تعتمد دبلوماسية تركيا مع الناتو كلياً على علاقتها بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن العلاقات الشخصية على مستوى الرئيسين كانت جيدة خلال عهد دونالد ترمب، إلا أن خط أنقرة وواشنطن كان دائماً متوتراً، وقد تسبب ذلك في تعرض تركيا لتعثرات خطيرة في علاقاتها مع كل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، مما جعلها تبتعد من أهدافها الاستراتيجية السابقة، ودفعت بها إلى السقوط في شباك الكتلة التي تضم روسيا والصين، وبالتالي فإن ابتعاد تركيا من الولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي كان إخفاقاً سياسياً واستراتيجياً وتجارياً.
إن تفكير الرئيس رجب طيب أردوغان في مستقبله الشخصي لم يؤد بالبلاد إلى هذه النقطة وحسب، بل جعلها أيضاً عرضة للابتزاز الدولي، وفي هذه الأجواء التقى الرئيس الأميركي جو بايدن وجهاً لوجه مع أردوغان على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في 14 يونيو (حزيران).
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المقابلة كانت شفهية بالكامل ومن دون محضر كتابي، وهذا يعني أن بايدن منح أردوغان المهلة وفوّض إليه المهمة أيضاً، وفي الوقت نفسه أبلغه الأول رسالة مباشرة واضحة مفادها أنه إذا استثمر هذه المهلة جيداً فإن العلاقات بين البلدين ستستمر على أساس المبادئ وليس الأفراد، وستكون مسألة طائرات "إس-400" التي اشترتها تركيا من روسيا، واستبعادها من مشروع طائرات "إف-35" من قبل الولايات المتحدة، البند الأول على جدول أعمال المحادثات المقبلة.
أعلن أردوغان بعد لقائه الرئيس الأميركي عن رغبة تركيا في التعاون مع المجر وباكستان في ما يتعلق بأمن مطار كابول. وجاء أول بيان واضحاً حول القضية من الطرف الأميركي في 17 يونيو الحالي، عندما قال مستشار الأمن القومي لبايدن، جيك سوليفان "إن بايدن وأردوغان توصلا إلى اتفاق بشأن مطار كابول"، وقد اضطرت تركيا تحت تأثير بايدن إلى قبول المهمة في أفغانستان والرجوع إلى حلف الناتو الذي كانت ابتعدت منه في الماضي القريب، وسيكون لهذا الوضع آثار سلبية خطيرة على شعبية أردوغان في السياسة الداخلية للرئيس، ولكن لا مفر له من ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكنني في هذه المقالة وبدلاً من الخوض في ما يتعلق بالسياسة الداخلية، أود التركيز على أفغانستان، حيث ستتولى تركيا مسؤولية حماية أمن مطارها. وعلى الرغم مما يقرب من عامين من محادثات السلام النشطة في الدوحة، لا تزال الاشتباكات مستمرة. من ناحية أخرى، صرح سهيل شاهين كبير مفاوضي طالبان في بيان أنهم لا يريدون أية قوة أجنبية، بما في ذلك تركيا.
وعندما ننظر إلى خريطة مناطق السيطرة والصراع في أفغانستان، فإنها تُظهر لنا أن البلد الآن أبعد ما يكون من السلام، ولا تزال الجماعات البشتونية والتركية والطاجيكية تؤجج نار الحرب وتعمّق الخلافات في أفغانستان ذات التركيبة السكانية المتعددة، وتؤدي بالبلاد إلى هاوية الانقسام، وإضافة إلى ذلك لا تزال الاشتباكات الكبيرة بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية مستمرة.
والحكومة الأفغانية عالقة في الجزء الأوسط من البلاد، كما أن عدداً من المدن الكبرى، بما في ذلك العاصمة كابول، تحت حصار طالبان التي تسيطر بالفعل على جزء كبير من البلاد.
من ناحية أخرى، يتم تعريف أفغانستان على أنها دولة مختبرية على مدار الـ 40 عاماً الماضية، فقد أصبحت بمثابة مختبر للأشخاص والمؤسسات والدول العاملة في مجال العلاقات الدولية والأمن والدفاع، ومسرحاً للحروب بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، وحقل اختبار لعدد من أشكال الحرب ومكافحة الإرهاب، ومركزاً للتدريب على تقنيات الدفاع والاستخبارات.
أما بالنسبة لمهمة أنقرة التي كانت مشاركة إلى الآن ضمن نطاق الناتو منذ فترة طويلة، فستبدأ بالعمل هناك بتسلم ملف الحفاظ على أمن وتشغيل مطار حامد كرزاي بالعاصمة الأفغانية كابول، وعلى الرغم من احتمال تحول العلاقة بين الجيش التركي الذي سيضطلع بالمهمة مع بلدين آخرين وبين طالبان إلى اشتباك مسلح على المدى القريب والمتوسط، منخفض في الوقت الراهن، إلا أن ذلك لا يعني أنه لن يحصل بتاتاً.
صحيح أن طالبان طلبت انسحاب جميع القوات التابعة للناتو بما في ذلك الجيش التركي، إلا أنه من المعروف منذ فترة طويلة أنه موقفها معتدل تجاه تركيا.
ومما جعل الجيش التركي في أفغانستان بمنأى عن الصراعات أنه لم يضطلع هناك بمهمات القيادة النشطة، بل كانت مهمته منحصرة بدعم قوات الناتو في عمليات التدريب وتجهيز الكوادر، وكانت طالبان أيضاً على علم بهذا الوضع.
وأكبر أخطار تركيا في أفغانستان هو الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه، فإنه إذا تعامل مع الوضع هناك مثل ما تعامل في سوريا وليبيا، فإنه سيصب النار على الزيت مرة أخرى، وهناك نقطة مهمة أخرى ينبغي عدم إغفالها، وهي أنه حتى الآن كان الجنود الأميركيون والبريطانيون هم من يقودون الحركات العملياتية في أفغانستان.
وحتى لو سحبت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قواتهما فإنهما لن تسحبا قوات الأمن الخاصة، لذا فهما لن تغادرا أفغانستان بالكامل، وفي المرحلة المقبلة ستقود تركيا العمليات وستواصل الولايات المتحدة وبريطانيا تقديم كل أنواع الدعم لها، وستبدأ قريبا محادثات مباشرة مع طالبان، وإذا لم تنجح فلربما ستضيف البشتون والطاجيك إلى خانة الأعداء.
وصدقوني، ما زلت لا أفهم ولدي فضول شديد، إذ كيف ستجلب حكومة حزب العدالة والتنمية السلام إلى أفغانستان، في حين أنها لم تتمكن من حل القضية الكردية المستعصية عليها في الداخل منذ زمن طويل، وتتخبط في علاقاتها مع جارتها سوريا منذ سنوات؟