كثر من المفكرين والمؤرخين ينظرون عادة إلى كتاب "آلام الحلاج" الذي اشتغل عليه المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون طوال ما يزيد عن خمسة عشر عاما مضت بين اكتشافه للحلاج في العام 1907 وكان بالكاد بلغ الرابعة والعشرين من عمره وتقديمه إلى السوربون عام 1922 لنيل درجة الدكتوراه في الفكر الإسلامي، باعتباره واحدا من أهم الكتب التي لم تتناول الحلاج وآلامه وحسب، بل تناولت قضية التصوف في حد ذاتها. أما بالنسبة إلى ماسينيون نفسه فلقد كان اشتغاله على الحلاج هو ما أعاده، كما سيحلو له أن يقول دائما، إلى إيمانه المسيحي بل حتى إلى نوع من إيمان مطلق قاده إلى تقبل إيمان كل البشر بوصفه جزءا أساسيا من إنسانية هؤلاء البشر. ونعرف أن ذلك الكتاب الذي ظل ماسينيون يشتغل عليه ويضيف إليه طوال حياته وعلى ضوء الإكتشافات العلمية والتاريخية اللاحقة، صدر بعد أن تجاوز طابعه الدراسي بمراحل، في طبعة اعتبرت نهائية في أربعة أجزاء تقع في ما يقرب من ألفي صفحة في واحدة من سلاسل الكتب العلمية الأكثر أهمية في عالم النشر الفرنسي "مكتبة الأفكار" في العام 1975 بعد سنوات من وفاة ماسينيون وتيقن الناشرين من عدم إمكان القيام بأية إضافات أو تعديلات عليه خصوصا أن تلك الطبعة النهائية اتت من تنقيح وضبط ابن المستشرق دانيال بالتعاون مع اثنين من كبار المستشرقين تلامذة ماسينيون الأب: هنري لاووست ولوي غارديه.
بين المؤلف وأجزاء كتابه
في الجزء الأول يحدثنا ماسينيون عن حياة الحسين ابن منصور الحلاج الذي أعدم في بغداد يوم 26 مارس (آذار) عام 922 م. أي قبل ألف عام يوما بيوم من تقديم ماسينيون أطروحته، ليحدثنا في الجزء الثاني عن اكتشافه هو نفسه للحلاج وحكاية حياته وأشعاره، حيث وجد نفسه وهو في القاهرة يقلب في بعض الوثائق والمستندات أمام حكاية "تبدّت لي على الفور كواحدة من أجمل حكايات الألم البشري. حكاية ترتبط مباشرة بأسمى آيات اليقين الأعلى. ما جعلني ممتلئا على الفور بالرغبة في الدخول إلى ثنايا الحكاية وفي أن أفهم واستعيد ذلك المثال الاستثنائي". ويضيف ماسينيون في هذا السياق أن "المسألة لم تكن بالنسبة إليّ مسألة سبر أسرار فؤاد الحلاج. بل كان هو بالأحرى من يسبر فؤادي؛ ولا يزال يسبره حتى اليوم". وهكذا بعد حكاية الحلاج ثم حكايته هو مع الحلاج نجدنا في الجزء الثالث من "الرباعية" أمام ما يسميه ماسينيون "تجربتي الحلاجية" تلك التجربة المسيحية المرتبطة مباشرة بيسوع المسيح والتي سينظر اليها دائما باعتبارها "تصوري الخاص للإسلام وبخاصة للتصوف الإسلامي نفسه. والحقيقة أنني كلما كنت أتوغل أكثر في الوثائق والنصوص كنت أزداد وثوقا من انطباعاتي الأولية. وبت قادرا على أن أكتشف أكثر أن ثمة فضيلة حقة ولهيبا بطوليا في تلك الحياة، ولا سيما في ذلك الموت الذي أتى ليعززها". وما صفحات الجزء الثالث سوى بحث في تلك العلاقة بين موت الحلاج وحياته باعتبارهما متكاملين. وهو ما يستكمله المؤلف في الجزء الرابع والأخير الذي "أحسست وأنا أشتغل عليه أنني أجتاز صحرائي اللانهائية" حيث ويا لدهشته وجد في ابراهيم أبي الأنبياء جميعا خير رفيق لدربه!
بين مدن الشرق الأوسط
ولد لوي ماسينيون في مدينة نوجان – سور – مارن إحدى ضواحي باريس لأب فنان نحات كان يوقع منحوتاته باسم بيار روشن. وبفضل أبيه تعرف لوي باكراً على الكاتب هويسمان والأب دي فوكو اللذين سيلعبان دوراً أساسياً في حياته لاحقاً. وهو حصل على شهادة التوجيهية من ثانوية لوي ليغران عام 1901 قبل أن يقوم برحلة إلى الجزائر حصل بعدها في عام 1902 على ليسانس الآداب ودبلوم الدراسات العليا عن بحث له عن المغرب كتبه إثر زيارة ثانية إلى تلك المنطقة أتاحت له هذه المرة أن يشارك في مؤتمر للمستشرقين تعرف خلاله إلى المستشرقين الكبيرين غولدتسهير وآسين بلاسيوس اللذين سرعان ما أصبحا إلى جانب سيلفان ليفي وسنوك – هوغرانجيه ولي شاتليه من أحب أصدقائه إلى قلبه في ما يتعلق بالاستشراق.
من القاهرة إلى بغداد
وحين نال ماسينيون من المدرسة الوطنية للغات الشرقية في عام 1906 دبلوم اللغة العربية التحق بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة حيث راح يعنى بالآثار الإسلامية ويتجول في بعض المدن الشرق أوسطية ومنها بغداد، حيث ارتبط بصداقة مع عالمها الشهير الألوسي، كما أسهم في اكتشاف قصر بني لخم المسمى بالسدير في منطقة الأخيضر ليعود بعد ذلك إلى القاهرة إثر غيابه عامين عنها، حيث راح يستمع إلى دروس في الأزهر الشريف بالزي الأزهري. وبين عامي 1912- 1913 انتدبته الجامعة المصرية أستاذاً لتاريخ الفلسفة، فألقى بالعربية نحو أربعين محاضرة حول المصطلحات الفلسفية. ومن ثم شد رحاله إلى الجزائر في عام 1914 ليشارك طوال العامين التاليين كمجند في حملة الدردنيل. وبعد ذلك نراه يطوف في الحجاز والقاهرة والقدس التي أقام فيها كما أقام بين بيروت ودمشق وحلب وإسطنبول ليعود إثر ذلك إلى باريس حيث عيّن معيداً لمادة علم الاجتماع الإسلامي في معهد فرنسا ومن ثم صار أستاذاً للمادة وبعدها مديراً للدراسات في المدرسة العلمية العليا حتى عام 1954 حيث تقاعد. وهو كان حصل على شهادة الدكتوراه في عام 1922 من جامعة السوربون عن دراسته "آلام الحلاج" كما ذكرنا أعلاه، ففي وقت كان يتولى تحرير مجلة "العالم الإسلامي" ومن بعدها مجلة الدراسات الإسلامية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العودة إلى الإيمان
في الجانب الشخصي تقول سيرة ماسينيون إنه بعد تعمقه في دراسة الحلاج منذ اكتشف ديوانه وكان لا يزال أقرب إلى الإلحاد الذي كان من سمات المثقفين الفرنسيين عند النقطة الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وجد نفسه يستعيد إيمانه المسيحي الكاثوليكي إلى جانب اثنين من رفاقه هما بول كلوديل وجاك ماريتان – وهذان لأسباب أخرى لا علاقة للحلاج بها طبعاً! - وهو ما كان حاوله معه الأب دي فوكو ولم ينجح لتأتي آلام الحلاج وتقوم بالمهمة. والحقيقة أن ماسينيون سوف يقول لاحقاً إن الحلاج كان هو من فتح روحه على الأديان جميعاً، إذ جعله أقرب إلى التصوّف بصورة عامة داعياً إلى الوئام بين أتباع الأديان جميعاً. وفي هذا السياق لم يكن من الصدفة أن تعهد "الموسوعة الإسلامية" إلى ماسينيون بتحرير كل ما يتعلق بالتصوف وبعلاقة الإسلام بالأديان التوحيدية الأخرى في موادها، كما لن يكون من الصدفة أن يصبح ماسينيون خلال العقود التالية محط أنظار واهتمام المجامع العلمية العربية وغير العربية، على رغم تعاونه الوثيق مع دوائر وزارة الخارجية الفرنسية ودفاعه عن مواقفها.
إنتاج غزير لحياة طويلة
في نهاية الأمر من الواضح أن لوي ماسينيون (1883 – 1962) عاش كل تلك الحيوات وكل تلك النشاطات العلمية والسياسية، وقد نقول الاستخباراتية أيضاً، وهو متربع تحت ظل الحلاج وتصوفه اللذين نراهما ماثلين في معظم كتاباته، التي يقول مؤرخو حياته أنها أربت على 650 مصنفاً بين دراسة وكتاب وتحقيق وترجمة، علماً بأن كتابه عن الحلاج يظل من أشهر كتبه إضافة إلى مساهماته الأساسية في "الموسوعة الإسلامية" (حيث كتب خاصة عن الزندقة والزهد والزمن في التفكير الإسلامي وعن الكندي والمحاسبي والنوبختي والششتري والترمذي وغيرهم). ومن كتبه الشهيرة كتاب عن "التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي في العصر الوسيط" دراسة عن "أهل الكهف" و"الطبيعة والتفكير الإسلامي" و"المسيح في الأناجيل على حسب الغزالي" و"أساليب تطبيق الفنون لدى شعوب الإسلام"...