إذا وضعنا الفيلم "السيد كاف" الأخير عملياً الذي وقعه المخرج صلاح أبو سيف قبل رحيله، باعتباره نزوة فنان لا يمكن اعتبارها حقاً من أعماله الكبرى، يبقى لدينا فيلمه "الأخير" بالفعل "المواطن مصري" كواحد من العلامات الكبرى في مسار سينمائي مشرف تواصل نحو نصف قرن وأنتج للسينما المصرية عدداً كبيراً من أفلام واكبت الصعود الفني في المرحلة المسماة العصر الذهبي للثقافة العربية. إذ حتى وإن لم يكن "المواطن مصري" (1991) واحداً من القمم التي وصلتها سينما صلاح أبو سيف، فإنه وبالمقاييس كافة فيلم يمكنه أن يحظى بمكانة أساسية في فيلموغرافيا مخرج الواقعية والحارة المصرية، وكذلك مخرج المشاكسة السياسية والصواب الاجتماعي. ولنقل أنه فيلم – وصية عرف أبو سيف كيف ينتزعه ويحققه في حقبة كانت سينما الكبار قد انتهت فيها كما عرف كيف يفرض فيه رؤية سياسية تتصدى للرقابة التي كانت قد بدأت تكشر عن أنيابها بعد عدة أفلام "تهاونا معها فبالغت في مشاكستها واضعة إيانا أمام امتحان دائم" بحسب تعبير رقيب سابق عرف عهده بانفتاح نادر في تاريخ الرقابة المصرية، ما مكن العديد من الأفلام من أن توجد وتصل إلى جمهورها وسط دهشة عامة.
بين أبو سيف والقعيد
المهم أن "المواطن مصري" لم يكن بأية حال من الأحوال فيلماً يعبر عن رؤية صلاح أبو سيف وحده لواقع ما في مصر. بل كانت الرؤية فيه شراكة بينه وبين الكاتب المميز يوسف القعيد، إذ إن الفيلم أتى مقتبساً بأمانة لا بأس بها عن واحدة من أقوى روايات هذا الكاتب الذي يكشف "المواطن مصري" عن كم أن الفن السابع ظلمه هو الذي يستحق عدد كبير من نصوص رواياته بل حتى قصصه القصيرة أن ينتقل إلى الشاشة ولو لمجرد أن القعيد يعتبر واحداً من الكتاب الأفضل والأدق رصداً للواقع المصري، وغالباً من منطلق رافض للسكوت عن مكامن الخلل، ناهيك بأنه هو نفسه صاحب رؤى سينمائية ويتابع أحوال السينما وتجديداتها، محاولاً قدر الإمكان أن يطعم بلغتها لغته الأدبية. ومن هنا ليس نادراً أن يحسّ قارئ القعيد وهو في حضرة أدبه وكأنه يقرأ سيناريو كتب للسينما أصلاً. وهذا ينطبق تحديداً على اثنتين من رواياته البديعة نقلتا إلى الشاشة إحداهما "زيارة السيد الرئيس" التي حققها منير راضي، وهذه التي نحن في صددها هنا "الحرب في بر مصر"، التي تحولت على يد كاتب السيناريو المميز بدوره محسن زايد إلى فيلم "المواطن مصري" الذي رصدت له "العالمية للسينما" إمكانات ونجوماً كباراً، وهي تعرف سلفاً أنه إن لم يحقق مداخيل جيدة، وهي شيمة كل الأعمال الفنية الكبيرة في حياتنا الثقافية العربية، سيكون مردوده المعنوي كبيراً. وكانت تلك هي الحال طبعاً كدليل إضافي على أن "المواطن مصري" فيلم مميز!
تزوير في ملف التجنيد
تدور حكاية الفيلم، على خطى حكاية الرواية طبعاً في قرية ريفية مصرية في عام 1973، أي في العام الذي دارت فيه تلك الحرب التي كان من نتائجها استعادة مصر أراضي لها كانت محتلة من قبل إسرائيل وأسفرت بالتالي عن دخول مصر الرئيس أنور السادات في دوامة السلام مع هذه الدولة. غير أن الحكاية التي تروى لنا هنا لا علاقة مباشرة لها بالسياسات الكبيرة بل بالسياسات الأصغر، أي تلك التي تدور في ظل سياسات ومناورات الكبار وتمسّ حياة الناس البسطاء. وأبسط الناس البسطاء هنا هو الفلاح الأجير البائس عبد الموجود العامل عند العمدة الإقطاعي عبد الرزاق الشرشابي، وقد أعاد له حكم الرئيس السادات أراضيه التي كانت الثورة قد وزعتها على الفلاحين. ثم حين طالبته الدولة بأن يجنَّد واحد من أبنائه وهو توفيق الذي أنجبه من زوجته الشابة الثانية، ترفض الزوجة ذلك بقوة وإصرار فلا يكون أمام العمدة الداهية إلا أن "يقنع" عبد الموجود بأن يرسل ابنه إلى الجبهة حاملاً اسم توفيق. ولبؤسه يقبل الفلاح هذا مقابل وعد من العمدة بأن يتنازل له عن الفدادين الخمسة التي يزرعها عادة لحساب العمدة ويعينه غفيراً شخصياً له ثم يصرف له مكافأة لا بأس بها.
إغراءات لا تقاوَم
أمام هذه الإغراءات التي لا يمكنه مقاومتها ناهيك بأنه غير قادر أصلاً على أن يرفض للعمدة طلباً يوافق عبد الموجود على "الصفقة" وتسير الأمور بحسب الخطة المتفق عليها ويذهب الفتى "مصري" ابن الفلاح عبد الموجود إلى الجبهة على رغم أنه في الأصل "معفى من التجنيد" كونه الابن الوحيد لأبيه. وتكاد الأمور تمر على ما يرام لولا حدوث ما لم يكن متفقاً عليه: يستشهد "مصري" في الجبهة خلال حرب أكتوبر، ولكن بعد أن يكون قد اعترف لرفيقه في السلاح حسن بحقيقة ما جرى. وتتعقد الأمور حين يستعاد جثمان "مصري" إلى القرية، ونتوقع أن يبدأ الصراع من حول بنوته بين العمدة عبد الرزاق الشرشابي وأجيره الفلاح عبد الموجود. والواقع أن الصراع ما كان يمكن له أن يقوم حتى وإن كان المجند حسن يخبر القضاء بالأمر أي بأن الشهيد هو "مصري" عبد الموجود وليس توفيق الشرشابي كما تقول أوراقه الرسمية ودفاتر تجنيده، وكما يصر العمدة الإقطاعي الذي وجد الفرصة سانحة للتحول إلى والد شهيد وتحقيق كل المكاسب التي تتيحها تلك الوضعية، من دون أن يكلفه ذلك شيئاً. وحين تبدأ الشرطة بالتحقيق في الأمر يصبح على الفلاح عبد الموجود أن يقول كلمة الحسم في القضية: هل الشهيد ابنه أم ابن العمدة؟ هو ابن العمدة يقول الأب المفجوع مرعوباً. فهو من ناحية لا يمكنه مقاومة العمدة ومن ناحية ثانية يجب أن يفكر برزقه ورزق عائلته. حين يختم التحقيق يتنفس العمدة الصعداء، إذ يجد نفسه غير مجبر حتى على الالتزام بما كان وعد عبد الموجود به. فاكتفى بأن نقده 261 جنيهاً ثمناً لابنه!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نخبة من ممثلين كبار
تلك هي الحكاية المريعة التي تحكيها لنا رواية يوسف القعيد ويقدمها فيلم صلاح أبو سيف من طريق استخدامه عدداً من أفضل الممثلين المصريين للقيام بأدوار الفيلم، بدءاً من عمر الشريف الذي كان حينها قد عاد من سنواته "العالمية" مكللاً بتاج نجومية استثنائي، وصولاً إلى عزت العلايلي وحسن حسني وصفية العمري وخالد النبوي وغيرهم، من الفنانين الذين عرف المخرج كيف يطلع منهم بأفضل ما لديهم. والطريف أن الفيلم قد تعمّد أن يعطي مؤشرات سياسية بصرية في الفيلم حاول المخرج من خلالها أن يقول أشياء كثيرة. فمثلاً نراه يعلق في بيت العمدة (عمر الشريف) صورة للرئيس السادات كونه هو الذي أعاد إليه "أراضيه"، بينما علق صورة للرئيس السابق جمال عبد الناصر في بيت الفلاح عبد الموجود الذي سيقول هنا مراراً أن عبد الناصر لم يمنحه أرضاً فقط بل أعاد إليه كرامته. ولقد كان من نتيجة هذا الوضوح في الاختيار السياسي أن هاجم الصحافيون من مؤيدي الرئيس السادات الفيلم قائلين أن هذا الجانب السياسي فيه هو الذي أفسده. ولقد روى أبو سيف كيف أن "المواطن مصري" لم يلق ترحيباً في مهرجان موسكو حين عرض. فـ"حتى روسيا كانت قد تبدلت. لو أن هذا الفيلم عرض فيها في سنوات الستين كان سيلقى نجاحاً هائلاً" قال أبو سيف مبتسماً.
"الجيش لم يعترض"
من ناحية ثانية حين تحدث أبو سيف عن فيلمه هذا قبل رحيله بفترة، لم يفته أن يشير إلى أن مسؤولين في الجيش المصري شاهدوا الفيلم قبل عرضه، باعتبار أن موضوعه يلامس قضية لها علاقة بالجيش، وكانت المفاجأة أنهم لم يعترضوا على الفيلم، مؤكدين، بحسب ما روى أبو سيف، أن "هناك الكثير من مثل هذه الحالات، أي حالات التزوير وإبدال اسم باسم، تحدث في الجيش، أو كانت تحدث لكنها لم تعد تحدث الآن!!".