للمرة الثانية عقد مؤتمر للتحالف الدولي لمحاربة "داعش"، والذي تبلور عام 2019، بعضوية 83 دولة، على مستوى وزراء الخارجية للدول الأعضاء، وبحضور الجامعة العربية. والتأم المؤتمر في روما الإثنين المنصرم، وبحث مسألة إعادة تموضع "داعش" في أفريقيا، وما يمثله ذلك من تحديات للمصالح الأوروبية. واتجه الجدل بشأن هذه المسألة إلى تكوين قوة أفريقية مدعومة دولياً لمحاربة تنظيم "داعش" في أفريقيا الذي استطاع أن يغتال أبو بكر شياكاو، زعيم جماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، وتوسع في موزمبيق إلى حد احتلال بلدة بالما لأيام عدة في مارس (آذار) الماضي. كما شهد "داعش" انتعاشاً من خلال شبكته الموزعة في كل أنحاء أفريقيا، وذلك بفضل وجود خلايا له كانت خاملة في نيجيريا ومالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ويطرح الاستنفار الدولي لمحاربة "داعش" في أفريقيا، أسئلة حول أسباب نجاح التنظيم في إعادة تموضعه وانتقاله بسلاسة من بلاد الشام إلى أفريقيا، وما هو مدى النجاح الدولي المتوقع في إنهاء التنظيم الإرهابي الذي يثبت يوماً بعد يوم كفاءةً في التمدد وإعادة التموضع. وأخيراً، هل من شروط محلية لا بد أن تتوافر لمواجهة تصاعد التهديدات الأمنية في أفريقيا خصوصاً من "القاعدة" و"داعش" اللذين يتنافسان ويتحاربان حالياً في أكثر من موضع على الخريطة الأفريقية.
لماذا ظهر داعش في أفريقيا؟
إلى جانب عوامل متعددة مرتبطة بقدرات "داعش" على استغلال الفجوات الأمنية الناتجة من ضعف غالبية الجيوش الأفريقية، فإن ضعف الاحترافية العسكرية لهذه الجيوش، خصوصاً في دول جنوب الصحراء، يُعدّ عاملاً رئيساً في نجاح التنظيم وقدرته على الانتشار وإعادة التموضع.
وطبقاً للمحددات العالمية عسكرياً، تفتقد الجيوش الأفريقية الاحترافية العسكرية، إذ تعتمد على المعطيات، منها مستوى الملاءة المالية للدولة، ووجود إرادة سياسية لتطوير الجيوش مؤسَسة على إجماع وطني بشأن طبيعة الأدوار الوظيفية لجيش قوي في حماية الدولة وتأمين مصالحها على المستويَين الإقليمي والدولي.
هذه المعادلة قد تكون مفتقدة في دول أفريقية عدة، ذلك أن ضعف القدرة التشغيلية لدى جيوش أفريقية عدة يجعلها غير قادرة على لعب أدوار الحفاظ على مؤسسة الدولة وتأمين مصالحها. ونرصد في هذا السياق، هزيمة الجيش المالي من قبل المتمردين في عام 2012 والاستيلاء على غوما من قبل مجموعة التمرد "أم 23" في جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2012. وتفكك جيش جمهورية أفريقيا الوسطى في أعقاب الاستيلاء السريع على العاصمة بانغي من قبل قوات "سيليكا" المتمردة في عام 2013، وعدم قدرة الجيش النيجيري على حسم الموقف عسكرياً ضد جماعة "بوكو حرام"، وكذلك استمرار "جيش الرب" على مدى عقود في أوغندا مهدِداً للسلطة المركزية، وقدرة "جبهة تحرير تيغراي" على الاستمرار في الحرب ضد الجيش الفيدرالي الإثيوبي على مدى ستة أشهر أخيراً، من دون قدرة الأخير على حسم الموقف على الرغم مما تلقاه من دعم إقليمي ممثَلاً بالجيش الإريتري، وهي كلها مشاهد وتطورات تثبت ضعف القدرات الاحترافية لعدد من الدول الأفريقية.
وطبقاً للدراسات العسكرية وأدبياتها فإن ضعف القدرات الاحترافية لدى بعض الجيوش الأفريقية يعود إلى طبيعة الثغرات في سلسلة القيادة التي تؤدي إلى عدم الانضباط وكذلك ضعف مهارات إدارة الموارد، فضلاً عن التربح الذي تمارسه القيادات وفسادها في بعض الحالات، نتيجة ضعف نظم الرقابة على المشتريات العسكرية، كلها عوامل تسهم إجمالاً في عدم انضباط سلسلة القيادة الوظيفية التي هي شرط أساسي لنجاح أي مؤسسة عسكرية. وترسم التقارير الواردة من بعض أنحاء أفريقيا، صورةً لجيوش لا يبدو أنها تدري بالتفاعلات داخلها، فهناك صلة ضعيفة جداً بين السياسة العسكرية الرسمية وبين أفعال ضباط الصف والجنود. أحد الأمثلة على ذلك يتظهر في شمال نيجيريا، حيث اتهم المدنيون، الجنود الذين يقاتلون جماعة "بوكو حرام" بارتكاب فظائع ضدهم. ولم يتمكن كبار القادة العسكريين النيجيريين من تفسير هذه الأفعال المؤثرة بطبيعة الحال على الاستقرار السياسي للدولة.
وإلى جانب ضعف الجيوش الأفريقية في المواجهة ضد "داعش" وأخواتها، لا يمكن التغاضي عن الدور التركي المؤسس لنقل التنظيم من بلاد الشام إلى ليبيا قبل سنوات، وهو الأمر المؤسِس لوجوده في أفريقيا من ناحية، ولانتشاره وتمدده في غرب القارة السمراء من ناحية أخرى، بخاصة حين تزايدت عليه الضغوط في ليبيا.
حدود الدور الدولي
في ضوء حقيقة ضعف الجيوش الأفريقية، تبلورت الإرادة الغربية غالباً في اتجاه التدخلات المباشرة، وذلك بضغط فرنسي ظهرت مقاربته الأساسية في أمرين، الأول هو التدخل العسكري المباشر، والثاني عقد تحالفات فرنسية - أفريقية مشتركة على نمط مجموعة "جي 5" في منطقة الساحل والتي تضم موريتانيا ومالي وتشاد وبوركينا فاسو والنيجر.
في النمط الأول تعتبر باريس أن التدخل العسكري المباشر هو أنجع السبل لمواجهة الإرهاب، من هنا حصلت فرنسا على تفويض من مجلس الأمن بالتدخل العسكري في مالي عام 2013 لمواجهة "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" و"تنظيم التوحيد والجهاد". لكن من الواضح أن المقاربة فشلت بدليل الانسحاب الفرنسي من مالي أخيراً، ليس فقط من دون حسم للمعركة ضد الإرهاب ولكن أيضاً مع احتمال تشجيع الإرهاب، بعد الاستجابة لطلبات لفدية التي طلبها الإرهابيون لتحرير رهائن فرنسيين، وهو الأمر الذي جعل الإرهاب "عملاً مربحاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ما يتعلق بنمط التحالفات فإنه من الواضح أن مجموعة "جي 5" تواجه حالة فشل واضح، نوقِش في تشاد قبيل اغتيال الرئيس التشادي إدريس دبي. ولعل هذا الفشل هو ما جعل فرنسا تقبل بدعم انقلاب تشاد، بينما لم تدعمه في مالي، نظراً للدور المحوري الذي تلعبه تشاد في التحالف الفرنسي- الأفريقي ضد الإرهاب والذي من دونه في الأغلب سينهار هذا التحالف نهائياً.
وطبقاً لهذه الخبرة فربما يكون قرار "التحالف الدولي ضد داعش" تكوين فرق عسكرية أفريقية لمحاربة التنظيم، والذي اقترحته إيطاليا، يسير على نفس طريق الفشل الدولي السابق ولم يثبت جدارة بل ربما أنتج مضاعفة لهشاشة الأوضاع الأمنية، إذ شهدنا عمليات إرهابية كبيرة في كل من بوركينا فاسو ومالي خلال الشهرين الماضيين أسقطت مئات الضحايا.
في السياق، حان الوقت لإعادة التفكير في دور المجتمع الدولي والاعتراف بقدراته في هذا المجال. فالنجاح في محاربة "داعش" يعتمد أولاً على حسن نية القادة السياسيين وإخلاصهم في محاربة الإرهاب من جهة، وتقليص الفساد في المؤسسات العسكرية من جهة أخرى، إضافة إلى إصلاح وتجديد العقد الاجتماعي في دول تعيش شعوبها دون الحد الأدنى من حقوق المواطنة، لا سيما في المناطق الريفية التي تعاني تهميشاً تنموياً واضحاً.
ومن المؤكد أن الجهود الدولية التي تسعى إلى دعم العمل العسكري ضد الجماعات المسلحة ستفشل طالما سادت حالة الإفلات من العقاب، إذ يمكن للجيوش المحلية أن تقتل مدنيين وتطيح بالحكومات في انقلابات من دون عواقب.
هل من آفاق لأدوار إقليمية في محاربة "داعش"؟
على المستوى الإقليمي، لا بد أن تمتلك دول مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس ونيجيريا وتشاد، مقاربةً تعتمد على التعاون في ما بينها، طبقاً لرؤيتها وآلياتها في محاربة الإرهاب، وذلك من دون تدخل مباشر من المجتمع الدولي، لا في بلورة الرؤية ولا في طبيعة الآليات التي يتم الاعتماد عليها.
أما دور المجتمع الدولي فيجب أن ينحصر بالدعم المالي والتقني لمثل هذه التحالفات، ومقاومة السياسات الفرنسية في أفريقيا التي أفسدت محاولة مصر تكوين حلف دفاعي في عام 2015 في مؤتمر عُقد في شرم الشيخ، وحضره 26 من وزراء الدفاع الأفارقة.
ولم يبق من هذا الحلف الذي أملت مصر بتكوينه سوى مركز مكافحة الإرهاب بالقاهرة، وهو قد يكون نواة فعلية للقيام بأدوار أفريقية لمحاربة داعش وأخواتها في القارة.