لعل من أغرب الأمور في حياة الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ الذي كتب عن أمور كثيرة بما في ذلك عن أوروبا وهوسه الأوروبي وحياته في المنافي المتنقلة وصولاً إلى البرازيل التي عاش فيها آخر سنوات حياته وحتى اليوم الذي مات فيه وزوجته انتحاراً، من أغرب الأمور أنه لم يكتب سوى النزر اليسير عن ذلك العام 1936 الذي سيكون آخر عام يعيشه في أوروبا كزمان، وعن تلك المدينة البلجيكية الساحلية، أوستاند التي ستكون آخر مدينة أوروبية يعيش فيها بعدما ودّع النمسا، إذ سقطت بين يدي النازيين، كمكان. ومن هنا سيرى كثر بعد عقود طويلة أن الكاتب فولكر وايدرمان، لم يفعل حين أصدر رواية عنوانها "أوستاند 36" في عام 2015 سوى القيام بما كان يمكن لتسفايغ أن يقوم به، أي كتابة نصّ في نحو 160 صفحة عن ذينك الزمان والمكان بالتحديد. بالتالي عن تلك المدينة البلجيكية الصاخبة التي تجمع فيها في ذلك العام، بعيداً بعض الشيء من صخب ضجيج السلاح الذي كان قد بدأ يقرقع في طول أوروبا وعرضها مع بدء تحرك النازيين بقيادة هتلر لغزو أوروبا وإدخال العالم في تلك المجزرة الرهيبة التي ستحمل اسم الحرب العالمية الثانية.
منفى من ذهب
في الحقيقة أن أوستاند لم تكن في ذلك الحين منفى حقيقياً. كانت واحدة من أكثر المدن الأوروبية ضجيجاً وحيوية وثراء إذ كانت مقصد الأثرياء الأوروبيين الباحثين عن اللهو والمرح والترفيه، ناهيك بأنها كانت من ناحية جانبية، مقصداً لعدد كبير من المثقفين الأوروبيين منشقين أو غير منشقين، وبخاصة مقصد نوع مرفه من الشيوعيين الذي قد نطلق اليوم عليهم اسم "اليسار الكافيار" من كتاب مرتاحين لأوضاعهم المالية والاجتماعية ويعرفون أن ما سيكتبونه سيلقى رواجاً يمكنهم من العيش، ويعتقدون أنهم من خلال إقامتهم في تلك المدينة يمكنهم العثور على مواضيع يخوضون فيها. ففي أوستاند كان يتجاور كل أنواع البشر وتتقاطع كل العلاقات. وكان في إمكان المرء أن يلتقي في كل لحظة، في الشوارع أو الأزقة، في الملاهي أو الكازينوهات، في بيوت الدعارة أو المكتبات العامة وخصوصاً في المسابح أعداداً كبيرة من المشاهير الأوروبيين. ومن هنا كان من الطبيعي لصاحب رواية "أوستاند 36" أن يستند إلى العديد من الوثائق التاريخية والمذكرات الشخصية والتحقيقات الصحافية كي يطلع من كل ذلك بما اعتبره رواية تاريخية، أي نصاً إبداعياً يتخيل أحداثاً وعلاقات تدور من حول الوداع الأخير لأوروبا كما مارسته بخاصة حلقة من المبدعين الحقيقيين تحلقت من حول اثنين من كبار روائيي وكتاب تلك المرحلة: ستيفان تسفايغ من ناحية وجوزف روث من ناحية ثانية.
النقيضان يتعايشان
تفترض الرواية، من دون أن تبتعد كثيراً عن الواقع أن الصداقة اللدودة كانت في ذروتها ذلك الحين بين تسفايغ وروث، الأول من أثرياء اليهود النمساويين وكاتب ناجح تلقى كتبه ومسرحياته رواجاً مدهشاً ويسير في كل شؤون حياته على خط مستقيم موزعاً وقته بين أصناف الأدب والفكر التي يمارسها، والثاني سكير أفاق يعيش أزمات وجودية لا تنتهي ولا يعرف المرح طريقه إلى يومياته ويوميات حياته العائلية المضطربة. كان روث النقيض الكامل لتسفايغ. ولكن أيضاً لبضع شخصيات "حقيقية" أخرى تملأ الرواية، من آرثر كوستلر إلى إرنست تولر وزوجته الممثلة الشابة كريستيان غراوتوف، مروراً بالكاتب بريدين الذي كان يمضي وقته محاولاً أن يكتب ملحقاً لرواية التشيكي ياروسلاف هاشيك "الجندي الطيب شفايك". وطبعاً ثمة في الرواية شخصيات عدة من الطينة نفسها، لكن تسفايغ وروث وإلى حد ما كوستلر يبقون الأساس، أو ما سيقرب من الأساس وذلك لأن ثمة في فضاء ذلك العام وذاك المكان شبحين يلوحان في أفق من يريد أن يرى جيداً: أوروبا التي تبدأ الهبوط إلى جحيمها وظلماتها من ناحية. وهتلر ونازيوه الساعون إلى تسريع ذلك الهبوط. ولعل في إمكاننا هنا أن نشبه المناخ العام للهبوط الأوروبي كما راح يبدو نتفاً نتفاً في أوستاند، بالمناخ المرضي العام الذي صوره توماس مان في روايته "الموت في البندقية" حيث في مدينة الجمال والرفاهية الإيطالية يطلع من اللاشيء فجأة ذلك الوباء الذي يظهر تدريجاً ليقضي على كل أثر لحياة أو فرح أو جمال.
الكارثة تقترب
وهكذا هي الحال هنا في الرواية التي نحن في صددها مع فارق أساسي: المقيمون في البندقية الذي سيختبرون الموت والمرض في أجمل مدينة في العالم، سيعيشون هذا الاختبار المدمر بل القاتل أمام أنظارنا في الرواية نفسها، أما في "أوستاند 36" فإن المقيمين في المدينة البلجيكية سيبقون على أوهامهم الجميلة ويعيشون يوميات المدينة وبهاء حياتها الصاخبة غير مدركين ما ندركه نحن القراء نيابة عنهم: أن الكارثة تقترب من دون أن يتمكن كثر من أن يحدسوا بها. لكننا نحن القراء نفعل لسبب بسيط وهو أن الكاتب يحدثنا هنا عن وقائع تاريخية نعرفها ونعرف أنه سوف تحل عما قريب جاعلة من ذلك العام المفصلي عام النهاية لحياة أوروبية لن تعود بعد ذلك إلى ما كانت عليه. نحن هنا أمام إرهاصات تاريخ نعرفه ونتوقعه وأمام البدايات القاتلة لأحد الشبحين والنهايات المدمرة للشبح الآخر. أما سكان أوستاند المؤقتون فلا يعرفون شيئاً عما سوف تكون عليه الحال بعد حين، ولا أن أوستاند نفسها ستكون فريسة لهتلر بعد حين كما حال بلجيكا كلها وأوروبا والعالم المتحضر بأسره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة ما قبل الكارثة
ومن هنا يكتفي كاتب الرواية وايدرمان برسم حياة ما قبل الكارثة غير مضطر إلى أن يذكرنا نحن القراء بما يعرف أننا نعرفه. لكنه ينحو بين الحين والآخر إلى رسم مشاهد وفصول تشي، ولو بصورة ضمنية، بأن ثمة من بين الشخصيات الأساسية التي يرسمها أشخاصاً يبدون على شعور بأن ما يعيشونه اليوم في أوستاند سوف لن يعود أبداً، بالتالي نجدهم وربما عن غير وعي كامل منهم يحاولون أن ينهلوا من نسغ الحياة وهم مؤمنون بشكل خفي أن كل لحظة يعيشونها الآن يجب أن تعاش وكأنها اللحظة الأخيرة. أما المحطة الأكثر أهمية في الرواية فهي تلك التي يعيشها تسفايغ وروث في تناقضاتهما والتفاوت السلوكي بينهما وكأننا أمام نمطين من البشر كمنت الأعجوبة الصغيرة في أنهما تعايشا هنا بالفعل. ولعل ما "جمع" بينهما كانت الأنباء التي تردهما من الوطن النمساوي أو من برلين وغيرها من المدن الألمانية: أنباء قيام العصابات النازية بإحراق عشرات ألوف النسخ من الكتب واللوحات والمكتبات بوصفها تمثل انحطاطاً لا بد من القضاء عليه، لكن المشكلة كانت تكمن في أن هذين وغيرهما كانوا يشعرون أمام الأنباء حتى وإن تضمنت ما يشير إلى أن كتبهما تحرق أيضاً كضحية لـ"التعبير عن عظمة الأمة الجرمانية وعدم حاجتها إلى تلك الإبداعات المنحطة" كانوا يعتبرون الأمر عارضاً وأن كل ذلك سيؤول إلى نهاية منطقية. وحده تسفايغ كما تخبرنا الرواية كان يشعر أن ما يحدث سوف يتواصل لأزمان طويلة مقبلة. ومن هنا كاد يكون الوحيد من بين الجمع الذي يشعر أنه بعد أوستاند، سوف يواصل ترحاله غرباً ونعرف، خارج إطار الرواية، أن ذلك الترحال سوف يصل به وبزوجته إلى الولايات المتحدة ومن ثم إلى البرازيل حيث سيضع بيده نهاية لحياته وحياة زوجته وكلهما اعتقاد بأن هتلر لا محالة سوف ينتصر ويدمر العالم كما عرفاه. لكن هذا، كما أشرنا، لا وجود له في الرواية التي تكتفي بالعام الأوستاندي الذي كان يتوجب أن يقول فيه الأذكياء: وداعاً لأوروبا ووداعاً للعالم الذي كنا نعرفه... فها هو الظلام يقترب ولسوف يغمرنا عما قريب، ولو لزمن نعيش من خلاله ذلك الدمار الذي نشرته الفاشية في العالم... ولكن ليس في غفلة عنا!