"رب عائلة يتحول إلى دجاجة بسحر ساحر". هكذا يمكن تلخيص فكرة "ريش"، باكورة أفلام المخرج المصري الشاب عمر الزهيري (33 سنة) الذي نال جائزة "أسبوع النقاد" في مهرجان كان السينمائي (6 - 17 الجاري). "ريش"، هو الفيلم المصري الوحيد هذا العام في المهرجان، من ضمن خمسة أفلام عربية شاهدناها داخل الأقسام كافة، وكان يستحق أن يكون في المسابقة الرسمية، وذلك أكثر من أفلام عدة تسابقت على "السعفة".
"ريش"، لا يشبه أي شيء سبق وأُنجز في السينما المصرية، لشدة عبثيته والسوريالية التي يضعنا فيها. صحيح أن الفيلم هو "قصة رب عائلة يتحول إلى دجاجة"، لكن تجسيد هذه الواقعة لا يحتل سوى أول ربع ساعة، الباقي هو عن زوجته، ست خاضعة تتولى شؤون أفراد العائلة التي تتألف من ثلاثة أطفال، أي ثلاثة أفواه يجب إطعامها، وهذا في ذاته تحد كبير، لأن العائلة هذه تعيش في فقر وإهمال ومهددة بالتشرد. تجد الأم نفسها وقد تورطت في سلسلة مواقف لا تحسد عليها. الفيلم لا يمازحها عندما يتعلق الأمر بتمريغها في التراب حرفياً.
جزء لا بأس به من زمن الفيلم يكرسه المخرج لوصف ظروف العيش العجيبة لهذه العائلة، وذلك من خلال تفاصيل صغيرة معبرة يتراكم بعضها فوق بعض، لتتشكل منها لوحة بألوان غريبة. يكتفي بلقطات ثابتة ذكرت البعض بأسلوب المخرج السويدي روي أندرسون، علماً أن المخرج يقول بأن "كابوريا" لخيري بشارة (1990) ينبوع محتمل ارتوى منه. وعليه، يقوم أسلوب الفيلم على تأثيرات سينمائية متعددة، من الشرق والغرب، سواء بصرياً أو في استخدامه للموسيقى (استخدام ساخر في بعض الأحيان)، ما يجعله عملاً هجيناً يتعذر تصنيفه.
عبقرية المكان
مواقع التصوير التي اختارها الزهيري فيها كثير من العبقرية، وهي التي صنعت فرادة الفيلم في المرتبة الأولى. هذه أماكن لم نعتد رؤيتها في السينما المصرية لا ماضياً ولا حاضراً، ولا يمكن اعتبارها واقعية تماماً، بل تقع بالأحرى في منتصف الطريق بين الفانتازيا المتخيلة والواقعية. طرق لا يسلكها أحد، بقع مهجورة، ديكورات متوحشة توحي بأن كارثة معينة مرت من هنا… في هذه الأماكن تجري أحداث "ريش". أما بيت العائلة فتفاصيله مرعبة ومقززة. غبار مكدس في كل زاوية. القذارة في كل شيء. مع ذلك، لا يمكن قبض ما نراه على محمل الجد وربطه بواقع اجتماعي ما، على الرغم من البؤس الموجود في مصر أصلاً. فنحن في عمق السينما التي تتناسل من خيال فنان، والفيلم يذكرنا بهذا بين فترة وفترة.
يمعن "ريش" في متتاليات من المواقف العبثية ملغياً الرمزية والدلالات، بل يعمل بشكل ممنهج على تعطيل كل التوقعات التي قد تولد عند المشاهد. ناقد بريطاني كتب أن الأب الذي اختفى يمثل الأبوية في المجتمع المصري، وهذا إسقاط لا يرغبه الفيلم وينبذه المخرج. عندما نتحدث عن تعطيل التوقعات نعني به أنه يضعنا أمام احتمال من هذا النوع ثم يتخلى عنه. فاختفاء رب العائلة الذي كان يهيمن على قرارات البيت لن يحسّن من وضع أحد، ولن يفسح المجال لزوجته أن تصبح سيدة المنزل، بل ستزداد بؤساً وعزلة. البيت المنزلي لم يكن أفضل الأماكن قبل غياب الزوج، ولكن الخارج حيث البيروقراطية التافهة أسوأ. ثم إن الفيلم لا يقدم أياً من هذه الشخصيات كضحايا يجدر مناصرتهم، لا يدين ولا يحاول استدرار العواطف، وهنا تقع أهميته، وهذا ما يمنحه جواز سفر لينتقل من مهرجان إلى مهرجان في المقبل من الأشهر.
تجربة طويلة جداً
عندما قابلنا عمر الزهيري في كان، بدا متفاجئاً بفوزه بجائزة النقاد وبالاستحسان الواسع الذي ناله. لم يتوقع ردود الأفعال هذه، لا سيما أن أفلاماً عربية كثيرة مُعرضة للتقويم على أساس الموضوع والسياسة، لا على أساس سينمائي خالص. قال مؤكداً، "أنا كنت أنجز سينما. أكره الموضوع أو القضايا".
تطلب إنجاز الفيلم نحو ست سنوات، وهي تجربة يصفها بـ"الطويلة جداً". يروي كيف بدأ حياته، وأخذته المصادفات من مساعد مخرج ليسري نصرالله وغيره، راض عن قدره، ثم صانع أفلام قصيرة، إلى "ورطة" الفيلم الطويل. لم يكن يتحلى بثقة كبيرة في النفس، "إلى أن قادتني الظروف إلى غير طريق. ليست لدي أجندة، كما أنني لم أتوقع أن أشارك في كان وأفوز. أردتُ فيلماً مختلفاً يتيح لي اكتشاف الحدس. لطالما فكرت بفيلم عن الخوف والثقة بالنفس، حتى أنه راودني إنجاز فيلم عن علاقتي بأبي. ثم رحت في اتجاه كتابة الخواطر، إلى أن قررت مفاجأة نفسي بفيلم مثير، شخصياته كلها في الظل، لها عالمها، وهو هنا بمثابة الحياة الحقيقية، مع الإبقاء على جانب غير حقيقي. أردت اكتشاف هذا العالم، ومن هنا بدأت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يصور الزهيري فيلماً في العشوائيات المصرية، ولم يقع في الكليشيهات المرتبطة بالبؤس في بلاد العالم الثالث، وعلى الرغم من ذلك، لم يسلب الفيلم خصوصيته. يصفه بـ"السينما الخالصة والإنسانية الخالصة"، رداً على تعليق أن أماكن التصوير مميزة وجديدة في السينما المصرية. يهمه التأكيد أنه "ترك أبواباً مفتوحة ليجد كل متلق قصته، فيعيد النظر في علاقاته بغيره". ففي رأيه، "قصة الفيلم بسيطة، فلو حُكيت بغير طريقة ما كانت لتُحقق هذه الإثارة".
اللافت أن الممثلين في الفيلم لم يمثلوا سابقاً، ولم يقفوا أمام كاميرا. "تطلب الأمر نحو سنة تقريباً لإيجادهم"، يقول. الفيلم شديد العناية بالجانب البصري، يتعامل مخرجه مع الأماكن بالطريقة نفسها التي يتعامل فيها مع الممثلين. "أردت كسر المتعارف عليه في الأفلام وحركة الكاميرا التي نعتاد عليها، وذلك لإيجاد جانب مختلف يتيح فهم الشخصيات من منظار آخر. اتبعت تكنيك الفن الفوتوغرافي نفسه، حيث بإمكان اللقطة الواحدة إتاحة مئات التوجهات لحظة يتلقاها الإحساس والعقل. تركت المتفرج يتأمل تماماً ويخلق قصته. صحيح أن القصة قاسية والفيلم عنيف بمشاعره، لكن السم هنا ممزوج بالعسل".
يقول الزهيري، إنه حاول قدر الإمكان ألا يكون جباناً. أشدد له على أن للفيلم خصوصية مصرية، مقابل قوله إنه كان يمكن للأحداث أن تجري في أي بقعة من العالم، وأسميها "الواقعية السحرية المصرية". يوافق. المهم بالنسبة إليه أنه ليس فيلماً تقليدياً عن الخير والشر والنضال وحقوق المرأة. يُنهي، "لا أزال أكتشف نفسي. حتى الآن لا أصدق أنني فزت".