منذ البداية لا بد أن نقول هنا إن "أخطر" ما في كتاب "محاكمة سقراط" الذي أصدره الصحافي والمؤرخ الأميركي إيزيدور ستون خلال سنوات حياته الأخيرة، يكمن في كونه يحمل من متعة القراءة وجزالة الأسلوب وقوة الإقناع ما يدفع القارئ إلى التعاطف مع أفكاره. والسيئ في الأمر هو أن أفكار هذا الكتاب تقف بالتناقض مع ألوف الكتب والاستنتاجات التي سبق أن صدرت طوال عصور عن سقراط ومحاكمته. فإذا استثنينا مسرحية لأرستوفان وأوبرا بائسة من هنا وكتاباً يزعم نفسه تاريخياً من هناك، عرفت الكتب والأعمال الإبداعية الأخرى كيف تدافع عن سقراط مفردة له مكانة أساسية في تاريخ الفكر الإنساني مانحة إياه لقب "فيلسوف الإنسانية الأول" حتى وإن لم يعثر له أحد على أي كتاب أو نص فلسفي يبرر اللقب. فنحن نعرف دائماً أننا لم نتعرف على سقراط وأفكاره إلا من خلال الذين كتبوا عنه وعلى رأسهم أفلاطون الذي جعل قسماً كبيراً من فلسفته ونتاجه الفكري ظلاً للفكر السقراطي. منذ أفلاطون إذاً نحن ننظر إلى سقراط بوصفه شهيد حرية الفكر على أقل تقدير. لكن المشكلة مع كتاب ستون "محاكمة سقراط" تبدأ هنا.
أثينا القاتلة كانت على حق!
تبدأ من تكريس ستون أكثر من 300 صفحة للتأكيد على أن أثينا كانت محقة في محاكمة سقراط وإعدامه، منوهاً بديمقراطيتها مشاركاً قضاءها في توجيه نفس الاتهامات إلى صاحب مبدأ "اعرف نفسك". صحيح أن ما أتى به ستون لم يكن جديداً. فمنذ البداية كان هناك مشاركون لأثينا في موقفها. لكن هؤلاء كانوا قلة شديدة الضآلة بالمقارنة مع الذين ناصروا الفيلسوف على مدى الأزمنة وأخذوا على المدينة/ الدولة الإغريقية كونها لم تتحمل رغم ديمقراطيتها المعلنة صوتاً صارخاً ليس له من سلاح يمتشقه سوى سلاح الكلام. فما الحكاية؟ ما الحكاية وستون نفسه، وقبل إصداره هذا الكتاب الذي وقع على الحياة الفلسفية المعاصرة كالانفجار آتياً من آخر شخص كان يمكن أن يُتوقع منه هذا الموقف، لم يكن رجلاً عادياً، ولم يكن منتمياً إلى يمين متطرف قد لا يستسيغ مواقف فيلسوف مهيب. كان ستون معروفاً ومنذ زمن بعيد بمواقفه التقدمية، وحتى بوقوفه مع حركات التحرر في العالم أواسط القرن العشرين، ومن هنا كان له دائماً أعداء من نفس نوعية أولئك الذين حاكموا سقراط وأدانوه بتهمتي "تحقير آلهة المدينة" و"إفساد الشبيبة". ومع هذا ها هو يكشف عن وجه مباغت. وذلك حين صار في العقود الأخيرة من حياته!
زخم زمن التقاعد
تبدأ الحكاية مع ستون تحديداً في عام 1971 حين أجبرته أوضاعه الصحية المتفاقمة على أن ينهي وجود مجلة أسبوعية هي نشرة كان سماها باسمه "أسبوعية ستون" كان يعبر فيها عن مواقفه واكتشافاته العلمية معلقاً على أحداث وعلى كتب وعلى آراء لآخرين سرعان ما تجد صدى لدى متابعين كثر له. لكنه فجأة أحس بالتعب وقرر أن يختم حياته و"اجتهاداته" متأملاً بالتحديد في تلك "المعجزة اليونانية" التي دائماً ما شغلت باله. وهكذا في الثالثة والستين من عمره قرر أن الوقت قد حان لدراسة حرية الفكر في التاريخ. وهو وقف في ذلك عند محطة أولى لدى سلفه ومواطنه الشاعر الأعمى ميلتون الذي كان من ناحيته قد توقف عند الموضوع نفسه. لكن ميلتون سرعان ما أوصله إلى عصر النهضة الأوروبية، بعد أن مر بتعمق على الصراع بين الإصلاح والباباوية ومعضلات الحرية الفكرية في العصور الوسطى. ومن هنا كانت تلك الخطوة التي عبرها في تراجعه الزمني للوصول إلى الفكر اليوناني.
من اليقين إلى الشك
قبل ذلك لم يكن يجهل هذا الفكر، أو بالأحرى كان ينظر إليه كمسلمات من خلال نظرات المؤرخين. ومن هنا راح يسأل نفسه عما إذا لم يكن عليه، "وقد وقعت مثل كثر غيري في هوى كل ما يتعلق بالعصر الإغريقي" كما يقول، أن يتوغل في الفكر اليوناني مباشرة ومن غير وسطاء، أي تحديداً عبر دراسة اللغة نفسها. وبالفعل كرس شهوراً طويلة راح يدرس فيها اللغة ليلاً ونهاراً، وسبعة أيام أسبوعياً حتى أتقنها وهو يقترب من اكتمال ثلثي قرن من العمر، "في معجزة تكاد تشبه المعجزة اليونانية نفسها". وكانت نتيجة ذلك كله أن تراكمت الأسئلة لديه حول حقيقة ما حدث. فهو واستناداً إلى الدراسات والنصوص القديمة والوثائق وإضبارات المع والضد، انتهى الأمر به بعد سنوات "تعمق طويلة" كما سوف يقول، إلى كتابة ذلك المقال المسهب الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز ماغازين" تحت عنوان يكفي وحده لقول كل شيء: إي. أف. ستون يفجر الحقيقة كلها حول قضية سقراط" مع مقدمة تقول ما معناه: باحث عجوز في القمامة يلقي ضوءاً جديداً على لغز عمره 2500 سنة ويفضح حقائق سياسية أثينية بذل أفلاطون قصارى جهده لإخفائها...
معركة مزدوجة
إذاً كانت معركة ستون معركة مزدوجة: من ناحية ضد سقراط ومن ناحية ثانية ضد أفلاطون. غير أن ستون عند تلك اللحظة تبنى موقف أثينا من سقراط إنما انطلاقاً من تهمتين "جديدتين" تختلفان إلى حد ما عن التهمتين اللتين حوكم الرجل بسببهما: فمن ناحية "كشف عن أن ممارسات سقراط كانت منافية للديمقراطية تماماً"؛ ومن ناحية ثانية تحدث عن بقاء سقراط مقيماً في أثينا خلال حكم الطغاة الثلاثين ما يعني في رأيه تواطؤاً مع أولئك الطغاة. وعلى هذا النحو وضع ستون قضية سقراط على مستوى سياسي بعد ما كانت متموضعة تاريخياً وانطلاقاً من حكم المحكمة عليه عند مستوى أخلاقي وديني. ولم يكن هذا بالشيء القليل بيد أنه لم يكن ليبدو شديد العداء لسقراط من جانب الباحث المعاصر. ومن هنا حين عاد ستون بعد سنوات وحول المقال المسهب إلى ذلك الكتاب الذي طور البحث و"عمق" التحليل، وجدناه يضيف العوامل الأخلاقية والدينية المعهودة إلى العوامل السياسية في لعبة مزج من شأنها في نهاية الأمر أن تبرر للمحكمة الأثينية فعلتها فيتحول سقراط من ضحية إلى متواطئ مع الطغاة ما يقلب الأسطورة بأسرها ناسفاً أطروحات عديدة دائماً ما وقفت في صف سقراط واصلة لدى "فيلسوف فرنسي" هو موريس كلافيل إلى عنونة كتاب له أصدره في الوقت نفسه الذي كان ستون يشتغل فيه على أطروحته "هذا اليهودي سقراط الذي تجمعنا كلنا لقتله"...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهدف الذاتي الذي تحقق
طبعاً لن نقول هنا إن ستون قد تمكن من أن يحدث قلبة أساسية في النظرة إلى سقراط وذلك بالتحديد، رغم الدعم الذي وجدته أطروحته من قبل كثر من الباحثين، لكنه تمكن من هز الأسطورة وتحريك السواكن كما من فتح نقاش واسع من حول كتابه والتجديد الذي حاوله فيه. أما مشكلة كتاب ستون التي سرعان ما تبدت رئيسة فكمنت في أن كتابه رغم ظرفه والأدلة التي اشتغل عليها، بدا وكأنه نوع من تصفية حساب شخصية بينه وبين أول فيلسوف إنساني في التاريخ. والحقيقة أن ما ميز الكتاب سيكون هو نقطة ضعفه: أي لغته الجميلة ومتعة القراءة التي يوفرها. ومن هنا بدا كتاب "محاكمة سقراط" أقرب إلى القطعة الأدبية البديعة منه إلى الكتاب العلمي. ولقد أتى أسلوب الكتاب من الانتقائية، ومن السعي للمصادرة المسبقة على المواقف والحوارات وكذلك بدا من الرغبة في نهاية الأمر في انتزاع سقراط ما من أفلاطون ليتملكه بانياً من خلاله إمارة فكرية خاصة همها الأساسي نزع الأساطير. باختصار، في نهاية الأمر بدت كتابة ستون كتابة ذاتية لذيذة وطريفة تحاول أن ترسخ مكانة ما لكاتب العصور الحديثة بأكثر كثيراً مما تحاول نسف مكانة حازها سقراط على مدى ألوف السنين ولا يمكن لا لكتاب واحد ولا لمكتبة بأسرها أن يدمرا تلك المكانة. ومهما يكن فإن إيزيدور ستون (1907 - 1989) بالشهرة التي حازها كتابه وبطرح نفسه بلغته الراقية وسمعته القديمة كمدافع عن حرية الفكر وتحرير الشعوب حقق الجزء الآخر من الهدف قبل أن يرحل عن عالمنا أي أن يضع اسمه فكرياً في مصاف الكبار خطأً أو صواباً.