يقول محتجز، نطلق عليه اسم "ريتشارد" المستعار، إن "الأيام والليالي تتداخل وتطمس بعضها بعضاً. بالكاد أستطيع أن أنام في الليل، لكن حين أغمض عيني، أشاهد كوابيس. أشعر وكأنني قد جردت من هويتي، وأن شخصيتي يجري تحطيمها. إنه تعذيب نفسي".
وكان ريتشارد، 23 سنة، يتحدث من زنزانة السجن التي حبس فيها لما يزيد على 22 ساعة في اليوم منذ مارس ( آذار) 2020. وقد خطا خارج غرفته الصغيرة ذات الرائحة الفاسدة في بعض الأيام لمجرد 30 دقيقة.
ولا يقضي ريتشارد، البرتغالي الأصل، الذي عاش في المملكة المتحدة منذ كان في سن السادسة من عمره، حالياً محكومية عن أي جريمة. لقد عوقب بالسجن على جرائم تتعلق بالمخدرات، لكن تلك العقوبة انتهت في فبراير (شباط) 2021. وهو الآن في السجن باعتباره ليس بريطانياً (مهاجر غير شرعي).
وريتشارد واحد من قرابة 570 محتجزاً في سجون المملكة المتحدة، علماً أن هذا الرقم يمثل ازدياداً بنسبة 70 في المئة على عدد المحتجزين في مارس 2019.
يُشار إلى أن الأجانب الذين يُحكم عليهم بالسجن لمدة تزيد على 12 شهراً في المملكة المتحدة، يكونون عرضة للترحيل، ومن الممكن احتجازهم بموجب صلاحيات الهجرة في نهاية عقوبة السجن في انتظار ترحيلهم من البلاد، حيث قد تجري العملية في أي وقت.
ويُنقل هؤلاء المحتجزون عادة إلى مركز ترحيل للمهاجرين، حيث تكون الظروف أقل صرامة وتقييداً من تلك السائدة في السجون، كما يستطيعون الحصول هناك على مشورة قانونية وقت الضرورة.
إلا أن وزارة الداخلية سعت منذ اندلاع الجائحة، إلى احتجاز عدد أقل من الأشخاص في مراكز الترحيل لأسباب تتعلق بالوقاية من "كوفيد -19"، وزج كثيرين في السجون بدلاً من وضعهم في هذه المراكز.
وفي الوقت نفسه، شُددت القيود المفروضة في السجون بشكل حاد، فمنذ مارس 2020، يجري إبقاء النزلاء في الزنازين من 22 إلى 24 ساعة في اليوم، وذلك من أجل احتواء تفشي "كوفيد -19".
حين تنفذ حكماً تعرف متى تنتهي عقوبة سجنك ويُطلق سراحك، لكن عندما تكون محتجزاً فقد تبقى في الحبس من يومين إلى سنة، أو ربما إلى ما لانهاية.
ويثير تقرير جديد أعدته منظمة "الكفالة لمعتقلي الهجرة" وجمعية "العدالة الطبية" الخيرية، اطلعت عليه صحيفة "اندبندنت" ، مخاوف من أن هذه الظروف والفترة التي تستغرقها فترات عزل المحتجز، ربما ترقى إلى الحبس الانفرادي الذي يجري تمديده، وقد ينطوي على انتهاك حقوق الإنسان لهؤلاء النزلاء".
وتُظهر نتائج التقرير التي تستند إلى مقابلات أُجريت مع المحتجزين والعمل الاجتماعي الذي يشتمل على التعامل مباشرة مع الأشخاص المعنيين، أن ظروفاً كهذه يمكن أن تفاقم مشكلات الصحة العقلية القائمة وتعجل بنشوء مشكلات جديدة من هذا النوع، باتت أشد سوءاً بسبب النقص "المقلق" للدعم المتوفر لأشخاص محتجزين في السجون.
ويذكر التقرير أن الحبس الانفرادي مضر لجميع السجناء، بيد أنه مؤذ بشكل خاص للمحتجزين بموجب صلاحيات الهجرة، وذلك لأن مدة سجنهم غير محدودة، ما يؤدي إلى "تفاقم الشعور بالعجز، بالمقارنة مع الأحكام ذات المدة المحددة".
ويعاني ريتشارد حالياً من الكوابيس واستعادة ذكريات الماضي، ما يجعله قادراً على الاستمرار فقط بفضل الأدوية، علماً أنه حين دخل السجن في 2018، كان قد قاسى سلفاً من الكآبة واضطراب ما بعد الصدمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأورد التقرير الشهادة التي أدلى بها ريتشارد من سجنه. وهو يشرح لـ"اندبندنت" الآن بعدما أُطلق سراحه في مايو (آيار) الماضي، أنه لايزال يشعر بالصدمة بسبب الفترات الطويلة التي قضاها في السجن الانفرادي.
ويقول الشاب الذي يحاول أن يطعن بقرار ترحيله عن المملكة المتحدة للبقاء في هذه البلاد، حيث يعيش جميع أفراد عائلته بصورة دائمة، إنه كان يشعر في السجن وكأنه قد جُرد من هويته، وأن شخصيته "يجري تحطيمها"، إلى الحد الذي يجبره الآن على الصراع من أجل العودة للاندماج في الحياة العادية.
ويلفت إلى أنه "في السجن، بدأت أشعر بالتوتر عندما أخرج من الزنزانة، الأمر الذي دفعني إلى الامتناع عن القيام بأي تمارين يومية. لم يعجبني ضوء الشمس، ولهذا أسدلت ستائر زنزانتي. وكان الأمر يبدو وكأن عقلي كان يعذبني".
ويضيف "لم أكن أعرف ماذا أفعل بنفسي في الأيام الأولى التي تلت إطلاق سراحي. كان هناك كثير مما أردت القيام به، لكنني لم أستطع ذلك. وأنا لم أستأنف بعد حياتي العادية. فأداء أشياء أساسية مثل الذهاب إلى الحانوت أو الجلوس على مقاعد القطار، لا يبدو لي أنه أمر صحيح".
ويفيد الشاب بأن وجوده في السجن بات أشد صعوبة بشكل دراماتيكي حين انتهت محكوميته، وجرى احتجازه بموجب سلطات الهجرة.
ويلفت إلى أن "الأمر أصبح فجأة أكثر صعوبة بسبب الغموض الذي كان يلف كل شيء. حين تنفذ حكماً تعرف متى تنتهي عقوبة سجنك ويُطلق سراحك، لكن عندما تكون محتجزاً فقد تبقى في الحبس من يومين إلى سنة، أو ربما إلى ما لانهاية، ويمكن لهم أن يأتوا في أي وقت ليضعوك على متن طائرة. كان الأمر رهيباً".
وتم الزج بعمر، وهو محتجز آخر، في السجن بموجب سلطات الهجرة، منذ انتهت في أكتوبر ( تشرين الأول) 2020 فترة محكوميته بالسجن عقوبة له على جريمة السرقة. وقد احتجز على الرغم من إبداء استعداده في يناير (كانون الثاني) 2020، للعودة إلى وطنه الأصلي.
يقول عمر للباحثين الذين أعدوا التقرير، إن الحبس الانفرادي في زنزانته من 23 إلى 24 ساعة في اليوم، وعدم القدرة في بعض الأيام على الخروج منها نهائياً، ما منعه من الاستحمام وممارسة التمارين الرياضية، كان له تأثير عميق على صحته النفسية ودفعه إلى التفكير بالانتحار.
ويوضح عمر، 47 سنة، "إن كل يوم كان بمثابة التعذيب. كنت أشعر بالاختناق وأحس بأنني أريد أن أُؤذي نفسي وأُنهي حياتي، لأنني لا أجد مخرجاً مما أنا فيه".
ويتابع المحتجز "كنت أستيقظ في الليل وأنا أصارع لالتقاط أنفاسي. ثم يبدأ جسدي بالارتعاش من تلقاء نفسه، وأشعر وكأنني ألفظ أنفاسي الأخيرة".
ويزيد عمر "لم أكن أعاني حين دخلت السجن من أي مشكلات عقلية، بيد أنني الآن أكابد القلق، والمزاج السيء للغاية ونوبات الهلع والأرق".
أنا بصدق عاجز عن فهم السبب الذي يحمل الحكومة على إنفاق المال كي تبقيني في السجن
وقد أُطلق سراح عمر هذا الأسبوع بكفالة. وقال الرجل الذي كان يتحدث لـ "اندبندنت" بعد أيام من خروجه من السجن وانتقاله للعيش في بيت يشاطره إياه آخرون وضعته فيه وزارة الداخلية، إنه كان لايزال يعاني من نوبات الهلع كل ليلة، ويشعر بالخوف من الخروج من بيته.
ويذكر "أحس بالخوف. لا أعرف السبب. كنت أتمتع بصحة جيدة جداً، بيد أنني أشعر الآن بالوحدة والإحباط طوال الوقت".
ويوضح عمر أنه شعر بصدمة لأن وزارة الداخلية أبقته في الحبس لمدة 17 شهراً بعد موافقته على العودة إلى وطنه الأم.
ويتابع "كان التأخير في البداية بسبب كوفيد، ولكن صار هناك متسع كبير من الوقت بعد ذلك، حين كان من الممكن أن أعود جواً إلى بلادي. أنا بصدق عاجز عن فهم السبب الذي يحمل الحكومة على إنفاق المال كي تبقيني في السجن. لابد أن ذلك يكلف دافع الضرائب الكثير وهذا غير ضروري البتة".
وتقول آني فيسواناثان، وهي مديرة في منظمة "الكفالة لمعتقلي الهجرة"، موضحة "آمل أن يحمل هذا التقرير الأشخاص من ذوي الصلاحيات، على معاينة الحالات وتقييم مدى سلامة الاستخدام المستمر لهذه الإجراءات الوحشية التي تلطخ مجتمعنا بالعار".
وتضيف "ينبغي وضع حد لهذه القسوة وإطلاق سراح المحتجزين كي يستطيع المجتمع تقديم العون لهم".
أما إيما جين، وهي مديرة في جمعية "العدالة الطبية" الخيرية، فتكرر ما جاء في تعليقات آني، مشيرة على أن أطباء جمعيتها الخيرية قد شهدوا بأنفسهم التأثير"المدمر" للحبس الانفرادي على المحتجزين بموجب سلطات الهجرة، معتبرة أن هذه الإجراءات "مقلقة بشكل بالغ".
وتردف "إن تمديد السجن إلى ما بعد انتهاء العقوبة الجنائية يعني إلحاق ضرر جسيم بالمحتجز خلال فترة لا لزوم لها على الإطلاق من السجن الإداري المحض، وبسببها، وعلينا أن نتساءل عما إذا كان ذلك إجراء حضاري، أم أنه في الحقيقة مجاني لا مبرر له".
وتزيد إيما "إن هذه حتماً هي أكبر فضيحة لم يسمع بها حتى الآن معظم الناس".
في غضون ذلك، قال متحدث باسم الحكومة إنها تأخذ مصلحة المحتجزين الذين ترعاهم "على محمل الجد"، وإن بعض هؤلاء قد أُدخلوا السجون بدلاً من وضعهم في مراكز الترحيل الخاصة بالمهاجرين، من أجل الحد من انتشار "كوفيد" في هذه المراكز.
وأضاف "إننا نستجيب إلى الظروف الاستثنائية لتفشي كوفيد -19، وقد حظيت الإجراءات الحاسمة التي اتخذناها خلال الجائحة، بدعم هيئة الصحة العامة في إنجلترا، حيث أدت إلى إبقاء الآلاف من المحتجزين والمسؤولين والسجناء في أمان".
© The Independent