر الإيطاليون أن ليبيا هي الشاطئ الرابع لإيطاليا، وحدثت مواجهات عنيفة بين القوات الإيطالية والمقاومة الشعبية المحلية، بالتعاون مع بعض الضباط العثمانيين. ونتيجة لتلك المقاومة، تمكن الليبيون من تحقيق بعض المكاسب، ومن أهمها إعلان الجمهورية الطرابلسية، وهي أول جمهورية عربية في العصر الحديث، في العام 1924. إلا أن الإيطاليين استمروا في السيطرة على المنطقة حتى هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية. إذ بدأ الانتداب البريطاني، الذي انتهى باستقلال البلاد في العام 1951 بقيادة الملك إدريس السنوسي وبقرار من الأمم المتحدة.
في زمن المملكة الليبية المتحدة، ونظراً إلى النظام الاتحادي المتبع آنذاك، كانت طرابلس تتناوب على القيام بدور العاصمة مع بنغازي. وبعد انقلاب القذافي على الملك إدريس، في العام 1969، وطوال سنوات حكمه، التي جاوزت الـ 40 عاماً، أصبحت مهمات العاصمة متمركزة في طرابلس، بما في ذلك مقر قيادات الدولة والوزارات والسفارات، وأهم قطاعات البنية التحتية. وهذا ما جعلها مهوى لأفئدة كل الطامحين إلى السلطة في ليبيا ومركزاً للصراع عليها بعد سقوط نظام القذافي.