في العام 1919، إبان ثورة المجالس الشيوعية في بافاريا بألمانيا، وبعد هزيمة هذه الأخيرة خلال الحرب العالمية الأولى، كان من أبرز المشاركين في تلك الثورة وجمهوريتها الموؤودة، كاتب ألماني اسمه الأصلي أوتو فييغي، لكنه آثر أن يعرف نضالياً باسم ريت مورات، يومها انفضت تلك المجالس وهزمت الثورة وجمهوريتها، وحوكم فييغي وحكم عليه بالإعدام، لكن ذلك كان بعد أن تمكن من الهرب واختفى نهائياً. منذ ذلك الحين لم يعد أحد يسمع عنه شيئاً حتى شاءت الصدف أن يظهر في المكسيك، في الوقت نفسه تقريباً، كاتب ألماني منفي لا يعرف أحد شيئاً عنه أو عن ماضيه. وهذا الكاتب الذي سيعيش حتى العام 1969، ويعرف باسم ب. ترافن، أصدر العديد من الروايات في الوطن الجديد، ولكن تلك الروايات تحدثت عن تاريخ المكسيك، الماضي والحاضر في ذلك الحين. ومع هذا قال كثر بعد موت ترافن إنه هو نفسه فييغي، مع أن أحداً لم يحدد السبب الذي جعله ينسى هويته القديمة، ليحمل حتى بعد رحيله الاسم الذي اختاره لنفسه في المنفى، كما أن أحداً لم يحدد إصراره على عدم "الإقرار" بأنه هو نفسه فييغي، ويقيناً أن الخوف من القضاء الألماني وحكم الموت القديم عليه، لم يكن سبب تخفيه الدائم.
مهما يكن فإن النقاد وأهل الأدب لم يهتموا بهذا الأمر كثيراً، أو على الأقل قدر اهتمامهم بالروايات التي أصدرها ب. ترافن، وكانت ممهدة للعديد من روايات أدب أميركا اللاتينية التي تناولت نضالات شعوب المنطقة هناك، لا سيما نضالات سكان البلاد الأصليين المسمين "الهنود الحمر".
وصولا إلى السينما الأميركية
ومن أشهر روايات ب. ترافن في هذا المجال روايتان، صدرت إحداهما للمرة الأولى عام 1932 والثانية في 1955، هما "ثورة المشنوقين" و"روزا بلانكا" التي هي تتمة منطقية لأحداث "ثورة المشنوقين"، حيث إن أحداث تلك تبدأ حين تنتهي أحداث هذه. ومن هنا التساؤل عما جعل ب. ترافن ينشر الأحداث التالية قبل ربع قرن تقريباً من نشره الأحداث الأولى. المهم أن الروايتين موجودتان وترجمتا إلى لغات عدة منذ أواسط القرن الـ 20، لتضيئا معاً على جانب شبه مجهول من الأحداث العاصفة التي شهدتها المكسيك، خلال العقود الأولى من القرن الـ 20، وذلك ضمن إطار اهتمام الكاتب الدائم "بوصف وفضح شروط عيش الهنود الحمر"، أي أصحاب البلاد الأصليين. غير أن الأشهر بين روايات ترافن تبقى تلك التي حملت عنواناً يعتبر واسع الشهرة في مجال الاقتباس السينمائي لأي عمل روائي على الإطلاق، "كنز سييرا مادرا" التي حولها جون هستون إلى ذلك الفيلم الشهير الذي حمل العنوان نفسه وأسهم في نشر أسطورتين، أسطورة هامفري بوغارت الذي قامت أسطورته على كون محكمي جوائز الأوسكار تجاهلوه تماماً حين وزعوا جوائزهم وكان بعضها من نصيب "كنز سييرا مادرا" في العام 1948. وأسطورة ترافن نفسه الذي أطلقه الفيلم على نطاق واسع، ليس فقط ككاتب، بل كواحد من "الكتّاب الأشباح" في تاريخ الأدب العالمي. هو الذي سيعرف بلقب "الرجل ذي الـ 28 اسما". وكان هذا ما حيّر جون هستون الذي سيقول إنه لم يعرف أبدا لا الاسم الحقيقي للرجل ولا حتى صورة وجهه. وربما كان هستون يستمتع حين كان يروي أنه في العام 1946 حين كان يصور الفيلم في منطقة صحراوية قاحلة جاءه يوماً رجل غريب الملامح قصير القامة عرف عن نفسه بأنه هال غروفز، وكيل أعمال الكاتب ترافن والتحق بالعمل معه في الفيلم كمستشار. من البداية اشتبه هستون بأن هذا الرجل هو المؤلف نفسه، تماماً كما اشتبه آخرون بأنه كان هو نفسه قبل ذلك الممثل الفوضوي الألماني المعروف باسم روت مورات الذي اعتاد أن يقدم نفسه أيضاً باسم ت. تورسفان كممثل يسعى إلى الحصول على أدوار ثانوية في بعض الأفلام!
رجل بأسماء لا تعد ولا تحصى
مهما يكن فإن كل تلك الأسماء كان يحملها رجل واحد سيكون لقبه لعقود طويلة من السنين "الرجل ذو الـ 28 اسماً". ولقد احتاج الأمر على أية حال إلى الانتظار حتى العام 1980 وصدور كتاب وضعه مؤرخ الثقافة ويل فيات بعنوان "الرجل الذي كانه ب. ترافن" كي يبدأ تدفق الإجابات على الأسئلة التي لطالما أثارتها حياة الرجل وهويته وغموض كينونته وما إلى ذلك، والحقيقة أن أساطير كثيرة تم تداولها قبل صدور الكتاب من حول ترافن، فمن مؤكد أنه ليس في حقيقته سوى الكاتب جاك لندن وقد رتب الأمور بحيث يعلن موته ويستمر في العيش والكتابة إلى قائل إنه في الحقيقة الرئيس المكسيكي هاوي الكتابة أدولفو لوبيز ماثيوس، كما زعم بعضهم أنه ابن غير شرعي للإمبراطور غيوم الثاني أنجبه من ممثلة ثانوية وأخفاه في المكسيك!
ولكن هل يمكننا القول إن فيات كشف الحقيقة بالفعل؟ حتى هذا الأمر ليس مؤكداً. المؤكد فقط هو أن الكاتب المعروف باسم ب. ترافن كتب عدداً كبيراً من الروايات التي تتسم بأبعاد أخلاقية، وأنه هو مؤلف تلك الرواية التي بنى عليها جون هستون فيلمه البديع "كنز سييرا مادري" الذي فشل في الحصول على الأوسكار لنجم نجوم زمانه هامفري بوغارت، لكنه تمكن في المقابل من تتويج مسيرة الممثل والتر هستون بأوسكار أفضل ممثل في دور ثانوي، علماً بأن والتر هو والد جون هستون! ولنعد بالتالي إلى هذا الفيلم بعيداً من أساطير كاتبه وحيرة مخرجه والظلم الذي أحاق ببطله، وهو ظلم ذكّر الممثل الكبير دانيال داي لويس به بعد ذلك بعقود طويلة حين فاز بأوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم "ستكون هناك دماء"، فقال بوضوح في خطبة تقبل الجائزة إنه استوحى قيامه الرائع بدور دانيال بيلفيو من أداء هامفري بوغارت في "كنز سييرا مادري"!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحثون عن الذهب
تدور أحداث "كنز سييرا مادري" الذي يعتبر واحداً من أجمل أفلام المغامرات في السينما الهوليوودية، في سنوات الــ 20 وفي الصحراء المكسيكية تحديداً من حول البحث عن الذهب الذي كان الشغل الشاغل للأميركيين شمالاً وجنوباً في ذلك الحين.
ومن بين الباحثين عن الذهب هنا أميركيان شماليان مغامران، لكل منهما ماضيه الغامض وتطلعاته التي تقوم على العثور على الثراء. وإذ يلتقي هذان المغامران ببروفسور عجوز هو الذي يلعب دوره والتر هستون، تبدأ واحدة من المغامرات الشيقة في عالم البحث عن الكنوز، كما يبدأ واحد من أولى الأفلام الهوليوودية التي صورت في الأماكن الطبيعية خارج الولايات المتحدة، وتحديداً في مناطق تامبيكو المكسيكية الصحراوية التي تفترض رواية ترافن أن الأحداث تجري فيها.
بعد أخلاقي نادر
صحيح أن كل ما يجري من أحداث شاقة بل مأساوية يمكن النظر إليها هنا بوصفها منطقية في مثل هذا النوع من أفلام المغامرات، لكن المهم أكثر من ذلك هو الأبعاد الأخلاقية التي زرعها الكاتب ومن بعده المخرج في ثنايا العلاقات والتشابكات بين الشخصيات، ومن هنا حدث لهذا الفيلم ما ندر حدوثه بالنسبة إلى معظم الأفلام التي تنتمي إلى هذا النوع، أمعن الباحثون في تشريحه ودراسته، وأثنى النقاد منذ عرضه على هذه الأبعاد الواضحة فيه والتي بحسب واحد منهم "تعيد إلى السينما بل إلى أدب المغامرات بصورة عامة أبعاداً أخلاقية عميقة، يدور معظمها من حول الجشع وانعدام النخوة وكون الذهب سبباً لأكثر الشرور بؤساً في تاريخ الأخلاق الإنسانية، ولكن بعيداً من لعبة الوعظ المملة".
ومن هنا لم يكن غريباً أن يعطى الفيلم درجة 10 على 10 في تقويمات النقاد على الدوام، ويعتبر واحداً من أكثر أفلام السينما الأميركية إنصافاً وكشفاً لما يسببه الجشع من تفكك لعرى الصداقة والود بين البشر، حتى وإن كان اقتباس جون هستون، لا سيما في الحوارات، قد خضع كثيراً لأحكام قوانين هايز الرقابية الصارمة، مما خفف من "غلواء البعد الأخلاقي الماركسي" الذي كان الكاتب قد أضفاه على روايته! وبقي أن نذكر أن "كنز سييرا مادري" حقق مداخيل ضخمة خلال عروضه الأولى، ولا يزال يلاقي نجاحات هائلة كلما عرض حتى اليوم.