منذ تسلّمها مهماتها في سبتمبر (أيلول) 2020، واجهت حكومة هشام المشيشي حزمة من الصعوبات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، عمّقتها جائحة كورونا التي تحصد يومياً أرواح عشرات التونسيين، لتتخطى قائمة الوفيات 15000 حالة وفاة منذ ظهور الوباء في البلاد في مارس (آذار) 2020.
وبينما تتخبّط الحكومة في مستنقع الأزمات المتعددة، لا تبدو في الأفق القريب بوادر انفراج لحالة الجمود السياسي بين مؤسسات الحكم (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان). وتظافرت جملة هذه العناصر لتجعل من حكومة المشيشي الحكومة الأضعف في تاريخ البلاد، خصوصاً بعد أن رفض رئيس الجمهورية قيس سعيد التعديل الوزاري الذي أجراه المشيشي في يناير (كانون الثاني) الماضي، وكُلف عدد من الوزراء بحقائب وزارية بالنيابة.
ولم تبتكر الحكومة حلولاً لأزمات متفاقمة تعيشها تونس ما بعد 2011، فهي لم تفتح ملفاً إلا وازداد تعقيداً، ومنها ملف الفوسفات، إذ لجأت الدولة للمرة الأولى إلى الاستيراد بعدما كانت في قائمة أولى الدول المصدرة لهذه المادة في العالم. وتنامت الاحتجاجات الاجتماعية وفشلت الحكومة في التوصّل إلى حل لأزمة اعتصام الكامور (جنوب)، واضطرت إلى توقيع اتفاق ما زال عالقاً، بعدما قدّمت وعوداً لتنسيقية تتألف من مجموعة من المطالبين بالتشغيل ونكثتها.
هذه عيّنة من ملفات كبرى وحارقة لم تتمكن الحكومة، التي تعاني عجزاً هيكلياً في تركيبتها، من التعاطي معها وإيجاد حلول لها. ومن بين المعضلات، مسألة تأخر وصول اللقاحات، إذ تتالت الوعود من قبل الوزراء، بينما تتّسع الجائحة وتحصد الأرواح.
مؤشرات اقتصادية واجتماعية
وتدلّ مؤشرات اقتصادية واجتماعية على تدهور لافت، إذ توقعت الحكومة نسبة نموّ 3.9 في المئة عام 2021، إلا أن الواقع يختلف عن هذه التقديرات، بعدما سجّل القطاع السياحي تراجعاً كبيراً للعام الثاني على التوالي.
ويستبعد متخصصون في الاقتصاد أن تحقق البلاد نمواً، ويحذرون من إمكانية عجزها عن سداد ديونها للمرة الأولى في تاريخها.
وكان محافظ البنك المركزي مروان العباسي أكد في مجلس النواب، في مايو (أيار) الماضي، أن تونس غير جاهزة للتصنيف الجديد لوكالة "فيتش رايتنغ" للتصنيف الائتماني، قائلاً "تأكدوا أننا سننزل إلى التصنيف C".
وكانت وكالة "موديز" خفّضت تصنيف البلد الائتماني إلى B3 مع نظرة مستقبلية سلبية في فبراير (شباط) الماضي.
في غضون ذلك، تقدّر حاجات تونس من التمويل بـ 18.5 مليار دينار (6.72 مليار دولار) متوقعة في موازنة 2021، ويمكن أن تصل إلى 22.5 مليار دينار (8.18 مليارات دولار)، نتيجة عوامل عدة، بينها ارتفاع سعر النفط، علماً أن الحكومة رسمت موازنة السنة الحالية على توقعات بـ45 دولاراً للبرميل الواحد، بينما تخطى سعره اليوم سبعين دولاراً.
وانعكس هذا التخبّط في وضع الموازنة، على المستوى الاجتماعي، فالبطالة تتنامى والأسعار ترتفع وتتآكل القدرة الشرائية، ما فجّر سلسلة من الاحتجاجات في عدد من مناطق البلاد.
حوالى مليوني تونسي تحت عتبة الفقر
وكشف المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة عمومية) عن أن عدد التونسيين تحت عتبة الفقر يقدّر بنحو 1.7 مليون تونسي من جملة 11 مليون نسمة. وأضافت إحصاءات المعهد أن نسبة الفقر في تونس متغيرة بحسب المنطقة أو الجهة، وتصل إلى 53.5 في المئة في بعض المناطق الداخلية.
وأظهرت دراسة أعدّها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن نسبة الطبقة الوسطى تراجعت في البلاد من 70 في المئة عام 2010 إلى 55 في المئة عام 2015، لتصل عام 2018 إلى نحو 50 في المئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي والصحي المتدهور هو "نتيجة طبيعية لأداء حكومي ضعيف وحكومة شبه غائبة"، في تقدير المتخصص في القانون الدستوري في الجامعة التونسية رابح الخرايفي، الذي يشير إلى أن "الحكومة نظرياً موجودة، إلا أنها فعلياً منتهية". ويلفت إلى أن الإدارة هي التي تدير البلاد في الوقت الراهن، علماً أنها باتت تعاني من ضعف السياسات العامة التي ترسمها الحكومة من خلال وزراء أكفاء".
ويدعو إلى "تكوين فريق من المتخصصين يقدّم تصورات للحكومة ورئيس الجمهورية لحلّ المشكلات الآنية"، موضحاً أن التجاذبات السياسية تحول دون تكوين هذا الفريق، وسط غياب الإرادة السياسية من الأحزاب التي تشكل الحزام السياسي لحكومة المشيشي".
ويشدّد الخرايفي على أن "فرق التفكير في هذه الأحزاب الداعمة للحكومة غير متوافرة"، واصفاً إياها بـ"العاجزة عن تقديم تصورات أو أفكار أو حلول لمشكلات تونس، علاوة على ضعف مراكز البحث في البلاد وعزوف الكفاءات القادرة على تقديم الإضافة عن الممارسة السياسية، التي انزلقت إلى العنف والمزايدات والصراعات المحمومة".
ويدعو مكونات الطبقة السياسية في تونس إلى "تقديم جيل جديد يتصدّر المشهد مستقبلاً، يكون متشبّعاً بروح الوطنية والحوكمة الرشيدة والشفافية"، مستبعداً أن "يقدّم الفريق الحكومي الحالي تصورات تنقذ البلاد من وضعها الراهن أو تحسّن إدارة أزماتها المتعددة".
وفي خصوص الآليات الدستورية المتاحة لإنهاء مهمات هذه الحكومة، يشدّد الخرايفي على أنه "طبقاً للفصل 99 من الدستور، يمكن لرئيس الجمهورية أن يطلب من البرلمان التصويت على الثقة باستمرار عمل الحكومة، أو أن يستقيل رئيس الحكومة ويعيد الأمانة إلى أهلها ويصرح بأنه عجز عن إدارة الأزمات المتعددة في البلاد". ويقول إن "هذا الموقف يحتاج إلى شجاعة"، مستبعداً أن يُقدِم المشيشي على هذه الخطوة. ويلفت إلى "انعدام ثقافة الاستقالة عند المسؤولين في الحكومة الحالية الذين يتعاملون مع المسؤولية بمنطق الغنيمة لا بمنطق المصلحة العليا للبلاد".
ويؤكد الخرايفي أن "مصلحة تونس تقتضي مغادرة هذه الحكومة في أقرب وقت ممكن"، مضيفاً أن "الحزام السياسي مستفيد من وضع الحكومة، على الرغم من فشلها وعجزها". ويختم أن "حركة النهضة أصبحت عبئاً كبيراً على البلاد".
الحكومة ومسؤوليتها
ومن بين الحلول التي يطرحها عدد من قادة الأحزاب المعارضة في تونس، الذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة بعد الاتفاق على تغيير النظام الانتخابي كي تفرز الانتخابات التشريعية غالبية واضحة قادرة على تحمّل مسؤولية الحكم، وتقطع مع التوافقات السياسية المغشوشة.
و"بعد فشل مبادرة الحوار الوطني، التي تقدّم بها الاتحاد العام التونسي للشغل، بفعل تمسّك كل طرف بخياراته"، لا يرى المتخصص في التاريخ المعاصر محمد ذويب، "حلاً إلا التسريع بإنجاز انتخابات برلمانية، من أجل تغيير الخريطة السياسية وإزاحة هذه الحكومة وإعطاء بارقة أمل للتونسيين".
ويعتبر أن "حكومة المشيشي من أسوأ الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ 2011، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق، إذ إنها تشاهد يومياً العشرات من التونسيين يموتون إلا أنها لا تحرّك ساكناً ولا تبحث عن حلول، مما أسهم في فقدان المواطنين الثقة بدولتهم وليس بالحكومة فحسب".
ويشير ذويب إلى "تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتونسيين، من خلال ارتفاع الأسعار ومضاعفة الأداءات والضرائب، ما تسبّب في فوضى عارمة بالبلاد، أسهمت في تفشي وباء كورونا، وهو ما أصبح يهدّد حياة الجميع".
في المقابل، يعتبر الصحافي خالد البارودي أن الحكومة لا تتحمّل وحدها مسؤولية الوضع الراهن في تونس، ملمحاً إلى عدم تضامن مؤسسة رئاسة الجمهورية في الأزمة الصحية، خصوصاً في موضوع إيجاد اللقاحات في وقت مبكر.
ويضيف أن "جهود الحكومة مهمة في الأزمة الصحية، إلا أن الإعلام الحكومي لم يعرّف بها كما ينبغي"، لافتاً إلى أن "الجائحة مسّت كل دول العالم وتونس ليست استثناء". ويدعو إلى "مزيد من التكاتف بين مؤسسات الدولة لتجاوز هذه المحنة".
ويعتقد البارودي أن "كورونا أثر بشكل مباشر في الوضع الاجتماعي والاقتصادي للتونسيين"، مشيراً إلى "مسؤولية المواطن في الحد من انتشار الوباء من خلال التزام الإجراءات التي وضعتها وزارة الصحة".
حكومة بدأت كفاءات وانتهت سياسية
تجدر الإشارة إلى أن المشيشي هو الرئيس التاسع للحكومة في تونس منذ 2011، وسبق أن تولّى حقيبة الداخلية، وشغل قبلها منصب المستشار الأول لدى رئيس الجمهورية مكلفاً بالشؤون القانونية.
واختاره الرئيس قيس سعيد، في يوليو (تموز) الماضي، عندما كان وزيراً للداخلية في حكومة تصريف الأعمال إثر استقالة حكومة الياس الفخفاخ، ليكون الاختيار مفاجئاً للأحزاب السياسية لأنه لم يكُن على قائمة ترشيحاتها.
وبدأت حكومة المشيشي حكومة كفاءات، وانتهت حكومة سياسية بحزام برلماني واضح المعالم، مدعومة من "حركة النهضة" و"ائتلاف الكرامة" و"قلب تونس" و"تحيا تونس". ودخل إثر ذلك في صراع مباشر مع الرئيس سعيد.
وتوجّه سعيد، خلال اجتماع طارئ في ساعة متقدمة من يوم السبت 3 يوليو الحالي، مع قيادات عسكرية وأمنية خُصّص للنظر في الوضع الصحي الذي تعيشه البلاد، بنقد تعاطي الحكومة مع أزمة كورونا.
ودعا رئيس الدولة خلال اللقاء إلى التفكير مع مؤسسات الدولة في تصور جديد لمواجهة هذا الوضع، مشدداً على أن "المسؤولية الوطنية لا تقوم على الحسابات السياسية أو التنافس أو المبارزة، بل ترتكز على توحيد الجهود والإجراءات التي يتعين اتخاذها في الفترة المقبلة".