هو كتاب بدأه مؤلفه بالعبارات التالية، "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي فـي يوم الخـمـيس الثاني من شهر الله رجب الفرد، عام خمسة وعشرين وسبعمئة (1324م). معتمداً حـجّ بيـت الله الحرام وزيارة قبر الرسول". ليختمه بقوله، "ثم خرجت فوصلت الى حضرة فاس، حضرة مولانا أمير المؤمنين أيده الله، فقبّلت يده الكريمة، وتيمنت بمشاهدة وجهه المبارك، وأقمت في كنف إحسانه بعد طول الرحلة". إذاً بين انطلاق ابن بطـوطة فـي سفره وعودته منه مر 29 عاماً، لكن رحلته كما يفيدنا كتابه الأشهر لم تكـن رحلة واحدة متصلة، بل كانت عبــارة عن تسع رحلات، يشكل تفصيلها متن ذلك الكتاب المدهش الذي يحمل في الأصل عنـوان "تحـفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، واختصر اسمه دائماً الى "رحلة ابن بطوطة".
على سفر متواصل
أما الرحلات المعنية فكانت كما يأتي، الأولى تهـدف الى الوصــول لمكة للحج لكنها عادت وتفرّعت الى ثلاث رحلات عبر الـمـرور بشمال أفريقيا ومصر وأعالي النيل وسـوريا، وفيها حيث بقي ابن بطوطة فـي الديـار المقــدسة شهرين، انطلق بعد ذلك الى بغداد ثم إلى أنحاء ايران فبغداد من جديد ومنها هذه المرة، إلى الموصل ثم عودة ثانـية إلى بغـداد فالجزيرة العربية، حيث بقي هذه المرة ثلاثة أعوام. بعدها انطلق إلى البحر الأحمر فاليـمن فمقـديشيو وأفريقيـا الشرقية عائداً من هناك إلى عُمان فمكة. وفي الرحلة الرابعة زار ابن بطوطة مصـر فسوريـا فآسيا الصغرى فبلاد المغـول وجنوب روسيا، منطلقاً من هناك إلى القسطنطينية فوسط آسيا وأفغانستان فـوادي الهندوس، وصولاً إلى دلهي التي أقام فيها تسعة أعوام عُين خلالهـا قاضياً على المذهب المالكـي.
بعد ذلك نراه يتوجه إلى جزر المالديـف حيث بقي عاماً ونصف العام في رحلـة خامسـة شملت سيلان فآسام فسومطـرة والصين في رحلة سادسة تلتها رحلة سابعة إلى بغداد وسوريا ومصر والحج إلى بيت الله الحرام. وهو لدى عودته من هناك إلى الإسكندرية توجه بحراً إلى سردينيا، ومنها أبحر على متن سفينة إلى الجزائر ففاس ثم غرناطة، قبل أن يعود إلى المغرب ثانية ومن ثمّ ينطلق في رحلته الأخيرة إلى وسط أفريقيا، حيث بدأ بزيـارة متعبة وطويلـة إلى الصحراء أوصلته إلى ما كان يُعرف في ذلك الحين ببـلاد النيجر، وهي حيز جغرافي تخــتلف إلى حدّ ما عن دولة النيجر المعروفة حالياً.
هل سافر فعلاً؟
كل هذا جميل وموجود بين دفتي الكتاب، ولكن يبقى هنا سؤال كان لا بد من أن يُطرح يوماً، وهو هل قام ابن بطوطة فعلاً بكل تلك الأسفار وكتب انطلاقاً منها نصوصه البديعة، أم أنه وعلى غرار ما فعل من يعتبر مزامنه إلى الشمال قليلاً، الإيطالي ماركو بولو، لم يغادر دياره أبداً، بل كتب انطلاقاً مما كان يُروى له على لسان معارفه وخلانه من التجار، فجمع ذلك كله في سرد واحد جعل التاريخ يعرفه كواحد من أعظم الرحالة، ومن أبرع كتاب أدب الرحلات؟
قد يبدو هذا القول غريباً حتى وإن كانت الفكرة قد داعبت عدداً لا بأس به من الباحثين منذ أزمان طويلة، لا سيما منذ بدء الحديث عن أن ماركو بولو نفسه لم يسافر أبداً ولم يعش تلك المغامرات التي يرويها في كتابه، وبالتالي لم لا تشمل المقارنة التي قامت دائماً بين الاثنين وقفة عند الكذب الذي امتهناه معا بالطريقة نفسها وفي زمن متواز؟
هل هناك فضيحة ما؟
على أي حال، فما تقترحه علينا مقدمة ترجمة ألمانية لرحلات ابن بطوطة صدرت قبل 12 عاماً، وكتبها عالم الإسلاميات الألماني رالف إيلغر أثارت في حينه ضجة سرعان ما همدت، ففي هذه المقدمة التي لا تحاول أن تلغي تماماً إمكان أن يكون ابن بطوطة الطنجي قد قام حقاً ببعض الأسفار، لكنها تستكثر عليه أن يكون قد قطع بالفعل تلك الكيلومترات البالغة 120 ألفاً، ويزعم في كتابه أنه قطعها خلال 29 عاماً تجول خلالها بين طنجة وماليزيا، هذا إن لم يلمح إلى أنه تبعاً لدراسات أجراها صاحب المقدمة بنفسه، لم يبارح أرض المغرب أصلاً، فإيلغر يحصي في نصه عدداً كبيراً من التناقضات التي يقول إن نصوص ابن بطوطة تزدحم بها، مما يؤكد أنه لا يمكن أن يكون قد رأى حقاً عدداً كبيراً من المناطق والمدن التي "يزعم أنه رآها رأي العين".
ومن المحتمل هنا أن يكون الرحالة الشهير، أو بالأحرى مساعده ابن جزيّ الذي كان يدون ما يرويه له سيده، ودوّن النصوص كلها بخطه، قد استلهم عدداً كبيراً من نصوص تنتمي إلى تقارير وسرد رحلات كانت رائجة في ذلك الزمن، من دون أن يشير إليها على الإطلاق، وهي نصوص من كتابة رحالة مسلمين بالطبع، لكن بعضها أتى منقولاً عن آخرين مسيحيين، بينهم ماركو بولو نفسه الذي سوف يحكم التاريخ عليه لاحقاً بأنه كاذب وناقل كان يتمتع بذكاء وعبقرية في قدرته على "الاستعارة" من الآخرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عولمة المعلومات
ولعل النقطة الأقوى في محاججة رالف إيلغر هي تلك الجداول العديدة المقارنة التي رسم فيها بتفصيل ممل كل المعلومات الواردة في رحلات ابن بطوطة ومدوناتها سنة بسنة، ليطلع من ذلك كله بكونها موجودة في عدد كبير من التقارير والكتب التي كان يتم تبادلها في ذلك الحين بين الرحالة الذين يعرفون بعضهم بعضاً ويتبادلون المعلومات بصورة تلقائية، وهنا إذ يتحدث إيلغر عن نوع مبكر من "عولمة" المعلومات يطرح استنتاجاً مفاده أن تلك المبادلات كانت لا تخلو دائماً من أخطاء ومغالطات ومبالغات يميل الكتّاب إلى التمسك بها، ربما على سبيل تعظيم الذات، أو على سبيل محاولة إيقاع زملائهم إذ يستخدمونها في الغلط.
ويشير إيلغر إلى العديد من تلك الأغلاط التي يقول إن ابن بطوطة وقع في فخها، لتؤكد أن أي بحث علمي جدي لا يمكن للأكاذيب أن تصمد إزاءه، إذ إن ثمة صفحات لا يمكن أن تكون من تأليف ابن بطوطة لأنها تتحدث عن أماكن ووقائع منقولة عن آخرين.
كلّ ما عدانا متوحش!
مهما يكن، لا بد لنا هنا من أن نعود إلى نص ابن بطوطة نفسه، وهو الذي في معرض وصفه لعادات وأحوال الشعوب التي "زارها" حـرص دائماً على أن يقارن بين ما أتى به الإسلام إليهـا، وبين ما كان من "وحشية وضـراوة فيها قبل وصول الإسلام"، وحرص دائماً، لا سيما عند الحديث عن مناطـق الأطراف، أن يصف كيف يتجاور الإسلام مع ما قبله خصوصاً في أفريقيا، وبالنسبة إليه كان كل ما يراه من عجائب وغرائب هو ما يبدو خارجـاً وغـير مألوف للعالم الإسلامي الذي ينتمي إليه.
والحقيقة أننا إزاء أحوال العالم الذي يصفه ابن بطـوطة، نجدنا متسائلين قبل الباحث الألماني، لا سيما أمام ما يدهش الرحالة الطنجي في شكل قاطع، عما إذا كان حقاً شاهد الأمور كما يصفها أم أنه انطلق دائماً من تفسير ذاتي لأحوال شعوب كل ما في الأمر أنها ترى الوجود والكون وأحوالهما رؤية لا تتجانس مع رؤيته؟
هل كان عميلاً يجمع المعلومات؟
ولد ابن بطوطة، واسمه الكامل عبدالله اللواتي الطنجي، في طنجة عام 1304 ميلادي، وفيها مات عام 1368، وهو في الأصل لم يكن عالماً أو كاتباً، وبالأحرى كان تاجراً، تخلى بالتدريج عن تجارته وجعل من نفسه رحّالة، ومكنته علوم نالها باكراً من أن يستخدم انتماءه إلى المذهب المالكي ليعمل قاضياً أو فقيهاً في الهند والصين، كما يروي لنا على الأقل من دون أن يكون في المدونات الصينية أو الهندية ما يؤكد ذلك.
ثمة دراسات اليوم تذهب إلى أنه أصلاً كان يعمل في خدمة السلطان (جاسوساً له مثلاً)، وأن رحلاته التي قام بها فعلا إنما كانت لجمع المعلومات عن ديار الإسلام في وقت كان فيه السلطان أبو عنان يرى من حقه أو من واجبه توحيد ديار الإسلام بعد انهيار الخلافة العباسية وتدهور أوضاع الأندلس، ولكن من المؤكد أن مثل هذا المشروع كان يفوق طاقات ابن بطوطة، وبالكاد يشي به نص كتابه.