نهار الخميس السابع عشر من يونيو (حزيران)، صوت مجلس النواب الأميركي على إلغاء التفويض الذي منحه في عام 2002 للرئيس الأسبق جورج بوش الابن، الذي مكنه من شن الحرب في العراق عام 2003، وعدد من الحروب السرية تالياً، ضمن حروب الولايات المتحدة الأخيرة ضد الإرهاب.
للمرة الأولى تبدو الولايات المتحدة في حالة تناغم داخلي تجاه إنهاء حروبها المفتوحة خارج أراضيها، فإدارة الرئيس بايدن تخطو خطوات فعلية مع الكونغرس بمجلسيه في هذا الاتجاه، وقد باتت فكرة إرسال جنود أميركيين خارج التراب الوطني، مرفوضة، ولا سيما أن التفويض الذي مضى عليه نحو عقدين قد استخدم مراراً وتكراراً بما يتجاوز القصد الأصلي منه، بما في ذلك حملات لاحقة ضد تنظيم داعش في العراق، وقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
بغالبية ساحقة صوت مجلس النواب الأميركي على إلغاء التفويض، وينتظر الأمر نفسه من مجلس الشيوخ، ويبقى التساؤل المهم: ما قصة الولايات المتحدة الأميركية مع الحروب بشكل عام، وماذا عن التشارع والتنازع بين السلطات التنفيذية والتشريعية حول قضية الحرب، وهل كانت حروب أميركا برمتها خيارات غير عقلانية، أم أن بعضها كان حاجة مصيرية ربما استنقذت العالم من أهوال الجنون البشري؟
هل تأسست أميركا على فكر الحرب؟
يكاد هذا التساؤل يقابل أي باحث في نشأة الولايات المتحدة الأميركية، وأغلب الظن أن أفضل جواب يمكننا أن نجده بشأنه هو ما أشار إليه الكاتب الأميركي "كلايد بريستوويتنر"، في مؤلفه الشهير: "أمة مارقة... الأحادية الأميركية وفشل النوايا الحسنة".
يرى المؤلف أن هذا البلد لم يؤسس فقط في ظل الحرب، لكنه كان، في غالب الأحوال، مرتبطاً على الدوام بالحرب، أو بالاستعداد للحرب، منذ مولده رغم الطبيعة المحبة للسلم عند الشعب الأميركي.
والثابت طبقاً للإحصاءات منذ توقيع الدستور عام 1789، حتى اليوم، فإنه من النادر مرور عام لا تكون الولايات المتحدة فيه مرتبطة بعملية عسكرية ما، عبر البحار، وهذه باعتراف الجميع تشتمل على عدد من المصادمات الصغيرة، وعمليات الحماية والحراسة، غير أنها تصل إجمالاً إلى 235 عملية منها ما يمكن وصفها بأنها حرب كلية شاملة.
على أن نظرة عميقة إلى نشوء وارتقاء الولايات المتحدة، تكشف لنا لماذا تبقى مسألة الحرب بالنسبة إلى الجمهورية الأميركية، كما الدماء بالنسبة إلى الكائن البشري.
لقد كان الأميركيون قبل الحرب الثورية على الإنجليز منهمكين في محاربة الهنود الأميركيين المحليين، ومنذ تأسيس البلاد، حتى إنهاء وضع الحدود، أي مدة مئة عام لاحقة، كان بالكاد يمر عام دون نزاع بين الولايات المتحدة ومختلف القبائل.
كان واحد من واجبات جورج واشنطن الأولى كرئيس هو قمع ثورات الهنود في الشمال الغربي، رغم ما كان يعانيه من اضطراب بسبب ضرورة فعل ذلك.
ولعل صفحات التاريخ الأميركي تؤكد لنا أن أميركا عرفت بالإضافة إلى الحرب الأهلية، وحرب عام 1812 التي عززت استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا نوعين من الاشتباكات مع أعداء أجانب، فخلال القرن التاسع عشر، كانت هنالك حربان كاملتا العدة مع بلدان أجنبية، وعديد من الغزوات والغارات، والمصادمات والمشادات، والتدخلات في أنحاء الكون، ناشئة عن الوعي بالحاجة إلى حماية الأميركيين وتجارتهم، وكان عديد منها بمبادرة من الولايات المتحدة وحققت كلها تقريباً كسباً للبلاد، وقد بدا واضحاً أن أميركا المصممة على أن تكون أحادية قد حاربت دون تحالف مع بلدان أخرى.
أميركا والبدايات... محاولة تفادي الحروب
من المثير أن قصة حروب أميركا لا تختلف عن الشؤون والشجون الأميركية كافة، فهناك دوماً دائرة مفرغة من المتناقضات الثنائية، وتكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة، وربما هذا ما يلفت إليه النظر إيوجين جاريكي، مخرج الأفلام الوثائقية الأميركي الشهير، في كتابه المعنون "الطريقة الأميركية في الحرب... قذائف موجهة، ورجال مضللون، وجمهورية في خطر".
إيوجين يوضح لنا أن أميركا منذ نشأتها تحت الحكم البريطاني سعت إلى تصميم جمهوري يتفادى أخطار القوى الكبرى السالفة، وإلى احتياج النظام الأميركي إلى إبقاء سلطة قيادته التنفيذية (رئاسته) رهن السيطرة عليها من خلال الفصل بين السلطة التنفيذية (الرئيس ووزرائه وإداراتها بما فيها إدارة السياسة الخارجية، وإدارة الجيش والقوات المسلحة، وإدارة الأمن)، والسلطة التشريعية (الكونغرس بمجلسيه للنواب والشيوخ وأعضائهما بارتباطاتهم مع ناخبيهم، والنابعة من بناء متواصل لآلات الحرب متصاعدة التقنية ومرتفعة الأرباح) والسلطة القضائية (وعلى رأسها المحكمة العليا والمحاكم الفدرالية).
وبين نهاية مرحلة بناء الأمة الأميركية الجديدة والحرب الأميركية الإسبانية، ظلت قوة العسكرية الأميركية فيما بين 34 و43 ألف مقاتل في غياب أي عدو طبيعي عن الحدود الشمالية والجنوبية وفي حماية المحيطات. وبين نهاية الحرب الأميركية الإسبانية والحرب العالمية الأولى بلغ عدد القوات الأميركية مئة إلى مئة وخمسة وسبعين ألف مقاتل، وتالياً بلغ العدد بين الحربين العالميتين ما بين مئتين وأربعة وثلاثين ألفاً وثلاثمئة وثمانين ألف جندي... كانت شرارة العسكرة ومن ورائها الحروب قد انطلقت بالفعل.
الدستور الأميركي... كوابح في طريق الحرب
منذ البدايات أدرك الآباء المؤسسون أن النظام الأميركي سيحتاج إلى إبقاء سلطة قيادته رهن السيطرة عليها، وقد لاحظ جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة، أنه: "لو كان الرجال ملائكة ما كانت هناك حاجة إلى حكومة". ونتج عن هذه البصيرة أن تبعها المفهوم الرائع، وهو الفصل بين السلطات، مع وجود أساليب للمراجعة المدققة وللتوازنات فيما بينها، ومن بين هذه الأساليب لم يكن أي منها ما هو أكثر أهمية بالنسبة إلى الآباء المؤسسين من الكوابح التي وضعت على سلطة أي فرد تمكنه من سحب البلاد إلى الحرب، وهكذا فقد كبلوا -عن قصد- سلطة إعلان وخوض الحرب بشبكة معقدة من المسؤوليات المتداخلة بين مختلف الفروع.
تخبرنا مارجوري كون، البروفيسور في كلية توماس جيفرسون للقانون، الرئيسة السابقة لنقابة المحامين الأميركيين، في قراءة لها عبر موقع "كونسورتيوم نيوز"، أن الدستور الأميركي يمنح الكونغرس حصرياً سلطة إعلان الحرب. غير أنه خلال الـ75 سنة الماضية، كان يسمح عملياً بأن يمارس الرؤساء هذه السلطة.
كان واضعو الدستور يدركون تماماً مخاطر وضع سلطة إعلان الحرب بين يدي الرئيس، وعلى هذا الأساس حددوا بصورة واضحة في المادة الأولى منه أن الكونغرس وحده المخول سلطة إعلان الحرب. وتنص على أن "يكون الرئيس قائداً أعلى لجيش وبحرية الولايات المتحدة ولميليشيات مختلف الولايات، عندما يستدعون إلى الخدمة الفعلية"، وهذا يعني أن الرئيس يقود القوات المسلحة فور أن يجيز الكونغرس إعلان وشن الحرب.
ولكن على الرغم من هذه السلطة الدستورية الحصرية، فلم يعلن الكونغرس أي حرب منذ دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية وبعد ذلك، وابتداء من هاري ترومان، كان رؤساء الولايات المتحدة يدفعون بقوات أميركية إلى أعمال حربية عبر العالم من دون انتظار قرار من الكونغرس.
اقرأ المزيد
- "توحيد فيتنام"... قصة أعوام من الكفاح والتحدي
- في ذكراها الـ 50 كيف غيرت حرب فيتنام أميركا ثقافيا وسياسيا وعسكريا؟
- النواب الأميركيون يقرون سحب تفويض شن الحرب من الرئيس
- انتهاء تفويض الرئيس الأميركي بالحرب يقترب فما البدائل؟
- قصة الصحافي الذي كشف حقيقة قنبلة هيروشيما
- العثور على حطام مدمرة أميركية غارقة خلال الحرب العالمية الثانية
- الحرب العالمية الثانية أدخلت البشرية "عصر الجنون"
الآباء المؤسسون... تحذيرات من غير نتيجة
حقاً مثير هو الشأن الأميركي عبر التاريخ، ذلك أنه إذا نظرنا إلى الخلف من نقطة استشراف معاصرة، وإلى زمن الاحتكاك الكبير بين الفروع حول الفصل بين السلطات يصبح جلياً أمامنا شيئان معاً: فمن ناحية نرى كيف تحلى المؤسسون بالقدرة على المعرفة والرؤية المسبقة، ومع ذلك ورغم جهودهم، كيف توالت الأحداث لتحقق أكثر مخاوفهم سوءاً.
في خطابه الوداعي عام 1796 قدم أول رئيس أميركي، جورج واشنطن، عدة مقاطع من التوجيهات التي لا غنى عنها للأجيال التالية. فقد أعلن وهو يحذر ضد "التحالفات الدائمة مع أي جزء من أجزاء العالم الأجنبي" أن "الأبنية العسكرية التي تزايد نموها، كانت مناقضة تماماً للحريات الجمهورية، وكانت فكرة واشنطن بسيطة، فإذا بقيت أميركا خالية من الحروب الداخلية التي قامت تاريخياً بين الشعوب الأوروبية، فإنها بذلك ستواجه ـإلى حد أقل بكثير- الضغوط الداعية للتوجه إلى الحرب، وتجشمها مشقة سداد تكلفتها السياسية والاقتصادية والروحية الماثلة.
على أنه بعد مرور ما يقرب من قرنين، وفي 17 يناير (كانون الثاني) 1961، فإن رئيساً آخر، سيردد ما سبق أن ذكره واشنطن من قبل في خطابه الوداعي.
كان الجنرال آيزنهاور قد خلع بزته العسكرية، بعدما قاد جيوش الحلفاء للنصر المبين على النازية، ومع ذلك فقد جاء في خطابه: "إننا قد أجبرنا على خلق صناعة تسلح دائمة بالغة الاتساع". ومضى في تحذيره المشهور قائلاً: "يجب أن تتحسب أميركا ضد حيازة المجمع العسكري - الصناعي لنفوذ لا تفويض به أو مبرر له".
أصبح تحذير آيزنهاور ضد المجمع العسكري الصناعي، واختصاره الذي عرف به فيما بعد هو "م.ع.ص"، حجر الأساس في التاريخ الأميركي. وقد شعر آيزنهاور من خبرته المبدئية أنه كان مجبراً على تحذير الأمة حول أنه -في مطلع الحرب العالمية الثانية- وفي وسط جهودها للقتال في الحرب الباردة، كانت المصالح الحربية والصناعية والسياسية تشكل حلفاً غير مقدس، أخذ يشوه أولويات الولايات المتحدة الأميركية القومية، ويدفعها في طريق الحروب الأبدية، وبعيداً عن مفهوم الحروب المحدودة.
الأميركيون بين حربين... محدودة وأبدية
عبر قراءة معمقة لتجارب الولايات المتحدة الأميركية العسكرية، يتضح لنا أن هناك وبصورة شبه دائمة، ما يشبه الفخ الذي تقع فيه واشنطن عادة، ذلك أنه فيما تسعى نحو عملية عسكرية محدودة بصورة أو بأخرى، تغرق قدماها في وحل الأزمات، ليتحول الأمر، ولو بصورة مجازية، إلى حرب أبدية، ومن أمثلة ذلك ما جرى للقوات المسلحة الأميركية في فيتنام أواخر العقد السادس من القرن العشرين، وما عاشته حتى الآن في أفغانستان.
هل السبب في تحول الحروب الأميركية المحدودة إلى حروب أبدية، هو عدم وضوح الأهداف بشكل كافٍ في أذهان الجنرالات الأميركيين قبل الإقدام على الدخول في أي عملية عسكرية، سواء كانت قصيرة المدى أو بعيدة المدى؟
أحد العقول الأميركية العسكرية التي قدمت تبريراً شبه مقبول لهذه الإشكالية، المؤرخ العسكري دونالد ستوكر، البروفيسور في كلية الدراسات العليا للبحرية الأميركية، وصاحب عدة مؤلفات عن التاريخ والنظريات العسكرية.
ستوكر يبدو وكأنه يلقي باللائمة على مسألة تدافع الأحداث على أرض الواقع، وعنده أن طبيعة الحرب هي من يحدد مصيرها، ويدلل على نظريته بما حدث في فيتنام، فقد سعت الولايات المتحدة في البداية إلى تحقيق هدف محدود ضد فيتنام الشمالية، وهو الحفاظ على استقرار النظام الفيتنامي الجنوبي. بينما سعى الفيتناميون الشماليون إلى تحقيق هدف سياسي غير محدود ضد الجنوب، وهو إطاحة نظامهم، لكنهم سعوا إلى هدف محدود ضد الولايات المتحدة، وهو طردهم من أراضي فيتنام الجنوبية.
ما الذي يعنيه هذا التطور؟
باختصار غير مخل يعني أن الأهداف في الحرب الواحدة قد تتغير مع مرور الوقت، وعليه تتدحرج العملية العسكرية المحدودة إلى مستنقع كبير شامل.
وبالقياس إلى رؤية ستوكر، المتقدمة، يمكننا أن نتناول الشأن الأفغاني المعاصر، فقد ذهبت أميركا إلى هناك بهدف مرحلي، وهو إنهاء وجود طالبان سياسياً، والقضاء على حضورها عسكرياً، عطفاً على تفكيك وتفتيت تنظيم القاعدة، لكن الأهداف تطورت لاحقاً، إذ تكشف لواشنطن حتمية دعمها نشوء وارتقاء عملية سياسية تكفل ديمقراطية سليمة للأفغان، ومحاربة الإرهاب الذي تجذر هناك.
لم يكن اليوم التالي لسقوط طالبان، على حد تعبير كاتب العولمة الأشهر، توماس فريدمان، واضحاً في أعين الأميركيين، فقد أخذتهم الحمية ودفعهم الحماس مرة واحدة إلى قلب كابول، وتورا بورا، وقندهار، لتدوم الحرب عشرين سنة.
الأمر نفسه ينطبق على العراق، وها هي ذي الولايات المتحدة غير قادرة على الانسحاب مرة وإلى الأبد، ومن جهة ثانية غير راغبة في البقاء من جراء الأكلاف التي تطولها، بشراً وحجراً، لتبقى الدائرة مفرغة، من حرب محدودة إلى حرب أبدية.
ديمقراطيون وجمهوريون... سواء في الحروب
تساؤل يطرح ذاته بذاته على مائدة النقاش: هل اختلفت شهية الرؤساء الأميركيين بالنسبة إلى الدخول في المعارك، سواء المحدودة أو الأبدية، تبعاً لتوجهات الرئيس الحزبية، وبمعنى آخر، هل مال الرؤساء الجمهوريون إلى الحرب أكثر من نظرائهم الديمقراطيين، أم أن الأخيرين هم من كانت شهيتهم مفتوحة أكثر للمواجهات المسلحة؟
قال أحدهم ذات مرة، إن كل رئيس أميركي مجبول على أن تكون له حربه الخاصة، التي يظهر فيها فحولته السياسية والعسكرية دفعة واحدة.
قد لا يكون القول بالمطلق جائز، لكن يمكن أن ينسحب الأمر على مسألة العلاقة بين التوجه الحزبي والرئاسة، إذ من المؤكد أن رؤساء أميركا لهم شهية مفتوحة على الحرب، سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين.
على سبيل المثال وليس الحصر، فإننا نجد رابع رئيس لأميركا، الديمقراطي جيمس ماديسون، صاحب أكبر حرب شنتها الحكومة الأميركية ضد بريطانيا في الفترة من 1812 وحتى 1815.
وفي زمن الحرب الأهلية، كان أبراهام لنكولن، الجمهوري، هو رجل أميركا الذي قاد الحرب ضد الانفصاليين، وهو من كفل للولايات المتحدة البقاء على وحدتها بعد أن حاولت ولايات الجنوب الانفصال.
هناك كذلك ريتشارد نيكسون، الجمهوري الذي كلفته فضيحة ووترغيت منصبه الرئاسي، حيث امتدت حرب فيتنام أو مستنقعها على أدق تعبير على سنوات ولايته، بعد أن تركها له جونسون.
ولعل أحدث فخاخ الحروب الأميركية الأبدية، هي تلك التي خلفها الجمهوري جورج بوش الابن، بدءاً من عام 2001، والتي استمرت حتى نهاية ولايته.
ومع ذلك فإن نظرة عميقة إلى حروب أميركا المعاصرة والقديمة،
تقودنا إلى القول إن الحروب الكبرى والأكثر دموية التي خاضتها الولايات المتحدة، هي حروب من رؤساء ديمقراطيين، مثل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام.
الحرب العالمية الثانية... توجهات أميركا الأخلاقية
على أن الحديث عن الحروب الأميركية يتقاطع مع تساؤل جدير بالتوقف أمامه: هل كانت حروب أميركا برمتها عدائية الطابع والتوجه، أم أن البعض منها كانت له وجاهته الأخلاقية ومبرراته الإنسانية؟
يقتضي الأمر بحثاً مطولاً للوقوف على أبعاد الجواب، غير أنه يعنّ لنا أن نتوقف عند الحرب العالمية الثانية والدور الأميركي خلالها.
قبل عام 1942 كانت الجماهير الأميركية رافضة تماماً الدخول في الحرب العالمية الثانية، فقد رسخ لديها أنه تم توريطها في الحرب العالمية الأولى، وأنهم قد أدخلوا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
على أن هناك محفزات دفعت الأميركيين إلى تغيير توجهاتهم بعدما تولى روزفلت الرئاسة للفترة الثالثة في 7 ديسمبر (كانون الأول) 1941، وفي المقدمة من ذلك الاعتداء الياباني على ميناء بيرل هاربور، والخسائر التي لحقت بجنود البحرية الأميركية.
في ذلك الوقت تكشف للأميركيين أن الوقوف من غير حراك، عاقدين الأذرع على الصدور، أمر لا يستقيم في مواجهة التوتاليتارية الفاشية لدول المحور، حيث المثلث الياباني، الإيطالي، الألماني، بدا كأنه ماضٍ قدماً لترويع الديمقراطيات، وأسر الحريات، وتعطيل مسار العالم الليبرالي.
قام روزفلت في ذلك الوقت بمناورة سياسية في غاية البراعة، حيث قال للأميركيين إن الإنجليز والفرنسيين هم أصدقاؤنا وهم على نفس مذهبنا في الإيمان بالحرية وبممارسة النظام الديمقراطي.
انطلق الأميركيون في تلك الحرب من مقدرات أخلاقية، رأوا فيها أن أصدقاءهم يمرون بمحنة عصيبة، وبيتهم يحترق فوق رؤوسهم، وغير قادرين على إطفاء الحريق بأنفسهم...
كانت أميركا المثالية تسارع لاستنقاذ العالم الأوروبي من الوقوع في براثن التطرف الفكري الذي أذاق القارة العجوز والعالم كثيراً من الآلام والأوجاع.
نهاية الحروب... الشعب يوافق والجيش يرفض
تبدو إشكالية مواجهة الحروب الأميركية الأبدية، مرشحة لأن تضحى نقطة خلافية جديدة بدورها، ضمن ملفات عديدة تجعل الولايات المتحدة في طريق التشظي إلى أبعد حد ومد... لماذا وكيف؟
في استطلاع أجرته شركة "يوغوف" لاستطلاعات الرأي أخيراً، أيد 66 في المئة من عامة المواطنين الأميركيين خطة بايدن لإعادة القوات الأميركية إلى الوطن من أفغانستان بحلول سبتمبر (أيلول) المقبل، بينما عارض 14 في المئة فقط الانسحاب، وتعكس هذه النتيجة رأي أولئك الذين يعرفون الحرب أكثر من غيرهم، وهم قدامى المحاربين الأميركيين، ويؤيد 68 في المئة من قدامى المحاربين الانسحاب فيما يعارضه 19 في المئة منهم فقط.
فهل سئم الأميركيون من الحروب الأبدية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك على الصعيد الشعبي، لكن تقريراً لمجلة "فورين بوليسي"، نشر أخيراً يبين أن هناك معارضة واضحة من مسؤولي الجيش والمخابرات.
هل سبب المعارضة الخوف بالفعل من أن يكون الانسحاب قبل أوانه، وما يمكن أن يترتب عليه ذلك من خسائر؟ أم أن الوازع الحقيقي هو ما أشار إليه جورج واشنطن، ودوايت آيزنهاور من قبل؟
مهما يكن من شأن الجواب فإن مجلس الشيوخ عما قريب سيضع خطاً أحمر جديداً في طريق حروب أميركا الأبدية، سواء بالموافقة أو الرفض على المشروع الذي وافق عليه مجلس النواب.