عبرت الفرحة التي اندلعت احتفاء بالفوز الذي حققته إنجلترا على الدنمارك بهدفين مقابل هدف واحد في نصف نهائي بطولة الأمم الأوروبية لعام 2020، الأربعاء الماضي، عن جملة من المعاني التي تذهب إلى أبعد من الرضى الجماعي جراء فوز في مباراة لكرة القدم. صحيح أن نتيجة المباراة المقرر إجراؤها، الأحد، مهمة، لكن قطعاً ليس بالقدر الذي كانت تبدو عليه الأسبوع الماضي، قبل الوصول إلى الدور النهائي، الذي يكاد يكون كافياً في حد ذاته، وكأن ما سيحصل، الأحد، عديم القيمة.
يمثل الفوز على الدنمارك نوعاً من العلامة الفارقة. وهو جاء بعد الانتصار الحاسم على ألمانيا والعلقة الساخنة التي ذاقتها أوكرانيا على يد الفريق الإنجليزي، ما طوى صفحة الفترة التي توصف بلغة عشاق كرة القدم بعقود من الإذلال الوطني، أو "جرح الـ55 عاماً". ويوفر هذا الفوز أيضاً ما يمكن تسميته أفضل ترياق مضاد تماماً للجائحة حتى الآن، إذ أتاح الفرصة لإطلاق العنان لفيض من الحيوية التي كانت في الشطر الأكبر من الـ18 شهراً الماضية حبيسة القيود الصارمة المفروضة على السلوك العفوي أياً كان شكله. فقد سمح لعشرات الآلاف من الناس الذين احتشدوا في مكان واحد لمدة تزيد على ساعتين، أن ينشدوا معاً ويتعانقوا أو يقبلوا بعضهم بعضاً كما شاءوا من دون أن يخافوا العقاب. وكان بوسع المرء لوهلة قصيرة أن يوقف حركة المرور، أو يصعد إلى أعلى حافلة ذات طابقين ثم يلوح بعلم، غير آبه بقواعد التباعد الاجتماعي.
لم يكن من الصعب على المرء أن يلمس التبدل الواضح في الحالة المزاجية للناس، سواء كان من مشجعي كرة القدم أو عشاق الرياضة بوجه عام أو لم يكن. وكان بعض المشاغبين على منصات التواصل الاجتماعي ممن يفسدون متعة الرياضة، على حق بالتأكيد حين استفسروا عن سلامة القرار بمنح ضربة الجزاء للفريق الإنجليزي. أما أنا فكنت جاهلة بما فيه الكفاية كي أتساءل ما إذا كان مقبولاً حقاً احتساب هدف تم تسجيله في مرمى الخصم بقذف كرة مرتدة من ضربة جزاء كان الحارس قد صدها قبل أن تعود ثانية لتلامس شباكه. لكن الأمر لا يزال في هذه اللحظة شبيهاً بما يحصل في واحد من تلك الأفلام السينمائية التي تتحول في لحظة من الأسود والأبيض إلى الملون، فيضج المشهد كله فجأة بالحياة. وهل كان هناك من مقدمة أفضل لـ"يوم الحرية"؟
كانت الانتصارات في ميادين الرياضة تعني دوماً على الصعيد الوطني أكثر من النجاح في رياضة ما. أما على المستوى الدولي، فكان هذا النجاح يسهم في رسم صورة البلاد. وهو يساعد في شحذ الهمم ورفع المعنويات الوطنية بين الناس في البلاد نفسها. في هذا الإطار، أظهر استطلاع مصرفي أجري هذا الأسبوع أن الوصول إلى نهائي بطولة الأمم الأوروبية لعام 2020 من شأنه أن يعود على الاقتصاد البريطاني بمبلغ إضافي قد يزيد على 50 مليون جنيه إسترليني (69.15 مليون دولار) سيعطيه مزيداً من الزخم. ومن الصعب حتى على الميالين منا لرياضة أخرى مثل التنس أو الكريكيت، أن ينكروا أن كرة القدم تبقى بشكل لا يقبل الجدال الرياضة الوطنية بامتياز، وذلك من حيث عدد المشاركين فيها والمتابعين لها وبالطبع الجانب المالي فيها أيضاً، كما أنها شيء تشتهر به هذه البلاد في الخارج.
إننا نعيش في أوقات تنافسية تتيح القدرة على عقد المقارنات، وذلك بفضل الاتصالات الحديثة. ولقد سلطت الجائحة الضوء على أداء كل دولة وحكومة في مواجهة فيروس فتاك لم يعرفه الإنسان من قبل. ويجدر الاعتراف أن هناك ما يدل على أن بريطانيا عموماً، وخصوصاً إنجلترا، لم تتعامل مع الأزمة بشكل جيد. ولم تشعر البلاد بالتحسن حتى أخذت اللقاحات تصل. وثبت ذلك بوضوح بفضل الابتسامات التي غطت الوجوه وتعابير الشكر والعرفان في مراكز التلقيح، كما أكده أيضاً توزيع اللقاحات على نحو أسرع مما شهده معظم البلدان الأوروبية.
وها هي كرة القدم، تعيد تعزيز هذا الشعور بالرضى. دأبنا لسنوات عديدة على اعتبار كل مباراة دعوة للقلق والتوتر، كما تعودنا على ترجيح خسارة فريقنا الوطني بدلاً من فوزه. صحيح أننا أخفينا هذا الشعور أحياناً تحت غطاء خفيف من الفكاهة والسخرية من الذات. بيد أن هذا القلق والتوتر عكسا بصدق إحساس بلاد لم تكن موفقة دائماً وخاطرت بتحويل كل ما لمسته إلى مجرد رغوة عديمة الفائدة، بدءاً بالحروب التي خاضتها من دون أن تفكر جيداً بما يعنيه ذلك، إلى التراخي الفاضح في أنظمة السلامة من الحرائق، فإساءة احتساب أعداد المهاجرين.
لا يعني هذا بالطبع أن الكآبة كانت مخيمة على الدوام من دون ما يخفف منها. فمن حين إلى آخر، لعبت الرياضة دور المنقذ من هذا الغم. ألا تذكرون السخرية التي سادت التحضيرات لأولمبياد لندن؟ حينذاك صار فجأة كل شيء على ما يرام؛ فقد جاء المشجعون واستمتعوا بالمباريات؛ وراح فريق المملكة المتحدة يفوز بالميداليات؛ وأخذ علم دولة الاتحاد يخفق عالياً وبات مصدر فخر وطني بعد ما كان موضع سخرية وطنية في النكات المتداولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتمتع الأحداث الرياضية الدولية بالقدرة على بث الحماسة في النفوس والتشجيع على التغيير. وهذا هو السبب الذي يدفع الدول إلى التسابق على استضافتها على الرغم من تكلفتها والتعطيل الذي تسببه للحياة العادية. ولقد صارت بطولة العالم لكرة القدم في 2006 التي استضافتها ألمانيا، بمثابة النقطة التي تؤشر إلى اللحظة التي بدأت فيها ألمانيا تتوحد فعلاً بشكل حقيقي، وتصوغ شخصية وطنية حديثة وجديدة وتطل على العالم بوجه بشوش مرحب. وبالمثل، كانت بطولة كأس العالم في روسيا عام 2018 أكثر من مجرد مصدر للفخر بالنسبة للمضيفين بتنظيم حدث على هذا المستوى، إذ كانت مناسبة لعرض إمكانات الرئيس فلاديمير بوتين، كما فتحت أبواب هذه الدولة المترامية الأطراف والمتنوعة للأجانب بطريقة غير مسبوقة.
وبالطبع، فإن تنظيم مناسبات رياضية حاشدة من هذا القبيل ينعكس، وبشكل حتمي، إيجاباً على زعيم الدولة شخصياً. ولا مناص من القول إن هذه ليست المرة الأولى التي يتضح فيها أن بوريس جونسون سياسي محظوظ بشكل يكاد لا يصدق. ولا يعود هذا فقط إلى أن علامته التجارية الخاصة بالجاذبية الشعبية قد أتاحت له النجاح السريع على صعيد السلوك الشخصي، وهو جانب يمكن أن يؤدي بأكثر السياسيين إلى السقوط. فجونسون قد غامر مراراً وكانت مغامراته حتى الآن محاولات موفقة أتت أكلها.
دعم جونسون خيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ضد مؤسسة البقاء فيه التي قادها كاميرون – أوزبورن. وأتاح له قراره بعدم الترشح لزعامة حزب المحافظين مباشرة في أعقاب استفتاء 2016 على الخروج من الاتحاد الأوروبي أن يتمتع بحرية الحركة للسعي إلى خلافة تيريزا ماي و"تنفيذ" خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأمنت له الانتخابات الخاطفة التي نظمها في فصل الشتاء الفوز بأغلبية ساحقة. لكن بدا أن الحظ قد خانه بشأن الجائحة التي أعاقت سير حكومته بحسب خططها المرسومة سابقاً كما شكلت تهديداً لحياته، وذلك قبل أن تصل اللقاحات. والآن، ها هو أفضل أداء لفريق كرة القدم الإنجليزي منذ نصف قرن، في ملعب ويمبلي، يصب في مصلحة جونسون.
سواء شئنا أم أبينا، ومن ينتقدونه، وهم كثر، لن يسرهم ذلك بكل تأكيد، سيكون بوسع بوريس جونسون أن يزهو مختالاً لفترة من الوقت في الأقل، بالمجد الذي سينعكس عليه. وسيسوء الأمر، بالنسبة لهؤلاء الذين أرادوا مثلنا البقاء في الاتحاد الأوروبي، فهذا المجد في بطولة الأمم الأوروبية سيكون من نصيب إنجلترا، التي صوتت لصالح الـ"بريكست". واللافت أن انتصار إنجلترا في كأس العالم عام 1966 جاء قبل انضمام المملكة المتحدة لما كان سيصبح الاتحاد الأوروبي، فيما حققت أفضل أداء لها بعد ذلك بـ55 عاماً في ميادين كرة القدم العالمية، إثر خروج البلاد من الاتحاد. وتم سلفاً الصفح عن جونسون لتجاهله قواعد الحجر الصحي والسماح لجيش من مسؤولي الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بدخول البلاد، كما صار ذلك التجاهل طي النسيان.
وبالنسبة لهؤلاء الذين لا يطيقون جونسون، فإن غاريث ساوثغيت، يعتبر ممثلاً لإنجلترا من النوع المعاكس تماماً لرئيس الوزراء. فمدير الفريق الإنجليزي كفء بشكل لا لبس فيه، وقادر على تحمل المسؤولية ومتواضع، يحتضن أعضاء فريقه جميعاً من دون تمييز، وهو على طرفي نقيض مع جونسون الخامل بتجاوزاته المختلفة. فاختر أيهما تفضل.
قد يكون هناك المزيد من المكافآت لجونسون على المدى الطويل. ويمثل الاتحاد، أو بقاء أجزاء المملكة المتحدة مع بعضها بعضاً، أحد مصادر القلق. في هذا الإطار، من المؤكد أن فريق الدنمارك لقي التأييد، الأربعاء الماضي، من مشجعين اسكتلنديين وآخرين من كل من ويلز ومن إيرلندا الشمالية، وهؤلاء سيشجعون فريق إيطاليا، الأحد، خلال مباراته ضد فريق إنجلترا. هكذا ثمة قوى مؤثرة تعمل على شق وحدة الصف في المملكة المتحدة وتفكيكها في أعقاب الـ"بريكست". لكن إذا تمكنت أكبر دولة في الاتحاد من التباهي بتحقيق بعض النجاح، فقد تقلب الموازين لصالحها. وهنا تجدر الإشارة إلى ابتعاد رئيسة الحكومة المحلية الاسكتلندية عن الواجهة، أخيراً.
وقد يكون هناك منتج ثانوي لنجاحات إنجلترا الكروية يتمثل في صياغة هوية وطنية لإنجلترا، أو للمملكة المتحدة، في مرحلة ما بعد الـ"بريكست". يعرب كثيرون عن ترحيبهم بفريق إنجلترا في ظل ساوثغيت كنموذج للدولة التعددية التي صارتها إنجلترا هذه الأيام. بيد أن الهوية الإنجليزية كانت على الدوام إشكالية، لا سيما أن الأقلية تنظر إليها على أنها بيضاء تعبر عن ثقافة البيض بطبيعتها. لا تعاني الهوية الاسكتلندية من صعوبة من هذا النوع. وتفيد دراسة أكاديمية حديثة أن الرياضة، وخصوصاً كرة القدم، قد تغير ذلك شريطة توظيف، لا تغيير، المؤسسات المعنية مثل الاحتفالات والرموز كلها بغرض إنتاج نوع من الإحساس بوجود هدف وطني مشترك. وأود أن أضيف هنا أن كل المباريات الرياضية التي تشارك فيها منتخباتنا الوطنية، يجب أن تكون متاحة للمشاهدة مجاناً على شاشة التلفزيون. ولا شك أن متابعة لعبة الكريكيت قد تضاءلت بشكل حاد نظراً إلى البدء ببث مبارياتها على القنوات تلفزيونية التي تتطلب اشتراكاً بعد ما كانت تتوفر مجاناً على القنوات الأخرى.
لقد استطاع الجميع أن يشاهدوا، في الأقل، مباريات بطولة الأمم الأوروبية لعام 2020 على شاشة التلفزيون. وإذا سار كل شيء على ما يرام، فسأرى مباراة كرة القدم، الأحد، بعد أن أتابع التنس في وقت سابق من اليوم نفسه. ولن أفعل ذلك بسبب ولعي بكرة القدم، أو حتى من أجل حبي للرياضة، بل لأن المباراة مهيأة لتكون مناسبة وطنية عظيمة، لا بل إنها ستكون كذلك أياً كانت النتيجة. وقد يولد من رحم هذه المناسبة النجاح والتفاؤل اللذين سيحلان محل الإحساس بالسخرية والفشل اللذين لازما إنجلترا طويلاً.
© The Independent