كان من الصعب تجاهل الرسائل السياسية والعسكرية للرئيس الصيني شي جينبينغ، خلال الاحتفالات المئوية بتأسيس الحزب الشيوعي، فقد حذر القوات الأجنبية التي تستفز الصين بضرب رؤوسها، وتعهد تعزيز جيش بلاده، في وقت كشفت فيه أقمار صناعية أميركية عن 119 من صوامع صواريخ نووية جديدة عابرة للقارات تشيدها الصين، ما يثير مخاوف واسعة في واشنطن من رغبة بكين في مضاعفة صواريخها النووية، فهل أصبحت الحرب الباردة أقرب مما يتصور البعض، أم ما زالت هناك إمكانية لاحتواء صراع قادم وضم الصين إلى مفاوضات الحد من التسلح؟
تطلع للمستقبل
من الواضح أن الرئيس الصيني وهو ينظر إلى الماضي ويحتفل بالذكرى 100 لتأسيس الحزب الشيوعي، كان يتطلع بقوة إلى المستقبل، فقد أشاد بالعالم الجديد الذي صنعه الشعب الصيني وتعهد حماية أمن وسيادة بلاده وإعادة توحيدها بضم تايوان، كما هدد القوات الأجنبية بضرب رؤوسها إذا استفزت الجيش الصيني، وبعد ذلك، تحدث عبر مكالمة فيديو مع عدد من رواد الفضاء الصينيين في محطة "تيانهي"، الذين وقفوا أمام أعلام بلادهم والحزب الشيوعي في رسالة يصعب تفويتها.
ولكن قبل هذه الاحتفالات بيوم واحد كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية عن صور أقمار صناعية تجارية تُظهر أن الصين بدأت بناء 119 صومعة جديدة لصواريخ باليستية عابرة للقارات في صحراء بالقرب من مدينة "يومين" شمال غربي الصين، ما يشير بوضوح إلى توسع كبير في قدرات بكين النووية.
تحول تاريخي
وتعكس هذه الصور التي حصل عليها باحثون في مركز "جيمس مارتن" لدراسات عدم الانتشار النووي في "مونتيري" بولاية كاليفورنيا، أن صوامع الصواريخ الجديدة في حالة اكتمالها، ستمثل تحولاً تاريخياً للصين، التي يُعتقد أنها تمتلك مخزوناً متواضعاً يتراوح بين 250 و350 سلاحاً نووياً، وإذا كانت هذه الصوامع ستضم 119 صاروخاً في المستقبل القريب فإن ذلك سيمثل قفزة كبيرة.
ومع ذلك، فإن العدد الفعلي للصواريخ الجديدة المخصصة لتلك الصوامع غير معروف وقد يكون أقل بكثير، نظراً إلى أن الصين نشرت صوامع مخادعة في الماضي، في أسلوب مشابه لما فعلته الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، حينما طورت خطة لنقل صواريخها الباليستية العابرة القارات عبر مصفوفة من الصوامع لضمان عدم تمكن مخططي الحرب السوفيات من معرفة مكان الصواريخ بالضبط في أي وقت.
رادع نووي
غير أن خبراء أميركيين في الترسانة النووية الصينية يعتقدون أن طفرة البناء تشير إلى وجود جهد كبير لتعزيز مصداقية الردع النووي الصيني، بخاصة أن هناك مواقع أخرى تشهد تشييد صوامع إضافية بما يجعل العدد يصل إلى 145 صومعة قيد الإنشاء، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن الصين توسع قواتها النووية للحفاظ على رادع يمكنه الصمود في وجه ضربة نووية أميركية أولى، والرد بأعداد كافية لهزيمة الدفاعات الصاروخية الأميركية.
لم يكن هذا الاكتشاف مفاجئاً لمسؤولي وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" الذين حذروا قبل أشهر قليلة من التقدم السريع في القدرة النووية الصينية، فقد تحدث الأدميرال تشارلز ريتشارد الذي يقود القوات النووية الأميركية أمام جلسة استماع في الكونغرس خلال شهر أبريل (نيسان) الماضي، محذراً من توسع مذهل تجريه الصين، بما في ذلك ترسانة موسعة من الصواريخ الباليستية العابرة القارات ومنصات إطلاق صواريخ متنقلة يمكن إخفاؤها بسهولة عن الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى إدخال البحرية الصينية غواصات جديدة قادرة على حمل أسلحة نووية لأسطولها المتنامي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويكمن الخطر بالنسبة إلى الأميركيين في أن الصوامع الصينية مخصصة على الأرجح لصواريخ صينية عابرة للقارات تعرف باسم "دي إف 41" وهي صواريخ تحمل رؤوساً متعددة وتصل إلى أهداف بعيدة تصل إلى 9300 ميل، (نحو 14967 كيلومتراً)، ما يجعل الأراضي الأميركية الرئيسة وغالبية المدن الكبيرة مثل واشنطن ونيويورك ولوس أنجليس في مرمى أهدافها.
عقيدة الردع المحدود
لكن ما يبعث على بعض الطمأنينة أنه يمكن بسهولة رصد صوامع الصواريخ من قبل محللي الصور المدربين، فهي عرضة للتدمير من الصواريخ الأميركية الموجهة بدقة خلال الساعات الأولى من أي حرب نووية محتملة في المستقبل، ولهذا يعتقد الخبراء أن مشروع بناء الصوامع هو جزء من استراتيجية ردع موسعة من بلد ترسانته النووية تتضاءل أمام ترسانة الولايات المتحدة وروسيا، اللتين تمتلكان معاً أكثر من 11000 رأس نووي.
وبدلاً من الانخراط في سباق تسلح باهظ الثمن مع واشنطن وموسكو، تبنت الصين عقيدة "الردع المحدود" التي تعطي الأولوية لبناء ترسانة نووية محدودة الحجم لكنها قوية بدرجة تضمن قدرة بكين على الانتقام والرد ضد أي خصم إذا تعرضت للهجوم.
لعبة القواقع
ويبدو أن الخطة الصينية التي تعرف بـ"لعبة القواقع" تقوم على إخفاء عدد صغير نسبياً من الرؤوس النووية عبر عدد محدد من الصوامع، بينما يُترك العدد المتبقي فارغاً تماماً مثل قواقع ومحار البحر الذي قد يكون ممتلئاً أو فارغاً، ومع ذلك، فإن الظهور المفاجئ للعديد من مواقع الإطلاق الصينية الجديدة قد يزيد الضغط على المسؤولين الأميركيين لتسريع تحديث الترسانة الأميركية، فقد سبق أن أعلن "البنتاغون" عن خطط لتحديث مكثف للأسلحة النووية الأميركية وأنظمة إيصالها على مدى العقدين المقبلين، بما في ذلك صاروخ "كروز" جديد يطلق من الجو ونوعان جديدان في الأقل من الرؤوس الحربية.
وفي فبراير (شباط) الماضي، تعهد وزير الخارجية أنتوني بلينكين أن إدارة الرئيس جو بايدن ستواصل الحد من التسلح لتقليل المخاطر من ترسانة الصين النووية الحديثة والمتنامية، وأن الإدارة ستسعى إلى تحديد للأسلحة يعزز الاستقرار والشفافية والقدرة على التنبؤ مع تقليل مخاطر سباقات التسلح الخطيرة والمكلفة.
سباق تسلح
غير أن الوزير الأميركي لم يقل كيف سيفعل ذلك على الرغم من اللغة التصعيدية من الجانبين الأميركي والصيني منذ أن تولى الرئيس بايدن السلطة في البيت الأبيض، وإدراك كثيرين من الخبراء أن ثمة سباق تسلح مع روسيا والصين يجري بالفعل الآن، وما تكشفه صور الأقمار الصناعية يؤكد ذلك.
فعلى الرغم من انخفاض عدد الأسلحة النووية عن الذروة التي وصلت إليها خلال الحرب الباردة، ولم يعد هناك عشرات الآلاف من الأسلحة النووية، فإنه يمكن مقارنة حجم الأسلحة التي بحوزة الولايات المتحدة اليوم، بتلك التي كانت موجودة خلال أزمة الصواريخ الكوبية، فقد كان لدى الولايات المتحدة 3500 سلاح نووي، وكان لدي السوفيات ما لا يزيد على 500 سلاح نووي عام 1962، أي أقل بكثير مما تمتلكه روسيا اليوم، ومع ذلك كان العالم يقف على أطراف أصابعه خشية اندلاع حرب نووية عالمية بين موسكو وواشنطن قد تفني الحياة على كوكب الأرض، وما تمتلكه الصين الآن من مئات القنابل والصواريخ النووية يقارب ما كان يمتلكه الاتحاد السوفياتي في الستينيات، وهو عدد يدعو إلى القلق والخوف على الرغم من كل شيء.
هل الحد من التسلح ممكن؟
غير أن الدرس المستفاد من أزمة الصواريخ الكوبية هو ولادة فكرة الحد من التسلح، فعلى الرغم من عدم الثقة المتبادلة بين الأميركيين والسوفيات، فإن المصلحة المشتركة في عدم الموت تحت حرائق ودمار القنابل النووية دفعت الطرفين إلى التعاون والتفاهم، وهو ما يطرح نفسه مجدداً مع الصين التي لم تتفاوض معها الولايات المتحدة للحد من التسلح النووي في السنوات الماضية، على الرغم من مطالبة الرئيس السابق دونالد ترمب بذلك.
لكن العقبة الرئيسة في ذلك تتمثل في أن عدم اهتمام روسيا والصين باستمرار بالحد من التسلح النووي من دون قيود حقيقية على الدفاعات الصاروخية الأميركية، حيث أوضح كلا البلدين أن عملياتهما لتطوير قدراتهما النووية تنصب على مهمة إنشاء قوة نووية قادرة على النجاة من ضربة أميركية، وتوجيه ضربة انتقامية قبل القضاء عليها من الأنظمة الهجومية الأميركية المدعومة بالدفاعات الصاروخية للتخلص من أي قوات على قيد الحياة، ولهذا لا ترغب أي من الدولتين في تقييد الأنظمة التي تطورها من دون وجود قيود مقابلة على دفاعات الولايات المتحدة المصممة لهزيمتها.
ولكي تضمن روسيا والصين إبقاء بعض قواتهما للرد على الولايات المتحدة، فقد ذهبتا إلى أساليب مختلفة، ففي حين سعت روسيا إلى اختبار أنظمة غريبة تشبه الخيال العلمي مثل إنتاج صواريخ "كروز" وطوربيدات تعمل بالطاقة النووية، اتجهت الصين إلى زيادة عدد الأسلحة النووية التي يمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك الصواريخ الموجودة داخل تلك الصوامع في صحراء الصين.
ولأن الجمهوريين في الكونغرس الأميركي سيعارضون أي طرح من شأنه أن يحد من الدفاعات الصاروخية الأميركية، يبدو الأمر مستحيلاً من الناحية السياسية إلى أن تظهر أزمة شبيهة بأزمة الصواريخ الكوبية ويصبح العالم على شفير حرب مرعبة تفني البشر، وحينها سيتغير كثير من المواقف.
عقلية الحرب الباردة
وإلى أن يحدث ذلك، تظل عقلية الحرب الباردة هي السائدة ليس فقط في الولايات المتحدة بل داخل الصين أيضاً، التي أخذت تستشعر بأن الدول الغربية تحسد الصين على نجاحها وعازمة على تقويضها تجارياً وعسكرياً.
في المقابل، يحذر بعض الخبراء من التبني الشامل لرواية "الحرب الباردة" الجديدة، التي يدفع إليها الجمهوريون بشكل خاص الذين يريدون من الإدارة الأميركية تصعيد مواجهتها مع الصين، وحسب رأي هؤلاء، فإن واشنطن قد تبالغ في تقدير قوة بكين، وأنه إذا كانت الصين ليست على حافة التفكك فإنها أيضاً ليست على طريق الهيمنة، وهي منافس دائم ولكنه مقيد، ولهذا يخشى البعض أن يسهم الضغط المتزايد في واشنطن من أجل المواجهة مع الصين، في تمكين القوى الاستبدادية والقومية المتطرفة في كلا البلدين، بما يصرف الانتباه عن المجالات التي يمكن أن يتعاون فيها البلدان، بما في ذلك قضية التغير المناخي.
ويعتبر هذا المنظور أكثر انتشاراً في أوروبا، حيث يشعر السياسيون هناك براحة أكبر في فصل خلافاتهم السياسية مع بكين عن رغبتهم في التعاون، وينصح القادة الأوروبيون من مختلف الأطياف السياسية باتباع نهج أكثر دقة، حتى عندما يتحدث الرئيس بايدن عن صدام أيديولوجي يلوح في الأفق بين الديمقراطيات والدول الاستبدادية في كل أنحاء العالم.