شارك صديقي الراحل (الصحافي والكاتب) كريستوفر هيتشنز في مناظرة تلفزيونية أجريت في الأشهر التي سبقت حرب الخليج الأولى، وهزم فيها الممثل تشارلتون هيستون الذي كان يؤيد بشدة شن غارات على العراق، هزيمة منكرة. في هذا السياق، طلب هيتشنز من الممثل أن يُسمي الدول التي تشترك بحدود مع العراق، على أن يعددها حسب مواقعها من اليسار إلى اليمين باتجاه عقارب الساعة، فجاء الجواب " الكويت والبحرين و تركيا و روسيا وإيران"، وهو رد لا بد أن يكون قد فاجأ الروس والبحرينيين بشدة.
وهنا علّق هيشنز وهو يسدد الضربة القاضية إلى خصمه: "إذا كنت ستقصف دولة ما، فقد تستطيع على الأقل أن تتكبد مشقة مجاملتها بالتعرف على موقعها." من جهته، حاول الممثل من دون جدوى الدفاع عن مصداقيته معتبراً أنه قد تعرض إلى الإهانة ، الأمر الذي حمل صديقي على توجيه لكمة أخيرة لخصمه قائلاً له: "لا تفقد رشدك".
أثار هذا التراشق في تلك الفترة موجة من السخرية من هيستون. وقد تذكرت تلك المواجهة في الأسبوع الحالي في الوقت الذي ناقش فيه سياسيون وضباط متقاعدون و صحافيون وكتاب مختارون موضوع إرسال بريطانيا المدمرة "إتش إم إس ديفندر"، وهي حديثة من نوع 45، للإبحار قريباً من ساحل شبه جزيرة القرم. وكانت الغاية من ذلك هي إثبات عدم اعتراف لندن بضم روسيا شبه الجزيرة تلك إليها في العام 2014. وتساءلت وأنا أتابع ذلك النقاش كم واحداً من هؤلاء الخبراء المفترضين يستطيع أن ينجح فعلاً في ما يمكن تسميته بـ" امتحان هيستون" ويعدّد الدول التي لها شواطئ على البحر الأسود.
وليس غريباً أبداً في أن الروس قد رأوا أن رحلة المدمرة "إتش إم إس ديفندر" كانت استفزازية بشكل متعمد، وذلك لأنها أبحرت من بريطانيا التي تقع على بعد 6000 ميلاً (9656 كيلو متر) عن تلك المنطقة، قبل أن تمضي في رحلة ثانية من ميناء أوديسا إلى جورجيا. ويوحي وجود صحافيين على متن المدمرة بأن بريطانيا كانت حريصة على نشر أخبار موقفها العسكري "الميال للحرب" في العالم كله.
تعتبر الحكومة البريطانية أن إرسال سفينة حربية إلى منطقة قريبة للغاية من شبه جزيرة القرم هو عمل تضامني مع أوكرانيا، وبادرة للتأكيد على أن ضم روسيا لها هو إجراء لا يحظى باعتراف العالم. تُعد هذه حوافز معقولة، لكن لن تتخلى روسيا عن جزيرة القرم إلا إذا أُخرجت منها بعد هزيمتها في حرب مع الولايات أو حلف الناتو. لا يعني هذا أن من الضروري الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم، لكن استعمال سفينة حربية لاتخاذ موقف دبلوماسي ينطوي على مجازفة من الممكن تجنبها.
وقد أظهرت المواجهة التي تمت على نحو يغلب عليه التشوش والفوضى بالقرب من شواطئ شبه جزيرة القرم، نوعاً من التهور الخطير في صميم السياسة البريطانية، بدلا من أن تبرهن على تجدّد قوة بريطانية وحيويتها. لم يكن ما قامت به الحكومة مجرد خدعة، بل هو خدعة مكشوفة يصعب تمويهها. ولذلك فهي لا تخيف الخصم بقدر ما تدعوه إلى السعي لفضح حقيقتها كخدعة. هكذا يستطيع الروس حالياً أن يهددوا بمهاجمة أي سفينة حربية بريطانية تقوم برحلة مماثلة على خطى المدمرة "إتش إم إس ديفندر"، ويطمئنوا إلى أن رحلة كهذه لن تُنظم مرة أخرى. ويكمن الخطر في صعوبة خفض درجة سخونة هذا الخطاب، في حال تمت هذه الرحلة التي يُستبعد إجراؤها على أية حال.
وستلتحق المدمرة "إتش إم إس ديفندر" الآن بمجموعة هجومية تقودها حاملة الطائرات الجديدة "إتش إم إس كوين إليزابيث" في رحلة تقوم بها وهي ترفع العلم البريطاني إلى بحر الصين الجنوبي حيث تبسط الصين سيطرتها. وإذا كان من المستبعد حصول صدام عسكري فعلي هناك فإن ثمة خطر دائم في أن عرض العضلات، ولاسيما حين يكون صاحبها أضعف ممن يحاول إخافتهم بها، لن يردع الطرف الآخر، بل سيحمله إلى الانتقام.
يعمد بوريس جونسون إلى "التحدث بصوت عال وحمل عصا صغيرة" وذلك في نهج معاكس لما جاء في الصيغة التي اقترحها الرئيس الأميركي الأسبق ثيودور روزفلت. وستؤدي هذه السياسة إلى كارثة مالم يتحلَ العدو المحتمل بالقدرة على ضبط النفس ويقرر عدم استعمال قوته العسكرية الضاربة ضد خصم أضعف منه بكثير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تزخر حالة أوكرانيا وروسيا بالمخاطر المتنوعة. وقد يوحي الكثير من الكلام الصاخب حول حماية أوكرانيا للبعض في كييف بأن الولايات المتحدة وحلف الناتو وبريطانيا مستعدة كلها لخوض حرب ضد روسيا دفاعاً عنهم، على الرغم من أن كل ما حصل منذ ضمّ شبه جزيرة القرم في عام 2014 وحتى الآن يدل على أن هذه الدول غير مستعدة للدخول في حرب من هذا النوع. في غضون ذلك، إن استعمال الزوارق الحربية لاتخاذ مواقف دبلوماسية، على طريقة الأسلوب التقليدي الذي يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، يزيد من خطر وقوع صدام غير متوقع أو رد فعل عسكري مبالغ فيه. والواقع أن طرفي الخلاف، روسيا وبريطانيا، في هذه الحالة مرشحين للتصرف بعنجهية نابعة من إحساس كل منهما بأنه أقوى مما هو عليه في الحقيقة، وذلك لأن كلاً منهما كانت تتزعم إمبراطورية كبيرة حتى الماضي القريب. ولئن انحسر نفوذ الدولتين السياسي والاقتصادي، فإن زعيم كل منهما يحب أن يستغل ورقة القومية ولا يستطيع أن يتحمل الإهانة.
قد تطوى صفحة المواجهة القصيرة بين بريطانيا وروسيا قرب سواحل شبه جزيرة القرم وقد تتحول تلك المناوشة إلى مجرد حاشية ثانوية يكاد التاريخ لايذكرها، غير أنها تلقي الضوء على نماذج مقلقة لسلوك الحكومة البريطانية في البلاد وخارجها. ففي الحالتين تبدو الهوة واسعة بين الادعاءات من جهة والحقيقة من جهة ثانية، وذلك كما يتجلى في الخلاف حول برتوكول أيرلندا الشمالية.
كان من المفترض أن يعزّز الـ"بريكست" قدرة بريطانيا على التحكم بمستقبلها، وقد استعادت إلى حد ما حرية التصرف في هذا المجال. ويتجلى ذلك في أكثر صوره إيجابية في تطوير اللقاح المضاد لكوفيد 19 وتوزيعه. لكن بعيداً عن ذلك، تدفع الدولة البريطانية ثمناً باهظاً من حيث خسارة القوة السياسية الأساسية بسبب المشاحنات مع الاتحاد الأوروبي وجرّاء تفكك المملكة المتحدة.
وتتمثل المفارقة التي تنطوي على أعلى قدر من السخرية في توقيع جونسون، وهو زعيم حركة ترمي إلى استعادة السيادة البريطانية، اتفاقية تمر بموجبها حدود دولية ضمن المملكة المتحدة (لتفصل أحد أجزاء البلاد عن بقية أراضيها). ومن الصعب أن يفكر المرء بالتخلي عن السيادة الوطنية بشكل أكبر مما يشتمل عليه التصرف. لا عجب إذن أن الوحدويين الديمقراطيين في أيرلندا الشمالية يشعرون بالهلع من البروتوكول.
يطيب لجونسون وحكومته أنهم يخوضون مماحكات ومشاحنات لاتنتهي مع الاتحاد الأوروبي، ما يسمح لهم أن يواصلوا العزف على الوتر الوطني، وإلقاء اللوم في كل شيء على بروكسيل. ولا يمكن لرئيس الوزراء وحكومته أن يتحملا تفاقم هذا الصراع إلى درجة يصبح معها خطيراً حقاً، لأن وضعاً كهذا سيكشف عن أن الاتحاد الأوروبي يمسك بكل الأوراق المهمة، وذلك كما أظهرت قصة الـ"بريكست" المطولة. هكذا ستتحقق أفضل النتائج بشأن الخلاف حول البروتوكول الأيرلندي من وجهة النظر البريطانية إذا خلُص الاتحاد الأوروبي إلى أن النصر الحاسم ليس في مصلحته.
لقد صارت بريطانيا في غضون السنوات الخمس الماضية دولة أضعف منها في الماضي، في حين تواصل الادعاء بأنها دولة أقوى مما هي عليه. وسيبقى التوتر بين الواقع الحقيقي والمتخيل في صميم السياسات البريطانية المطبقة من بلفاست إلى سيفاستوبول وبحر الصين الجنوبي على الرغم من كل الجهود التي تُبذل لإظهارها بمظهر مخالف تماماً لذلك.
لقد وسّع جونسون الفجوة بين المكانة الحقيقية لبريطانيا وموقعها المزعوم في العالم. لكنه في ذلك كان يتبع توجهات سابقة. وأنا قمت كمراسل صحافي بتغطية الحروب في العراق وأفغانستان و ليبيا وسورية على امتداد ما يزيد على 20 عاماً، ولم تكن الحكومة البريطانية تُدرك في أي من هذه الحروب أي مستنقع كانت تورط نفسها فيه. وكان جلّ هدف بريطانيا في هذه المناسبات كافة، هذا إذا كان لها أي هدف على الإطلاق، هو أن تثبت للأميركيين انها حليف كفؤ جدير بثقتهم.
كنت أرجّح بنسبة خمسين بالمئة أن تكون هناك استراتيجية بريطانية يجري التكتم عليها، وأنني فشلت في اكتشافها. غير أن التحقيقات الرسمية التي أجريت في أعقاب بعض هذه الحروب كشفت عن درجة استثنائية من الجهل من جانب السياسيين الذين أصدروا الأوامر بتدخل بريطانيا. ومن المستبعد أن يشعر الممثل تشارلز هيستون بالحرج في صحبتهم.
© The Independent