مع تصاعد دخان مواقد الشواء التي تلتهب بأكوام من الحطب والفحم في عيد الأضحى، أطلقت وزارة الزراعة الليبية صرخة استغاثة جديدة تطلب الرفق بغابات البلاد، التي وصلت مستويات التعديات الإنسانية عليها مرحلة الخطر، خصوصاً في الجبل الأخضر، رئة البلاد المهددة بالعطب، مع تنامي تجريف الأشجار وتحول مساحات واسعة مزدانة بالخضرة في ربوعه، إلى لون أحمر ينذر بالخطر الداهم الذي لا يستشعره كثيرون.
ولا يعد التهافت على جثّ الأشجار المتحولة حطباً وفحماً في العيد السبب الوحيد في الخطر البيئي الذي حذرت منه الوزارة، بل تتعدد الأسباب والضحية واحدة، وهي الغابات التي شكلت منذ الأزل متعة للناظرين، ومتنفساً للبلاد التي يغلب على تضاريسها الطابع الصحراوي.
مجزرة غابات الجبل الأخضر لم تبدأ ببطء، بل تنامت بوتيرة سريعة خلال العقد الماضي، مع غياب الرقابة، وضعف قبضة الدولة والانشغال بأمور السياسة والحرب، حتى بلغ الخطر مداه، بوصول المساحات المجرفة في الجبل الواقع شرق البلاد إلى 14 ألف هكتار، والأدهى أن بعض ضحايا مذبحة الطبيعة هذه، غابات كاملة من الأشجار النادرة، التي تعد زراعتها وتنميتها من جديد عملية صعبة ومعقدة، وغير مضمونة النجاح.
نداء استغاثة
أطلقت السلطات الليبية نداء استغاثة جديد، لوقف التعديات وعمليات التجريف الجائر التي تشهدها غابات الجبل الأخضر، في شرق البلاد، وحذرت الهيئة العامة للزراعة والثروة الحيوانية والبحرية أن "عملية القطع الجائر أفقدت غابات الجبل الأخضر 14 ألف هكتار من المساحة الإجمالية لتلك الغابات، التي تشكل نصف مساحة الجبل، وتصل مساحتها إجمالاً إلى 943 ألف هكتار".
وبين المكتب الإعلامي التابع للهيئة أن هذه المساحات الضخمة المفقودة من غابات الجبل الأخضر استغرق القضاء عليها أعواماً قليلة، "ما بين عامي 2005 و2019 فقدت المنطقة 14 ألف هكتار من الغابات في منطقة الجبل الأخضر".
وأوضح المكتب أن "وتيرة فقدان المنطقة لمساحات كبيرة من الغابات تسارعت عقب الثورة عام 2011، حيث شجعت الاضطرابات وحالة الفوضى كثيراً من الليبيين على القطع الجائر للأشجار، فضلاً عن البناء العشوائي في هذه المنطقة".
وتابع، "لقد دفع الوضع الأمني المتدهور والفوضى وانتشار السلاح، إضافة إلى الحاجة إلى المال، كثيرين إلى قطع الأشجار في هذه المنطقة، لبيعها كأخشاب وحطب وفحم".
رئة البلاد
وتشكل منطقة الجبل الأخضر من حيث المساحة نسبة واحد في المئة من مساحة ليبيا الإجمالية التي تغلب عليها الصحراء، وبحسب الإحصاءات الرسمية تحوي مع ذلك أكثر من 50 في المئة من الأنواع النباتية المنتشرة في عموم البلاد، ونحو 1100 نوع من إجمالي الأنواع النباتية الليبية المقدر عددها بنحو 2000 نوع، كما ينمو فيها 75 نوعاً من النباتات التي لا توجد إلا في هذه المنطقة من البلاد، وتشكل عموماً نحو 4 في المئة من مجموع الأنواع النباتية في ليبيا، مع تأكيد وجود أنواع أخرى لم يتم تجميعها وتوثيقها حتى الآن.
ويمتد الجبل الأخضر من متنزه الباكور، شرق بنغازي بنحو 60 كيلومتراً، حتى حدود مدينة طبرق على الحدود المصرية، بطول نحو 350 كيلومتراً، وتبلغ مساحته الإجمالية من الأراضي المغطاة بغطاء كثيف من الغابات والوديان والسهول 8.773 كيلومتراً مربعاً، ومن أبرز مدن وبلدات الجبل الأخضر، البيضاء والمرج ودرنة والقبة، إضافة إلى مدينتي شحات وسوسة الأثريتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغريب أن عمليات التجريف الواسعة التي يشهدها الجبل الأخضر، التي يجري أغلبها لإنشاء المخططات السكنية، لا تتناسب مع عدد السكان القليل الذين يشغلون مساحته الشاسعة، حيث تشير آخر إحصائية رسمية للسكان في الجبل، أن عددهم لم يتجاوز نحو 600 ألف نسمة تقريباً عام 2006.
كما يتميز الجبل الأخضر بتعدد أشكال الحياة البرية فيه، ويوجد فيه عديد من المحميات والمنتزهات الطبيعية، ويزدهر فيه عدد من النباتات الطبيعية ذات الفائدة الطبية الكبيرة، التي تسمى باللهجة المحلية، الزعتر والشيح والزريقا وعشبة الأرنب والقعمول والكليل، التي تدخل إضافة إلى أهميتها البيئية في إنتاج بعض المركبات الدوائية، وتعد مرعى مناسباً للنحل المنتج للعسل، الذي يشتهر الجبل الأخضر بإنتاج أجود أنواعه في ليبيا.
حملات لإنقاذ الجبل
مع تعرض ثروة الجبل الأخضر البيئية المهمة والنادرة إلى خطر التصحر والفناء، بسبب الممارسات الجائرة من البشر، أطلقت كثير من الحملات التطوعية، لمحاولة إنقاذ الجبل الأخضر من الفساد والعبث الإنساني، انضم إليها عدد لا بأس به من النشطاء والإعلاميين ودعاة حماية الطبيعة والمنظمات البيئية غير الرسمية، وشملت هذه الحملات إعادة تشجير بعض المناطق التي قطع فيها جزء كبير من الغابات، وتكرار النداءات على مواقع التواصل ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، للضغط على السلطات، للوقوف وقفة جادة لدرء الخطر البيئي الذي تواجهه غابات ومحميات الجبل الأخضر.
ويرى الإعلامي حكيم النويصري، من سكان مدينة البيضاء وسط الجبل الأخضر، أن ما يقع من تعديات في الجبل الأخضر خطير، ويستلزم تحركاً سريعاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، قائلاً إنه "لمعرفة حجم الكارثة البيئية التي تقع حالياً في الجبل الأخضر، يكفي أن نقارن الأرقام قبل عشر سنوات فقط، وما أعلنته وزارة الزراعة حالياً، حيث كانت المساحات المفقودة من الغابات سبعة آلاف هكتار، بينما وصلت في منتصف عام 2021 إلى 14 ألف هكتار، ما يعني الضعف بالتمام والكمال".
وأضاف، "إذا اعتمدنا على هذه الأرقام، فإنه خلال عشر سنوات أخرى فقط، يمكن أن يجري القضاء على ما نسبته خمسة في المئة من حجم غابات الجبل الأخضر، إذا لم يتم التحرك الرسمي بسرعة لوقف هذه المجزرة البيئية، بتشديد العقوبات وإعادة تفعيل قوانين حماية الأراضي الزراعية والمحميات الوطنية، التي ما زالت سارية، وتحتاج فقط إلى تطبيقها على المخالفين".
ويشير النويصري إلى أن "ما يحدث في الجبل الأخضر يمثل كارثة للبلاد برمتها، بالنظر إلى أن نصف الغطاء الأخضر الطبيعي في ليبيا يتعرض إلى خطر الزوال بوتيرة مخيفة".
بينما ينوه الإعلامي محمد بزازة، الذي انضم إلى حملة المدافعين عن البيئة في الجبل الأخضر، إلى أن "الخطر لا يقتصر فقط على التهديد البيئي فيه، بل يشمل مناطق أثرية لم تكتمل عمليات التنقيب فيها، وتتعرض إلى تجريف محتوياتها الواقعة وسط هذه الغابات".
المحميات الطبيعية في دائرة الخطر
تشير معظم المنظمات البيئية في ليبيا والهيئات الرسمية التابعة لوزارة الزراعة إلى أن التهديد البشري للبيئة الخضراء في الجبل الأخضر يشمل المحميات الطبيعية، التي يفترض أن تشكل موطناً وملاذاً آمناً لكثير من الكائنات، مثل الطحالب والفطريات والحيوانات البرية باختلاف أنواعها.
وترصد هذه الهيئات والمنظمات تزايداً مطرداً في التعديات على محمية وادي الكوف، الأضخم في ليبيا، التي آوت في ما سبق عدداً كبيراً من الحيوانات البرية والأشجار والنباتات، إلا أنها الآن خارج سيطرة الجهات المسؤولة عنها، ومحمية الشماري (نوع من التوت البري)، بين مدينتي الأبرق والقبة، التي تعد آخر المحميات الطبيعية لهذه لشجيرة المهددة بالانقراض، وغيرها من المواقع.