أوليفر ستون لا يمل ولا يتعب. هناك قضية محورية في حياته يعود إليها باستمرار: اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي... 58 عاماً بعد الواقعة التي هزت عالم السياسة، يعود إليها مرة ثانية بعد فيلمه JFK" 1991، في وثائقي بعنوان "اعادة نظر في جون ف. كينيدي: عبر المرآة"، عُرض أمس في مهرجان "كان" السينمائي (6 -17 يوليو/ تموز) ضمن قسم "بروميير"، الذي أبصر النور هذا العام. وفي الحقيقة، هذا الفيلم هو نوعاً ما تتمة لعمله الروائي JFK، الذي اشتهر به ستون في العالم أجمع، ورُشّح لثماني جوائز "أوسكار". وربما يجدر اعتباره تحديثاً نظراً للمعلومات التي يتضمنها الفيلم الجديد.
في هذا الوثائقي المشغول بحرفية عوّدنا عليها ستون، والذي سيثير حتماً حماسة هواة نظريات المؤامرة والدسائس، يحملنا ستون ابن الرابعة والسبعين في رحلة عبر أدلة في قضة كينيدي رفعت عنها السرية أخيراً. من خلال شهادات متعددة لفريق من الخبراء الطبيين والمتخصصين في المتفجرات والمؤرخين، يقدم أشهر مخرج أفلام سياسية في العالم أدلة دامغة (من وجهة نظره) على أن ما كان سابقاً يوضع في خانة "نظرية المؤامرة" أضحى الآن "مؤامرة مؤكدة".
تجسيد بصري
يقدم ستون المعلومات التي في حوزته بثقة عالية في الذات، كما لو كانت الحقيقة المطلقة التي تدين هذا أو ذاك. يقدمها من دون أي مسافة، والمهرجان أعطى شرعية لأطروحاته هذه بمجرد أنه ضم الفيلم لتشكيلته الرسمية. لا مجال في هذه المقالة لذكر كل تفاصيل قضية متشعبة فيها كثير من النظريات التي كانت مواد لكتب وأفلام لا تحصى عبر الزمن، لكن في الواقع لا يفلح ستون إلا في إقناع من هم مقتنعون أصلاً. أي إنه يعظ المؤمن. الفيلم هو أيضاً تجسيد بصري لكثير من القناعات التي كان المخرج يرددها في إطلالاته الإعلامية. لا يزيح مثلاً سنتيمتراً واحداً عن إيمانه بأن هناك قصة أخرى غير الرواية الرسمية التي حاولت السلطات الأميركية "بيعها" للناس.
ستون الذي سبق أن حكى عن هذا الموضوع طولاً وعرضاً في وثائقي من 12 جزءاً في عنوان "الحكاية غير المروية للولايات المتحدة"، لا يزال يرفض نظرية أن كينيدي مات بطلقة رصاص واحدة. يشدد على أن هذا هراء. ويفاجئه أن هذا الاحتمال لا يزال وارداً عند بعضهم. يقول: "طبعاً، الشعب الأميركي يقبل كل شيء حالياً، يقبل تنصت السلطة... نحن كالقطيع منذ فترة طويلة. بالنسبة لـJFK، فأنا لم أصور السيناريو الذي اقترحته على الاستوديو، لأنني لما كنت حصلت على موافقة عليه. وددت أن أروي اغتيال كينيدي من وجهات نظر عدة على طريقة فيلم "راشمون" لكوروساوا. أردت أن أقول للمشاهد: هذا ما قيل لك في قضية كينيدي، والآن، إليك ما حدث في الحقيقة. هناك مثلاً نظرية الرصاصة السحرية التي كانت مثيرة للسخرية. معالجة الفيلم أتاحت المجال للعبة كرة بين التقليديين والناس الذين فقدوا حسهم النقدي. المرحلة التي أنجزت فيها JFK كانت واحدة من أصعب مراحل تاريخي المهني. ظللت أدافع عن الفيلم ستة أشهر بعد تصويره. شاركت في عديد من البرامج التلفزيونية. وسائل الإعلام في أميركا طابعها جد تقليدي ومحافظ، وهي قد أصرت على أن تجعلنا نبدو كمجانين. كانت تجربة قاسية تذوقت مرارتها".
ولكن يجب ألا نعتقد أن ستون حصل على معلومات سرية لأجل هذا الفيلم، بل قد جمع وثائق الحكومة الأميركية، وأعاد تفسيرها على طريقته، وانطلاقاً من رؤيته للموضوع، وخرج باستنتاج أن كينيدي كان ضحية وكالة الاستخبارات المركزية. وسواء في هذا الفيلم، أو في غيره من الأفلام الوثائقية عن القضية نفسها، هناك سؤال يؤرق دائماً أصحاب نظريات المؤامرة: كيف استطاع رجل مثل هارفي أوزوالد ارتكاب جريمة مروعة كهذه؟ إذاً، لا بد أن هناك شيئاً آخر خلفها.
انحياز الميديا الرسمية
يقول ستون إن رؤساء أميركا يتبدلون، ولكن السياسة الأميركية تبقى على حالها. هناك سياسة ومال، وهناك صناعة وأمن (بعد 11 سبتمبر/ أيلول)، والميديا الرسمية التي تنحاز إلى طرف دون آخر وفيها الكثير من الشللية. بلا أي خوف من أن يتهم ببلورة نظريات مؤامراتية، يقول: "كل هذا نشأ بسببه شيء يسميه بعضهم الدولة المصغرة، وبعضهم الآخر يطلق عليه الحكومة السرية. يمكنك أيضاً تسميتها "نظام الأمن العالمي"، وهذا يتأتى من القناعة الراسخة بأننا نحن في أميركا شرطة العالم".
بعد عرض الفيلم في "كان"، كتبت مجلة "فرايتي" الأميركية التي تنشر عادةً آراءً معتدلة غير قاسية في الأفلام: "اغتيال كينيدي افتتح عصر المؤامرات، وتلته نظريات مؤامراتية أخرى كثيرة، من مثل موت مغني البيتلز بول ماكارتني، والهبوط على سطح القمر، والكائنات الفضائية، ومقتل الأميرة ديانا، واعتداءات 11 سبتمبر، التي اعتبرها البعض مؤامرة داخلية... وهناك اليوم شريحة لا بأس بها من الشعب الأميركي الذي يعتقد أن جو بايدن سرق الانتخابات (...). هذا كله يريك إلى أي مدى ذهبنا بعيداً في النظر عبر المرآة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في "كان"، طُرح على ستون، السينمائي المعروف جداً من الجمهور الفرنسي، أسئلة كثيرة. أحدهم سأله إذا كان يخطر في باله تصوير فيلم عن دونالد ترمب بعد أربع سنوات من الترمبية، فقال: "إذا أنجزت ذلك، سيكون هجاءً أو عملاً كوميدياً كما فعلت مع فيلم W عن جورج بوش. يقال إن ترمب كان أسوأ رئيس على الإطلاق، لكن هذا غير صحيح. بوش هو الذي كان أسوأ رئيس على مستوى الضرر الذي تسبب به للعالم. لا مجال للشك في ذلك، ولكن بعد أربع سنوات من الحكم، لم يستطع ترمب أن يحل أي شيء، وجعل الحال أسوأ مما كان عليه عندما جاء".
أخيراً، يرى ستون أن أميركا لا يمكن أن تتغير إلا إذا جاءها مرشح للرئاسة يدعم فعلاً السلام في العالم. في رأيه أن أميركا ما عادت هي هي مذ اغتيال كينيدي. ففي لحظة اغتياله، قامت الاستخبارات والجيش بإحكام قبضتهم على البلد، ما جعل صلاحيات الرئيس محدودة جداً.