نال الموسيقار اللبناني الفرنسي العالمي غبريال يارد جائزة فخرية تحمل اسم ميشال لوغران، أيقونة الموسيقى الفرنسية، الذي غادرنا قبل عامين. وُزِّعت الجوائز في مقر لوغران الواقع في منطقة لا موت، حيث القلعة التي عاش فيها السنوات الـ12 الأخيرة من حياته. الممثّلة ماشا ميريل، زوجة الموسيقي الراحل هي التي نظّمت هذا الحدث في نوع من لفتة تكريمية لذكرى زوجها. "لا توجد جائزة مشابهة لمؤلفي الموسيقى، وهذا أمر غريب"، قالت لإحدى الإذاعات، موضحةً بأن هذه كانت إحدى أمنيات زوجها قبل وفاته عن 87 عاماً. الحفل حضره عدد محدود من المدعوين وبُث على الإنترنت بسبب الإجراءات الوقائية الخاصة بكورونا.
غبريال يارد هو اليوم ثروة وطنية اعترف به الغرب وكرمه مراراً. ولطالما كان مصدر فخر لمواطنيه اللبنانيين الذين ينتظرون دائماً اعتراف الخارج كي يكرم أبناءهم. هذا الناسك السبعيني الذي كرّس حياته للموسيقى، صاحب موهبة استثنائية، توجّه إلى الغرب فأضحى فيه من كبار المؤلفين الموسيقيين. هل كان سيصير إلى ما هو عليه لو لم يغادر بلاده قبيل انطلاق الحرب الأهلية؟ سؤال لطالما طرحناه في سرنا ولا نعلم إجابة له، ولو أنه يحلو للبعض الرد بالنفي. فهو ترك العالم العربي مغموراً لا يملك سوى طموحه، بعدما اشتغل على نفسه ليتعلّم الموسيقى الكلاسيكية وتاريخها وإرثها وصداها في الوجدان الإنساني. نيتشه قال: "الحياة بلا موسيقى غلطة، إرهاق، منفى".
الجائزة التي أُسنِدت إلى يارد تغدو مناسبة للعودة إلى سيرته، لكن يجب ألا ننسى أنها ليست الأولى التي ينالها، فهو سبق أن فاز بـ"أوسكار" أفضل موسيقى تصويرية عن "المريض الإنجليزي" لأنتوني مينغيللا (بالإضافة إلى عديد من الجوائز الأخرى منها "السيزار"). فاز بـ"أوسكار" في عام 1997، ما أدخله نادي العرب القلائل الذين ظفروا بها، علماً بأن كثيراً من المقالات عندما تعدد المرشحين العرب لـ"أوسكار" والفائزين بها، تنسى على نحو معيب ذكر اسمه.
الذهاب والإياب
يارد يعيش ويعمل في فرنسا منذ سنوات. على الرغم من أصوله العربية، فهو عشق الموسيقى الغربية منذ صباه، ولا مبالغة في القول بأنه ابنها بالتبني. كلّ إنجازه يؤكد ذلك. هو أثبت عبر تجربته المديدة بأنه مزيج من ثقافات، يحمل تأثيرات من الغرب والشرق. علاقته بجذوره فيها إشكاليات كبيرة تبدأ مع الحبّ ـ الكراهية تجاهها وتنتهي عند الذهاب والإياب بين النكران والاعتراف. في إحدى المقابلات كان يقول إنه كره أم كلثوم في شبابه، قبل أن يعود ويتصالح معها.
ذاع صيته من خلال الموسيقى التصويرية التي وضعها لأفلام سينمائيين بارزين من مثل جان جاك بينيكس ومارون بغدادي وكوستا غافراس ويوسف شاهين، خصوصاً جان لوك غودار، الذي أعطاه فرصة كي يؤلف موسيقى فيلمه "أنقذ ما استطعت (الحياة)" قبل أكثر من أربعين عاماً، عندما كان لا يزال في الثلاثين من عمره. في سجلّه أفلام مهمّة ومتنوعة: "كاميّ كلوديل" و"37.2 صباحاً" و"القمر في الساقية" و"العشيق" و"سفر موفق" و"الجبل الجليد" و"تاتي دانييل" و"السفينة والطوفان" و"الامتلاك" و"السيد ريبلاي الموهوب" و"أجنحة الشجاعة" وغيرها.
في سيرته محطة برازيلية (مطلع السبعينيات) كُتب لها النجاح، لكن رغم التأثير الكبير الذي تركه هذا البلد في وجدانه، فلم يمكث فيه طويلاً. حاجته إلى فرنسا أعادته إليها، ليكرس سنوات من عمره ملحناً أغاني لكبار الفنّانين: جاك دوترون، وفرنسواز هاردي، وشارل أزنافور، وميراي ماتيو، وعديد من نجوم الغناء الفرنسي. في هذه الفترة الغزيرة إنتاجاً، ألّف ما يقارب الـ3000 مقطوعة موسيقية. كانت هذه مرحلة حاسمة بالنسبة إلى المؤلف ومستقبله المهني.
تعاونه مع المخرج البريطاني أنتوني مينغيللا تاريخي. ألّف موسيقى كلّ أفلامه تقريباً. موت مينغيللا الباكر (عن 54 عاماً) أنهى هذا التعاون الذي يُعد واحداً من أشهر العلاقات بين سينمائي وموسيقي. ظلّ يارد وفياً لذكرى السينمائي الذي كان له يد في فوزه بـ"أوسكار". فعندما عزف في مهرجانات بعلبك ذات صيف بعد رحيل مينغيللا، خصص فقرة تحية إلى صديقه. يومها عُرض ذلك المشهد الشهير من "المريض الإنجليزي"، حيث كانت جولييت بينوش تتأرجح على الحبال وفي يدها مشعل أضاءت به الجداريات. لم تكتفِ بينوش بأن تتصدر الشاشة فحسب، بل كانت بين الحضور، بطلب من يارد، لإحياء ذكرى مخرج لم يسعفه الوقت لقول كلّ ما لديه سينمائياً. قالت بينوش: "أتيتُ إلى هذا الحدث الكبير بطلب ملح من غبريال. قال لي: تعالي، تعالي، وكنت في صدد تصوير فيلم في توسكانا. جئتُ لنحيي معاً ذكرى أنتوني. موسيقى غبريال نابعة من الصمت. شيء ما في داخلي يتحرك عندما أسمعها".
الموسيقى والسيناريو
يقول يارد إنه في حقبة السينما الصامتة استُخدمت الموسيقى لتغطية الضجيج الصادر من آلة العرض. ثم مع الزمن، أصبحت الموسيقى نوعاً من الدليل للمشاعر لما يجري على الشاشة. لكن هو لا يفهم تلك الوظيفة قط، بل يعتبر الموسيقى تمهيداً للصورة. الصورة في نظره تفيد من الموسيقى في طريقة بدائية جداً، ذلك أن دورها يقتصر على تشديد الانفعالات والمشاعر ولحظات التوتر. ليس هكذا يرى دور الموسيقى في الأفلام. بسعادة واعتزاز يروي أنه كان دائماً يشترط التصرّف كمؤلف موسيقي يضع ألحانه كما يرغب. لا يحبذ العمل على الصورة، بل العمل قبلها، للاقتران بها أفضل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المعروف أن يارد ليس عاشقاً للسينما، لا يتردد إلى الصالات بانتظام. يعترف بذلك قائلاً إن لديه انطباعاً بأنه يخدم الموسيقى لا السينما، وحين يخدم الموسيقى فهو يساعد السينما. وإذا لم يكن مشاهداً نهماً، فليس لكونه يكره السينما بل لأنه عصامي في الأساس، يركّز كلّ طاقته على تعلّم الموسيقى، وهذا أبعده عن كلّ شيء. ينبغي التذكير أنه يضع موسيقاه انطلاقاً من السيناريو ومن المناقشات مع المخرج. لا ينطلق البتة من النسخة الأولى للفيلم، وذلك لسبب بسيط يشرحه في إحدى المقابلات: "صعبٌ عليَّ تلقي الإلهام من صورة تمر في سرعة 24 أو 25 صورة في الثانية. الصورة عندي هي نهاية فكرة، خاتمة مشروع. ليست مرحلة، بل هي مثل شيء ميت. صورة موجودة لا تثير فيَّ المخيلة بقدر الأشياء غير الموجودة. وهذا طبيعي. الفنّان يتغذى من الأشياء الأثيرية وغير المحسوسة، بقدر ما تكون الأشياء محددة تخاطبني أقل".
يعترف يارد أن موسيقاه مبنية على انطباعاته الداخلية. تأتيه كنتيجة حتمية لما عاشه ويستمر في عيشه. ما هو أكيد في نظره أن ألحانه ليست باردة. "لستُ سويدياً" يقول. لجذوره الشرقية علاقة في ذلك. في المقابل، عندما يُقال له "أنتَ لستَ لبنانياً"، يرد: "اسمعوا موسيقاي. إني هجين كبير. ولدتُ هنا وكنّا مغزوّين، مختلطين. كلّ ذلك في داخلي. رغبات العالم في داخلي".