ينتقل لبنان إلى مرحلة جديدة من التأزم على كل الصعد، ما يفرض على سائر القوى الإقليمية والدولية المتابعة لمأزقه السياسي الاقتصادي والمعيشي تعاطياً جديداً مع هذه المرحلة، يعمق انخراطها في معالجة تبعات هذا التأزم ومضاعفاته المحلية والإقليمية والدولية.
وإذا كان اعتذار سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة بعد ثمانية أشهر وثلاثة أسابيع من تكليفه في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، أسدل الستار على احتمال قيادة زعيم تيار "المستقبل" حكومةً إنقاذية للبلد لانتشاله من الحفرة الاقتصادية والمالية التي هوى إليها منذ صيف عام 2019، فإن ردود الفعل الفورية إثر إعلان اعتذاره، شكلت مؤشراً واضحاً إلى مدى خطورة المرحلة المقبلة، في ظل صعوبة التفاهم بين القوى السياسية على الحكومة المقبلة. وهي صعوبة ستبقى قائمة حتى بعد تنحي الحريري عن المهمة، لجهة اختيار البديل الذي يخضع لمعايير تفرض نفسها، أولها أن تقبل الشخصية التي ستتولى المهمة بما رفضه الحريري من مطالب لرئيس الجمهورية ميشال عون، أو أن يتنازل الأخير عن مطلبه بالثلث المعطل داخل التركيبة الحكومية المقبلة، لرئيسها البديل، طالما حقق مبتغاه بالتخلص من الشراكة مع الحريري في الحكم.
مطالعة الحريري
لخص الرئيس المكلف المعتذر أسباب اعتذاره في مقابلة تلفزيونية أعقبت إعلانه قراره بالآتي:
أولاً: إصرار عون على الحصول على الثلث المعطل في الحكومة، عبر رفضه أن يسمي الرئيس المكلف وزيرين مسيحيين، مصراً على أن يسميهما هو بحجة أن تسمية المسيحيين هي حق الرئيس المسيحي، ما يرفع حصته من 8 إلى 10 وزراء، في تركيبة الـ24 وزيراً التي عرضها عليه في 14 يوليو (تموز) الحالي، وهو الأمر الذي كرر الحريري رفضه مع تأييد أميركي فرنسي مصري وروسي على عدم جواز حصول أي فريق، لا سيما الفريق الرئاسي، على قدرة تعطيل عمل الحكومة المطلوب منها تنفيذ إصلاحات حالت دونها الخلافات اللبنانية على مدى عقود. ودفع هذا الإصرار الحريري إلى القول إنه أحجم عن الاستمرار في المهمة، ممتنعاً عن تشكيل "حكومة ميشال عون".
ثانياً: إن عون أبلغه تكراراً أن تكتل "التيار الوطني الحر" النيابي لن يمنح حكومته إذا تشكلت، الثقة في البرلمان، وأنه ربما منحه نائبان أو ثلاثة من الكتلة هذه الثقة، ما يعني أنه سيحصل على "ربع ثقة" (كما نقل عن عون)، ما دفعه إلى التساؤل: لماذا يحصل الفريق الرئاسي على 8 وزراء مقابل حجب نوابه الثقة عن حكومته؟
ثالثاً: إن عون لا يريده رئيساً للحكومة، ولذلك حين اقترح عليه أن يأخذ يوماً إضافياً من أجل دراسة التشكيلة التي قدمها له، وأنه مستعد للبحث في تبديل اسمين أو ثلاثة، قال له لا ضرورة لذلك طالما تعذر التوافق، فأبلغه حينها أنه يعتذر عن مواصلة المهمة. فالرغبة في عدم ترؤس الحريري الحكومة كان عون عبر عنها، وكذلك صهره ووريثه السياسي رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، عشية تكليفه من الأكثرية النيابية، الأمر الذي قبلا به على مضض لينتقلا إلى وضع العراقيل في وجهه، فكلما جرى حل عقدة، انتقل الفريق الرئاسي إلى عقدة جديدة، سواء بالمطالبة بحقيبة أو بتسمية وزير.
رابعاً: إن "حزب الله" لم يضغط بما يكفي على حليفه باسيل من أجل تسهيل تأليف الحكومة. وقال الحريري، "إنني لم أَرَ هذا الضغط". خرج الحريري عن نهج المهادنة مع "الحزب" بقوله، إنه "لا أحد يصدق أنه ضغط على حليفه" لأجل تسهيل تأليف الحكومة، معتبراً أنه "لا حليف أهم من البلد... وحزب الله يحمي ميشال عون". كما اتهمه بأنه وقف سابقاً ضد الإصلاحات وذكر بمرحلة الصراع العنيف معه، في سياق دفاعه عن موقف السعودية ونفيه وجود أزمة بينه وبينها، بالقول إن مشكلتها مع "الحزب"، وإنها لم توزع سلاحاً في البلد ولم تقم بـ"7 أيار" (يوم اجتاح حزب الله بيروت وجزءاً من الجبل بالسلاح في عام 2008). وقال إن "المشكلة الأساسية في البلد هي عون وتحالفه مع "حزب الله"، ومن لا يرى هذه المشكلة بوضوح هو أعمى".
في المقابل، برر الحريري تواصله مع "الحزب" بسعيه إلى تجنب فتنة سنية - شيعية، وأبدى إيجابية قصوى نحو الركن الثاني في الثنائية الشيعية، (زعيم حركة أمل) رئيس البرلمان نبيه بري، مبدياً الحرص على العلاقة المتينة معه شاكراً له وقوفه معه في محاولته تأليف الحكومة.
خامساً: برر الحريري اعتذاره بالقول إن "الفراغ الذي يستمتع به ميشال عون أصبحت أنا جزءاً منه، وإذا كان يريد بقاءه حتى آخر عهده فهذا قراره، وهو الغلط، وليس أنا".
عون: قراره مسبق بالاعتذار
الذين تموضعوا على الحياد بين عون والحريري وجدوا أن ما جرى في اليومين اللذين سبقا الاعتذار لم يكن سوى مناورات من الجانبين من أجل تحميل الآخر مسؤولية فشل قيام الحكومة. وفي مقابل حجج الحريري المنطلقة من خلفية قناعته بحتمية تنحيه لأن الفريق الرئاسي يريد التخلص منه بأي ثمن، سرد عون مطالعة مضادة للقاءيه الأخيرين معه.
وجاء في بيان للقصر الرئاسي، أن الحريري "لم يكن مستعداً للبحث في أي تعديل من أي نوع كان، مقترحاً على الرئيس عون أن يأخذ يوماً إضافياً واحداً للقبول بالتشكيلة المقترحة. وسأله الرئيس عون ما الفائدة من يوم إضافي إذا كان باب البحث مقفلاً. وعند هذا الحد انتهى اللقاء وغادر الرئيس الحريري معلناً اعتذاره".
وأوضح البيان أن عون "شدد على ضرورة الالتزام بالاتفاق الذي تم التوصل إليه سابقاً (في توزيع الحقائب، لا سيما السيادية منها)، إلا أن الرئيس الحريري رفض أي تعديل يتعلق بأي تبديل بالوزارات وبالتوزيع الطائفي لها وبالأسماء المرتبطة بها، أو الأخذ بأي رأي للكتل النيابية لكي تحصل الحكومة على الثقة اللازمة من المجلس النيابي، وأصر على اختياره هو لأسماء الوزراء".
واعتبرت الرئاسة أن "رفض الحريري مبدأ الاتفاق مع رئيس الجمهورية والتشاور معه لإجراء أي تغيير في الأسماء والحقائب يدل على أنه اتخذ قراراً مسبقاً بالاعتذار، ساعياً إلى إيجاد أسباب لتبرير خطوته على الرغم من الاستعداد الذي أبداه رئيس الجمهورية لتسهيل مهمة التأليف، فضلاً عن الالتزام بما أبلغه رئيس الجمهورية إلى سائر الموفدين الإقليميين والدوليين الذين زاروا لبنان في الأيام الماضية والمراسلات التي تلقاها من مسؤولين عرباً وأجانب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقائع مصرية وفرنسية وروسية ستلقي بظلها
ومع ذكر الحريري وقائع عن تغيير عون رأيه بسبب تأثير باسيل عليه، تجنب إحراج الدول التي حاولت إقناعه بالعدول عن الاعتذار، فأشار إلى أنه بحث مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حين زار القاهرة موضوع تأليف الحكومة وإمكان الاعتذار، ونفى أن يكون تناول هذا القرار معه، لكن المعلومات المؤكدة أشارت إلى أنه ناقش توجهه بالتنحي مع القاهرة بالتفصيل: أسبابه وعواقبه. وعلى الرغم من إشارته إلى أنه عزم على الاعتذار منذ زمن، وأن تمني فرنسا عليه، ودول أخرى (في طليعتها مصر وروسيا) إضافة إلى بري، آخر الخطوة لمحاولة إحداث خرق ما، تجنب الحريري القول إنه تناول الاعتذار مع الموفد الرئاسي الفرنسي، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في قصر الإليزيه باتريك دوريل الذي اجتمع به عشية لقائه عون لتقديم تشكيلة الـ24 وزيراً. فالأخير تبلغ منه أنه إذا لم تنجح محاولته الجديدة سيعتذر، لكن ذلك لم يمنع الموفد الفرنسي من الضغط في لقاءيه مع باسيل وعون لتسهيل قيام الحكومة، ملمحاً إلى أن هناك عقوبات أوروبية آتية ضد معرقليها، بعد الإعلان عن إقرار إطار قانوني لها في بروكسل في 12 يوليو الحالي، على أن يبدأ التنفيذ بعد آخر الشهر. إلا أن مصدراً دبلوماسياً أكد أن عون لم يتجاوب على الرغم من وعده. وترافق الضغط الفرنسي مع موقف معنوي ضاغط من القاهرة التي أعلنت تأييد "المسار السياسي للحريري في تأليف الحكومة" في بيان صدر عن الرئاسة المصرية. وبدا أن هناك تناغماً فرنسياً - مصرياً من جهة، فيما ذكرت مصادر قريبة من الملف لـ"اندبندنت عربية"، أن تنسيقاً روسياً وثيقاً جرى قبل الاعتذار، مع الجانب المصري، لثني الحريري عن تلك الخطوة، سيلحقه مزيد من التعاون بين موسكو والقاهرة في المرحلة المقبلة. وإذا بات معروفاً أن الموفد الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف اتصل بالحريري لمطالبته بالتريث، فإنه اتصل بباسيل مرتين (أعلن عن واحدة منهما)، داعياً إياه لتسهيل ولادة الحكومة التي تقدم بها الرئيس المكلف. واشتكى باسيل للمسؤول الروسي مجدداً بأن الحريري يرفض الاجتماع به للتفاهم على الحكومة، فأجابه بوغدانوف أنتم تسعون إلى الثلث المعطل، وهذا غير مرحب به من سائر الدول. وبعد أن أبلغ بوغدانوف بأن الحريري يريد فرض وزراء مسيحيين على رئيس الجمهورية، نقل إلى الحريري (قبل الاعتذار) هذه الحجة، فأكد له الأخير "إنهم يريدون 10 وزراء أي الثلث المعطل وبات واضحاً أنهم لا يريدونني في رئاسة الحكومة، وكلما حلينا عقدة تظهر أخرى". بعد الاعتذار اكتفى الحريري في اتصال مع بوغدانوف بشكره على تأييد موسكو له قائلاً "لم أعد قادراً أن أبقى شاهداً على الانهيار المتواصل، وعلى تحميلي مسؤولية ذلك".
الحريري إلى الانتخابات ولن يسمي بديلاً
مع خيبة الدول الثلاث، التي واكبت أكثر من غيرها الساعات الأخيرة لمساعي إحداث خرق في الفراغ الحكومي، أي فرنسا ومصر وروسيا، فإن الأوساط التي رافقت اتصالاتها وحركة موفديها تترقب ما سيكون موقفها في الأيام والأسابيع المقبلة. هل ستفرمل الإجراءات الدستورية التي تتبع الاعتذار التهيؤ الأوروبي لفرض عقوبات، لإعطاء فرصة لتكليف شخصية أخرى بتأليف الحكومة؟ وهل الفريق الرئاسي الذي لم يتوقف عن البحث عن شخصية غير الحريري سيتمكن من إقناع قوى أخرى بتسمية شخصية يرتاح إليها عون وباسيل، لتكون حكومة من "لون واحد" مع ما يعنيه ذلك من استخدام حكومة كهذه للهجوم على زعيم "المستقبل"، واستمرار المجتمع الدولي في مقاطعتها بسبب القناعة أنها ستكون نسخة عن حكومة حسان دياب المستقيلة، وبأنها ستكون تحت هيمنة "حزب الله" وحليفه عون؟ أم أن الفريق الرئاسي مستعد للتساهل مع بديل الحريري باعتبار أنه حقق انتصاراً بالتخلص منه؟
فهذه الأسئلة وغيرها تلقي بظلها في وقت أعلن الحريري أنه لن يسمي أحداً ليخلفه في المهمة، مضيفاً، "لكن لن أعطل قيام حكومة". وفي حين نفى أن يكون قد اتفق مع بري على تلك التسمية، فإنه عاد وترك الأمر معلقاً بانتظار تحديد عون موعد الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس مكلف جديد بتشكيل الحكومة، لكن الاتجاه الغالب لديه هو عدم الالتزام بشخصية معينة حتى لا تتعرض لضغوط كالتي تعرض لها هو شخصياً وقبله السفير مصطفى أديب.
الأيام المقبلة ستحمل الأجوبة عن الاحتمالات المذكورة وغيرها، خصوصاً أن الاعتذار كرس ما سماه الحريري "الطلاق" مع فريق عون، معلناً أن الانتخابات النيابية العام المقبل ستحدد أحجام الأفرقاء، ما يعني أن كل فريق سيتهيأ لمعركة انتخابية شرسة في مواجهة الآخر. وثمة توقعات بأن المجتمع الدولي سيزيد من انخراطه في إدارة الأزمة اللبنانية، من باب تقديم المساعدات الإنسانية لتأمين الحاجات الأساسية ودعم صمود الجيش والمؤسسات الأمنية من جهة، وسيدفع نحو إحداث تغيير في المشهد السياسي عبر الانتخابات، ما يتطلب قيام حكومة انتقالية، آخر الصيف تشرف عليها.
وفي رأي بعض المراقبين فإن الاعتذار فتح الباب على صراع سياسي مستجد، يحتفظ فيه الحريري بالإفراج عن وقائع حول علاقته بالفريق الرئاسي طوال المرحلة المقبلة لأنه في مقابلته التلفزيونية "بق نصف البحصة" (أي لم يقل كل ما لديه).
باريس غاضبة من عون وباسيل
في الانتظار، عبرت باريس بلسان مسؤول مقرب من الرئاسة عن غضبها مما آل إليه الوضع باعتذار الحريري، معتبرةً هذه المرة أن عون وباسيل وراء تعطيل قيام الحكومة، بعد أن كانت في الشهرين الماضيين تساوي الحريري بهما في المسؤولية عن تأخير ولادة الحكومة المطلوبة بإلحاح، وفق مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون منذ 1 سبتمبر (أيلول) الماضي كي تنكب على الإصلاحات باتفاق مع صندوق النقد الدولي. وجاء الموقف الفرنسي، بعد أن كان الحريري أطلع الموفد الرئاسي دوريل، على المنهجية التي اتبعها في وضع التشكيلة الحكومية التي عرضها لاحقاً على عون (من دون الدخول في تفاصيل الأسماء)، إذ أكد أنه راعى فيها فريق عون إلى أقصى الحدود وأكثر من تشكيلة الـ18 وزيراً، التي كان قد قدمها إليه في 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وكان رئيس البرلمان بري الذي اطلع على التشكيلة التي وضعها الحريري قبل تقديمها لعون، أقر بأن فيها مراعاة للأخير أكثر مما كان يتوقع. وهو أبلغ الموفد الفرنسي بانطباعه هذا.
وربما هذا ما دفع الخارجية الفرنسية إلى الإعلان أن "عدول الحريري عن تشكيل الحكومة كتطور خطير، يؤكد التعطيل السياسي الذي يتعمده المسؤولون اللبنانيون منذ أشهر". واعتبر بيان الخارجية أن لبنان في أمس الحاجة إلى الخروج "من هذا المأزق المدبر والمرفوض إلى حكومة جديدة، ما يستدعي إجراء الاستشارات النيابية على الفور لتسمية رئيس وزراء في أقرب الآجال لتشكيل حكومة قادرة على الشروع في الإصلاحات والتحضير لانتخابات عام 2022.