إن ما جرى كان "يفطر القلوب بالنسبة إلى إنجلترا"، بطبيعة الحال. لكن العنصرية التي استهدفت اللاعبين السود في فريق إنجلترا هي أشد إيلاماً من التعادل مع خصم إيطالي قوي، فالنتيجة "الفعلية" التي انتهت إليها المباراة كانت التعادل.
اعتملت في نفوس هؤلاء اللاعبين مشاعر الخيبة والإحساس بالصدمة لأنهم خذلوا بلادهم. بيد أن تحمّلهم كل هذا صار أشد صعوبة بكثير بعدما تلقوا هذا الفيض من الرسائل التي تعرفون مدى قباحتها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
لا يستحق اللاعبون هذه المعاملة، فقد انفطرت قلوبهم، ويجب أن ينفطر أيضاً قلب كل من يشاهد ما يجري حالياً. ولو كان هناك أي شك في إذا ما كانت بادرة الركوع على ركبة واحدة في محلها، فهو قد تبدد تماماً الآن. صحيح أن "تويتر" لا تمثل بريطانيا، لكن هذا القدر من العنصرية الذي يجد طريقه إلى هذه المنصة يوحي أن الأمور ليست على ما يرام في البلاد، وأن العدالة العرقية لا تزال بعيدة المنال.
ينبغي أن يكون الركوع على ركبة واحدة عنصراً أساسياً في كل مباراة لكرة القدم، لأننا نرى حالياً بوضوح كيف يمكن أن تصبح هذه الرياضة محوراً للعنصرية ومنبراً للتعبير عنها، كما كانت منذ سبعينيات القرن الماضي حين أخذ اللاعبون السود الرواد يظهرون في ميادينها. والواقع أن الأمور لم تتحسن كما كنا نشتهي أن يحصل.
ويجب أن يتسع نطاق الجثو على ركبة واحدة لينفذه الناس بشكل تطوعي في كل أنواع التجمعات العامة والاجتماعات السياسية والمناسبات الاجتماعية وما إلى ذلك، ولا سيما أن هذه البادرة تعبر عن موقف المجتمع برمته مما يجري. ولذا يجب أن تتبناها العائلة المالكة وأعضاء البرلمان، وأن تُلتزم أيضاً على الصعيد الوطني كجزء لا يتجزأ من نمط حياتنا.
يقال إن هذه البادرة "تبث الفرقة"، وهي كذلك فعلاً، فقط لأن كثيرين من الأشخاص يعتقدون أن العنصرية ليست على درجة كبيرة من الأهمية، أو أنها مجرد وجهة نظر أخرى مشروعة، لا تختلف جداً عن إفصاح شخص ما عن رغبته في تأميم السكك الحديدية مثلاً. هذا توصيف خاطئ، فالعنصرية تعني العنف ونحن جميعاً نقف ضدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن من المحزن أيضاً هو سلوك أشخاص مثل بريتي باتيل وبوريس جونسون، ممن باركوا العنصرية منذ أسابيع عدة وأعطوها ضوءاً أخضر. صحيح أن هذا غير مفاجئ، لكنه يبقى معيباً. لماذا لا يزال [أمثال] هؤلاء حتى في الوقت الحالي يرفضون أن يشجبوا أولئك العنصريين الذين يصيحون صيحات الاستهجان احتجاجاً على جثو اللاعبين والمسؤولين على ركبة واحدة؟ لا بل، لماذا عمدوا إلى الدفاع أيضاً عن المشجعين الذين أطلقوا صرخات الاستهجان تلك؟ ولماذا سخروا من البادرة معتبرين أنها نوع من السلوك الرمزي الذي لا يؤثر، لأنه لا يعدو عن كونه حركة من قبيل "السياسة الشكلية"؟ ومن أين لسلوك الرعاع الصبياني الوقح في مباريات كرة القدم أن يمت بصلة إلى حرية التعبير؟
لم يكن يجب على باتيل وجونسون أن يتنصلا من مسؤولياتهما في موقع كل منهما القيادي. كان بوسعهما أن يقترحا على المشجعين الرافضين بادرة الجثو على ركبة واحدة الاكتفاء بالوقوف بصمت، تماماً مثلما تفعل وأنت تستمع لوجهة نظر معقولة لشخص آخر في نقاش ما، وهو ما ارتآه ساجد جاويد ونظمي الزهاوي بطريقة يستحقان الثناء عليها.
ولماذا أصبح الاحتجاج الصاخب على الركوع على ركبة واحدة بمنزلة الرمز المقدس لحرية التعبير في بريطانيا؟ هذا مقلق، لأن "حرية التعبير" هي قضية يُقلل من شأنها أشخاص يريدون فقط أن ينشروا الكراهية القائمة على العرق والدين، للتضييق على أبناء الأقليات ومن ثم إهانتهم لفظياً.
كانت المشكلة قائمة منذ بعض الوقت، وآخذة بالتبلور. وقد واظب أمثال نايجل فراج وبوريس جونسون وحلفائهما منذ أشهر عدة، حتى قبل انطلاق بطولة الأمم الأوروبية، على رفض انتقاد مشجعي كرة القدم الذين رفعوا أصواتهم بالاعتراض عندما كان أعضاء الفرق يجثون على ركبة واحدة، بغرض التعبير عن احتجاجهم على العنصرية ودعوتهم إلى تحقيق العدالة العرقية، التي تنادي بها حركة حياة السود مهمة.
من جانبه، سخر دومينيك راب من البادرة، كما جعل من نفسه أضحوكة حين اقترح أن البادرة كانت على علاقة ما بفيلم "صراع العروش". وقال كثيرون ممن اعترضوا على البادرة إنهم لا يجثون على ركبة واحدة إلا من أجل الملكة، فيما تعرض عناصر الشرطة ممن حذوا حذو اللاعبين للانتقاد، بحجة أن تلك البادرة كانت تصرفاً عرقياً "ينمّ عن الإذعان". والواقع أنها بادرة من أجل دعم العدالة العرقية، وهذه حقيقة لم تحظَ بالاعتراف على الإطلاق.
إن الجثو على ركبة واحدة هو عمل تضامني محدود، الغاية منه هي الوقوف ضد العنصرية. في هذه الأثناء، جرى تشويه احتجاجات حملة "حياة السود مهمة" وترويج الأكاذيب بشأنها ثم استغلالها كسلاح إضافي في الحروب الثقافية. وقد اعتُبر "الركوع على ركبة واحدة" مساوياً لـ"الماركسية"، أياً كان المعنى المفترض لهذه الأخيرة، ونظيراً لسلوك الرعاع ومظاهر العنف اللذين تشهدهما الشوارع. إلا أن البادرة لم تكن، ولن تكون، أي شيء من هذا القبيل.
إنها لحظة استجابة هادئة وصمت لتذكيرنا بما ينبغي أن نفعله كي نبني مجتمعاً أفضل. غير أنه كان من المناسب لجونسون وباتيل وفراج ونواب محافظين آخرين ممن يسهل انقيادهم أن يزعموا أن رحيم ستيرلنغ كان يسارياً متطرفاً وكأنه تروتسكي جديد، وأن غاريث ساوثغيت هو محرك "يقظة عميقة" كما لو كان نسخة جديدة وأشد فعالية من لينين نفسه. قال ساوثغيت في عام 2018، إن الحملة المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016 كانت تنطوي على "مسحة من العنصرية"، وهذا منطقي.
وتتجلى المفارقة الكبرى بالطبع في ادعاء كل من جونسون وباتيل أن هذه البلاد لا تعاني من مشكلة كبيرة اسمها العنصرية. بيد أن الاستجابة للركوع على ركبة واحدة من جهة، ورد الفعل بين ليلة وضحاها على ماركوس راشفورد، تحديداً، من جهة ثانية، أظهرا بشكل مؤلم فعلاً الحاجة إلى بوادر كهذه وإلى عمل من هذا النوع. باتت العنصرية متأصلة في البلاد. وتثبت كل النكات السمجة التي لا تحمل على الضحك ومعها الرموز التعبيرية المسيئة، أن حياة السود لا تهم العديد من الناس. وهذا ما ثبت وقدمت البراهين عليه.
يقول رئيس الوزراء ووزيرة الداخلية إن بريطانيا قد قطعت شوطاً طويلاً على طريق نبذ العنصرية، ويمكن لشخص غير أبيض أن يعيش في المملكة المتحدة بسلام طالما أنه يعمل بجد ويبذل قصارى جهده. وبعد كل شيء، يجدر بالمرء أن يتأمل كم نجحت باتيل في العمل لرفع شأنها هي من خلال الاجتهاد والتعب. لكن ربما لم يكن ذلك واضحاً جداً في اليوم التالي على نهائي بطولة الأمم الأوروبية بالنسبة إلى هؤلاء اللاعبين الشباب، الذين اجتهدوا فعلاً وبذلوا أقصى ما يستطيعون وأنشدوا النشيد الوطني، "فليحفظ الله الملكة"، بحماس قبل كل مباراة خاضوها، ومع ذلك فقد كوفئوا بالتعرض لهذه الاعتداءات.
لا يعتبر ذلك مؤلماً فحسب، بل هو دليل على أن البلاد تعاني من شوائب جسيمة للغاية، لأن العنصريين الذين يطلّون من على منصات وسائط التواصل الاجتماعي ليسوا سوى قمة جبل جليد كبير من العنصرية الأقل صخباً، غير المعلنة، والخفيّة اللا واعية التي تتفشى في المجتمع، وهي أمر يجد كل من جونسون وباتيل أن من المناسب تجاهله وإنكاره.
وحين يلح كل منهما بالحديث عن وضع حد لاستمرار الهجرة وضبط الحدود، فإنه حقاً يجعل الناس يتساءلون عن مدى مساوئ الهجرة على بريطانيا حالياً، مع أنها كانت في الماضي مفيدة وأسهمت في إثرائها، أقله لأنها رفدتها بعائلتي جونسون وباتيل. ويبدو التساؤل عن مدى شرعية العنصرية من عدمها من دون أهمية إذا كنت تعتقد أن المجتمع المتعدد الثقافات كان خطأ كما أنه ينطوي على الفشل. والواقع أن هذه التعددية الثقافية هي ما يجري استهجانه بصخب، والصراخ احتجاجاً عليه في مباريات كرة القدم، والتهجم على اللاعبين السود بسببه.
تمخضت موجة الإساءة عن نتيجة جيدة تتمثل في تفنيد الفكرة القائلة بأن بريطانيا هي من البلدان التي يتحقق فيها تكافؤ الفرص العرقية، وأن سبب التباين العرقي يعود فقط إلى إخفاقات أبناء هذه المجموعات الإثنية، وأن لا علاقة لعدم تكافؤ الفرص بالتحيز في المجتمع برمته. وقُبض على جونسون وباتيل وزملائهما الآخرين، من جديد، متلبسين بمحاولة خداع الأشخاص الملونين. فرئيس الوزراء وصحبه نجحوا في التستر على ذلك لزمن طويل للغاية.
أحس بفضول كبير لمعرفة ما خطة غاريث للمباراة التالية. ولا تتعلق هذه الخطة التي تثير فضولي بمباراة دولية ستُجرى في إطار الاستعدادات لبطولة العالم، بل تتصل بالتكتيكات التي سيتبعها الفريق في استقبالات "الترحيب بالعودة" التي لا بد أن تُقام على شرفه في مقر رئاسة الحكومة في داوننغ ستريت وفي قصر باكنغهام الملكي. ولو كنت غاريث ساوثغيت، لسألت اللاعبين ما إذا كانوا يريدون أن يركعوا على ركبة واحدة قبل أن يلقي بوريس جونسون كلمته المليئة بالنفاق، أو قبل أن يُعرب الأمير وليام عن خالص شكره لهم، بصدق، بالنيابة عن الأمة.
وكنت سأقترح عليهم أن يتجاهلوا بريتي باتيل إذا تجرأت على الظهور في القاعة. لكن غاريث والفريق أفضل من ذلك، وسيتصرفون بشكل سليم مئة في المئة ويفعلون ما تقتضيه الأمور. فهم كذلك على الدوام. ومع هذا، ينبغي لهم أن يواصلوا الركوع على ركبة واحدة في كل مناسبة، بغضّ النظر عن السبب.
© The Independent