لم يسمّ الشاعر عباس بيضون ديوانه الجديد الذي كتب معظم قصائده، وربما كلها، في زمن الحصار الكوروني "قصائد كورونا" مثلاً، بل اختار عنواناً أشد قسوة ومجازية هو "الحياة تحت الصفر" (دار نوفل، 2021). والصفر الذي تحته الحياة هنا، يملك مواصفات الرقم هو أكثر من صفر وأقل الذي ليس برقم في الحين نفسه، الرقم العبثي، الرقم المنفي والمحذوف بذاته، ويقترح معاني عدة لهذه الحياة التي تعيش أو تحتضر أو تنعدم تحته. فالصفر الذي هو أقل من صفر أو أكثر، قد يكون أيضاً، كما يقول بيضون في إحدى القصائد، "هو من فوقنا الظل" و"الشمس المكسورة"، هو الصفر "الذي سقط علينا"، ليجعل الحياة تحته. ويتخطى الصفر "صفريته" منذ أن يصبح "مجرد وقت مركوم من أعمار متباينة تسولت الحياة/ وحصلت منها على وقت إضافي". إنها الحياة "المعارة" التي حولها كورونا إلى حياة تحت الصفر. الحياة التي "نحملها إلى المطبخ" ببساطة تامة، كما يقول الشاعر، فـ"نقليها/ ونرمي قشورها/ ولا نعرف كيف تنقلب في الطبق/ إلى كمامة تنظر إلينا". هنا تستدعي كلمة "كمامة" كلمة "قمامة" وكأن بينهما ظاهراً، ما يشبه الجناس السلبي، ولكن العميق الدلالة، فالكمامة هي في معنى مضمر قمامة الإنسان.
لم يستخدم عباس بيضون في الديوان فواصل ونقاطا بتاتاً، لا في المتن ولا في آخر السطور، حتى لتغدو القصائد مفتوحة بعضها على بعض، على الرغم من العناوين التي تفصلها ظاهراً. طبعاً هناك الفراغات بين المقاطع التي تتقاسم أنفاس القصائد ووقعها المتلاحق وهذيانيتها، لكنها لا تعلن وقفاً أو انقطاعاً مقدار ما ترسي الفراغ الذي يخالج الشعر وما يحمل من حطام الأنا والذات والعالم واللغة... وكان الشاعر عمد سابقاً إلى نشر معظم القصائد في صفحته على "فيسبوك"، موظفاً بياض الشاشة خلفية للفراغ النفسي أو الروحي الذي يسميه أحياناً الخلاء الذي وحده "أمامنا".
المنفى المزدوج
يستهل بيضون قصيدته الأولى "منفي إلى غرفتي" بحال النفي هذا، فالغرفة التي تعد في الميثولوجيا اليومية، غرفة الأمان والاستراحة والضجر الجميل، جعلها زمن كورونا منفى، وفي هذا المنفى يجر الشاعر "أناه" الكسيحة، ويسحبها من جلوسه على الكنبة إلى السرير، لينام نوم الشبح "الذي لا ينهض من السرير". لقد حول الحجر الكوروني الغرفة التي تعد فردوساً إلى حياة متوهمة ومؤقتة، ملاذ من العدوى ومن الآخرين الذين يمثلون خطر العدوى، بل معزل، إذا أمكن القول، يعيش فيه الإنسان الأسير أحوالاً من الخوف لم يعرفها سابقاً، وربما قرأ عنها في كتب التاريخ والروايات.
يبدو عباس بيضون جريئاً في المجاهرة بخوفه بل برعبه، وما أحدثاه في روحه والجسد، من أعطاب ليست مجازية جداً. فالعطب النفسي يترجم نفسه عطباً جسدياً وإن ظل خفياً، كما تقول نظرية البسيكوسوماتيك. والجسد هنا شبيه جسد سان سباستيان الذي أدهش الروائي الياباني ميشيما. الجسد هو المذبح والذبيحة، تنهال عليه سهام كورونا، مرئية حيناً ولا مرئية حيناً. الجسد "المطروح وحيداً"، الجسد الذي يتركه الشاعر "عائماً" (كما لو أنه جثمان على صفحة ماء) فوق سريره، كما يقول، بعد أن افترقا "كصديقين". لم يعد الجسد صديق صاحبه، ولا عدوه، حتى في "مكابدات النوم"، ومقاتلة المزيد من "الحشرات التي لا يصدها النوم". وقد تكون الحشرات هي الكوابيس التي تطلقها مجاورة الوباء وعيش فكرته الراعبة. واللافت في هذه العزلة هو استعادة بيضون رمز "حمامة" الروائي باتريك سوزكند في الرواية التي تحمل الاسم نفسه، والتي استحالت كابوساً ينتهك البطل السلبي ويحدث في كيانه الخوف. لكن الحمامة التي ترد في قصيدة بيضون "هي أيضا عدوى" ويضيف "نرتعد من هذه الحمامة/ التي لم تحمل رسالة إلى أحد"، ويسأل "من أين للحمامة هذه القدرة/ على ترويعنا...؟".
عيش التجربة
لم يكتب عباس الحالة الكورونية من قبيل التجريب الشعري أو البحث عن مادة جديدة، وتوظيفها في سياق مشروعه، بل عاش هذه الحالة عيشاً داخلياً ويومياً وتفصيلياً وكتبها، عاشها كتجربة شخصية وذاتية. وقد أمعن في امتحان نفسه في مواجهة هذا الطارق الخطر أو "السارق"، فها هو ذا يطمئن نفسه أنه ما زال حياً، والدليل ببساطة تامة "عدد أمس من الجريدة" و"السوبر ماركت" الذي قصده. لا يبالغ بيضون إن قال "الرعب بلا حجم ولا لون"، رعب متيافيزيقي كافكاوي النكهة، ورعب فيزيقي، ثم كابوسي. هذا الرعب جعله يصور نفسه "واقفاً كالذئب أمام الباب". ما أرهب أن ينقلب الخوف من الذئب إلى حال ذئبية دفاعية، تخوفاً من هجوم الفيروس المستذئب.
حتى الوقت في تلك الإقامة "المشروطة" يفقد مفهومه الزمني، وقت ثقيل ومتذبذب، كينوني وعابر، دبق وصفيق. وفيه تدب الثواني "دبيباً"، بل "تخرج الثواني من الساعات"، في صورة سوريالية متعددة التأويل ومحفوفة بحس تشكيلي يمكنه أن يكون حلمياً أو تجريدياً. خلال هذا الحصار يدوّر الشاعر "ساعاته" كما يقول و"يتنقل بينها". بل هو يعد خطواته بخوف، كما يقول، مع أنه يعلم أن "لا شيء يسلمه للغد". والأشد مأساوية هو أن يعد الشاعر 75 سنة "قبل أن ينام". هذا عقاب شبه سيزيفي يعيد إلى الذاكرة عقاب الآلهة الإغريقيين الذين كانوا ينزلونه بمحكوميهم "لا شيء سوى غرق على غرق".
وقائع وكوابيس
تختلط في قصائد الديوان الذكريات والوقائع الكورونية والهواجس والكوابيس والمشهديات المدينية، كما يختلط الحاضر والماضي، الأمكنة والظلال، الموتى والأحياء، الأشخاص وأشباه الأشخاص أو قرائنهم. الماضي، ماضي عباس بيضون نفسه، يحضر هنا مثلما يحضر واقعه، مثلما يحضر الآخرون، الأحياء أو الموتى، وأشباحهم في آن واحد. ويدجن الشاعر ذاكرته تدجيناً داخلياً، فيذكّر القارئ ولو تلميحاً بـ"خلاء هذا القدح"، ويذكّره خصوصاً بمقولة "باء" مثل بيروت ومثل باريس وبرلين التي كتب عنها قصائد عدة. بل يعيد تذكير القارئ كيف أودع حياته في مصح باريسي. ويقول إن نفسه مزدحمة و"كثيرون خلفوا فيها أعماراً منقضية/ وأفكاراً انتهى أوانها". بل يذكر عباس القارئ أيضاً أن اسم أخته سقط "كحجر من قلبي". هل يسعى عباس إلى استعادة صور من حياته وشعره جهاراً في شريط سريع منسوج داخل القصائد؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكتب عباس بيضون قصيدة تتقاطع فيها تأويلات الكورونا النظرية التي أطلقها العلماء والفلاسفة والسوسيولوجيون، ولم يتأمل في أبعاده الكونية والآثار الجمة التي تركها في الحياة المعاصرة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية. بل عاشه وتفرس فيه وخاف منه، وجعله هاجساً شبه قهري (أوبسيسيون)، أدخله بيته وأجلسه أمام التلفزيون وفتح له البراد وجعله يطل على الشارع من الشرفة أو النافذة، كي يرى سيارة وصرافاً آلياً ويافطة مضيئة فوق حانة مغلقة. لقد أنسن الشاعر العدو اللا مرئي وسخر منه سخرية تامة السواد، محاولاً تخطي رهبته القاطعة. وعندما سُمح للمدينة بالرجوع، كما يقول، لملمت المدينة حطامها، الحقيقي والمجازي "لقد شالوا كماماتهم...".
في هذه القصائد المكتوبة تحت تهديد الوباء وفي لحظاته الأشد مأساوية اختار بيضون أن يطلق اللغة على رسلها، يومية، حية، غير فصيحة، بل كاسرة ما سماه الشاعر سابقاً، "الفصاحة المنتصرة". الزمن هو زمن الموت المشهدي المفتوح والرعب يجتاح العين والروح، وليس في وسع النص أن يحابي أو يتحايل، فهو يواجه الواقع الفج بفجاجة تليق به. وكم بدت ساطعة ذاكرة عباس البصرية والتشكيلية التي لا تتوانى عن خلق الصور المدهشة والهذيانية. وما أجمل هذه الصورة "هناك نجد شبيهاً تقفصت رئتاه". تختصر هذه الصورة السوريالية سر فصاحة الشاعر المنتصرة، تخييلاً وحلمية.