يأمل المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، أن يؤدي التقارب الدولي، ولا سيما الأميركي - الروسي، الذي ظهر في التوافق على قرار مجلس الأمن 2585 بتمديد إدخال المساعدات الإنسانية إلى بلاد الشام عبر الحدود مع تركيا، إلى تفاهمات أوسع على الصعيد الدولي، من أجل إحداث تقدم في العملية السياسية فيها يسمح بتنفيذ تدريجي للقرار الدولي رقم 2254، الذي يحدد خريطة طريق للحلول السياسية للأزمة.
إلا أن هذه الآمال تصادف عراقيل بفعل مقاربة نظام الرئيس بشار الأسد للوضع في البلد، لا سيما بعد التجديد للأخير ولاية رابعة في مايو (أيار) الماضي، ما بات يزعج الجانب الروسي الذي قد يتهيأ إلى حملة ضغوط جديدة على النظام كي يتجاوب مع جهود الحل السياسي.
التوافق الأميركي الروسي في مجلس الأمن
ينظر المراقبون إلى توافق مجلس الأمن في التاسع من يوليو (تموز) على تمديد العمل بإدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى مع تركيا، على أنه تجاوب جديد من موسكو مع موقف أميركي معروف منذ زمن برفض إدخال تلك المساعدات عبر دمشق، الأمر الذي كانت تصرّ عليه موسكو في السابق من باب إرادتها تكريس شرعية الأسد، في وقت تعتبر الإدارة الأميركية والدول الغربية أن النظام يستفيد من تلك المساعدات وكان يصادر جزءاً كبيراً منها لمصلحته ويحجبها عن مناطق يحاصرها (مثل محافظة درعا إضافة إلى إدلب طبعاً)، فضلاً عن أن العقوبات التي فرضتها الإدارة عليه، وخصوصاً "قانون قيصر" على التعامل مع الحكومة السورية، لا تسمح بتمرير تلك المساعدات عن طريقه، وكانت الحكومة السورية عارضت القرار الدولي بحجة مخالفته السيادة.
قمة جنيف ومراهنات بيدرسون
كما أن الأوساط الدبلوماسية المعنية بالوضع السوري اعتبرت أن التوافق الأميركي الروسي في مجلس الأمن جاء ترجمة للتفاهمات المحدودة التي حصلت في قمة جنيف بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين في 16 يونيو (حزيران) الماضي، وأن هذا التوافق، مؤشر إلى نية تطوير التفاهمات التي حصلت، ربما يساعد على تقارب مستقبلي في شأن سوريا.
ولذلك أعرب بيدرسون خلال اجتماعه في 22 يوليو مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في موسكو عن أمله "في أن يتطور التفاهم المشترك الذي تم التوصل إليه بشأن القضايا الإنسانية في سوريا إلى المزيد من الوحدة في ما يتعلق بالعملية السياسية"، وأضاف بيدرسون أن "الوضع الاقتصادي في سوريا صعب جداً، فهناك تسعة من كل عشرة أشخاص يعيشون في فقر، ولدينا سوريا مقسمة إلى حد ما إلى ثلاث مناطق مختلفة"، مشدداً على "الحاجة إلى تغيير كل ذلك، ولكن لكي يتغيّر، نحتاج إلى البدء بتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 في شكل ملموس".
وكان بيدرسون دعا قبيل لقائه لافروف، في إحاطة إلى مجلس الأمن حول سوريا، إلى حوار دولي حول تنفيذ القرار، كما أنه حثّ على مزيد من التعاون الدولي لهذا الغرض أثناء حضوره الاجتماع الـ16 لصيغة "أستانا" حول سوريا بين روسيا وتركيا وإيران، الذي شارك فيه وفدا النظام والمعارضة، في 8 يوليو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما لافروف فقد أعرب عن أمله أثناء لقائه بيدرسون في أن يتغير الوضع إلى الأفضل مع تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2585، بشأن تمديد المساعدة عبر الحدود إلى سوريا، وأوضح أنه يتطلع إلى عقد مبكر للاجتماع المقبل للجنة الدستورية السورية، وإذ رد الوزير الروسي الوضع الاقتصادي الصعب في سوريا إلى العقوبات الأميركية والأوروبية، فإنه مثل بيدرسون، رأى أن أعضاء المجتمع الدولي يجب أن يساعدوا في ضمان تنفيذ القرار 2254.
لافرنتييف وتغيير "نهج النظام والمعارضة"
واللافت أن المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، كان حضّ الجانبين السوريين على تغيير نهجهما والبدء بالحديث على أساس الاحترام المتبادل، في تصريح له عقب تضمين البيان الختامي الصادر عن روسيا وتركيا وإيران في عاصمة كازاخستان نور سلطان، وأعاد تأكيد ضرورة إطلاق العملية السياسية وتنفيذ القرار 2254، وهي من المرات النادرة التي يساوي فيها لافرنتييف النظام والمعارضة في الانتقادات لسلوكهما في ما يخص العملية السياسية، إذ كان معظم الأحيان يلوم المعارضة ويصف معظم فصائلها بالإرهاب، بينما انتقد هذه المرة تصنيف النظام المعارضين بهذه الصفة، مع تشديد بيان "أستانا" على مواصلة الجهد لقتال تنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام" (النصرة).
وعلى الرغم من أن القيادة الروسية حرصت على إضفاء الشرعية على انتخاب الأسد لولاية رابعة، رافضة موقف الدول الأوروبية وأميركا باعتبار الانتخابات الرئاسية صورية، وأنها تعوّل على أن يعقب انتخابه جهد نحو الحل السياسي، فإن خيبة الأمل الروسية حيال تجاوب نظام الأسد تجلت في مظاهر عدة، حسب العارفين بموقف موسكو، منها ما سبق تنصيب الأسد، ومنها ما لحقه، من هذه المظاهر:
إفشال اللجنة الدستورية
أولاً: إفشال الفريق الذي يمثل النظام في اللجنة الدستورية التي جهدت موسكو لتشكيلها في صيغة "أستانا"، اجتماعاتها المتتالية (خمس جولات) في جنيف، عبر إغراقها في جدل حول ما يسميه النظام مبادئ وطنية أراد منها أن تأخذ المعارضة موقفاً ضد "الاحتلال الأميركي والتركي" للبلاد، إضافة إلى تحديد الفصائل المعارضة كلها بأنها إرهاب، مقابل إصرار المعارضة على مناقشة المبادئ الدستورية، ولكن أيضاً على الإفراج عن المعتقلين، ما أدخل العملية في "سفسطة" أطالت البحث واضطرت بيدرسون إلى تقديم ورقة خطية حول منهجية عمل اللجنة.
وأزعج تأخير بروز نتائج من اجتماعات اللجنة موسكو، التي كانت تعهدت لبيدرسون بالسعي لدى النظام كي يسهّل اجتماعات اللجنة بهدف التوصل إلى مسودة دستور جديد لسوريا، لكنها أخفقت أمام مناورات النظام الذي أراد الإبقاء على الدستور الحالي، لإجراء الانتخابات الرئاسية على أساسه، وتأخرت الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة التي أعلن لافرنتييف قبل أسبوعين أنها ستعقد هذا الصيف.
خطاب الأسد: لا يريد الحل السياسي
ثانياً: انزعجت موسكو من خطاب القسم على ولايته الجديدة، الذي ألقاه الأسد في مجلس الشعب في 17 يوليو، والذي دعا فيه إلى "التمييز (في أزمة سوريا) بين المصطلحات الحقيقية والوهمية، وبين العمالة والمعارضة، وبين الثورة والإرهاب، وبين الخيانة والوطنية، وبين إصلاح الداخل وتسليم الوطن للخارج..."، ومما قاله إن "السبب الأهم للنزاع السوري هو غياب القيم"، كما دعا "كل من غُرّر به وراهن على سقوط الوطن وعلى انهيار الدولة أن يعود إلى حضن الوطن، لأن الرهانات سقطت وبقي الوطن"، وأعلن تمسكه بالدستور مؤكداً شرعيته، واعتبر أن "الحصار المفروض على سوريا لم يمنعها من تلبية احتياجاتها الأساسية"، الأمر الذي يشهد الوضع المعيشي المأزوم على عكسه.
ورأى الأسد أن "الحل الوحيد للنزاع في سوريا يكمن في انسحاب قوات الاحتلال الأجنبية واستئصال الإرهاب واستعادة سلطة الدولة في عموم سوريا"، متجاهلاً بذلك وجود فئات واسعة من الشعب السوري تريد التغيير في وسائل الحكم وثارت ضد ممارسات النظام والحكم، بل هو وصف المعارضين بـ"الوجوه القبيحة"، بدلاً من أن يستخدم لغة تصالحية، فهاجم دولاً عربية، والدول الغربية، التي تأمل موسكو في أن تسهم في إعادة إعمار سوريا في إطار الحل السياسي، وتحدث عن "الانتصار"، واعداً "بتحرير ما تبقى من الأرض".
وتنقل شخصيات سياسية على صلة بموسكو عن أوساط الدبلوماسية الروسية انطباعها بأن لغة خطاب الرئيس السوري تعني أنه لا يريد الحل السياسي الذي تحرص القيادة الروسية على إعطائه الأولوية بعد الانتخابات الرئاسية، وأن دمشق ترتمي في حضن إيران أكثر فأكثر، بدلاً من أن تأخذ في الاعتبار توجهات روسيا، كما أن هذه الشخصيات تشير إلى امتعاض الأجهزة العسكرية والأمنية الروسية من الخطاب، خصوصاً أنها تعرف أكثر من أي جهة خارجية أخرى أن الانتخابات جرت في مناطق سيطرة النظام فقط، التي لا تتعدى مساحتها ثلثي سوريا، بينما هناك أكثر من عشرة ملايين سوري خارج البلد لم يشتركوا فيها.
إزالة لافتات الشكر لروسيا للترحيب بالصين
ثالثاً: محيط الرئيس السوري استغل زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، إلى دمشق في اليوم نفسه لإلقائه خطابه، من أجل إزالة لافتات في دمشق حول الصداقة مع روسيا للمساعدة العسكرية التي قدمتها وأدت إلى الحفاظ على النظام في سوريا، لترفع عوضاً عنها لافتات الترحيب بالصين. وتحدث الوزير الصيني عن مبادرة للحل في سوريا دعا فيها إلى "احترام سيادة سوريا والتخلي عن وهم تغيير النظام".
وفي وقت أشارت وسائل الإعلام المقربة من النظام إلى مرحلة من التعاون الاستراتيجي مع الصين، واعدة باستثمارات في البنى التحتية السورية، التي كانت بكين سعت إليها قبل سنوات ثم تراجعت عنها، وإلى أن روسيا عجزت عن مساعدة سوريا على تجاوز المرحلة الاقتصادية الصعبة، فإن موسكو تدرك أن الجانب الصيني لم يأت لمزاحمتها في بلاد الشام بقدر ما أراد توجيه رسالة إلى واشنطن من دمشق، عن قدرته على توسيع دوره في مقابل الحملة الأميركية ضد هذا الدور.
"السذاجة وقصر النظر"
وكالعادة، انعكس الانزعاج الروسي حيال النظام في مقال نشر في 21 يوليو في صحيفة "زافتا" للمستشار المقرّب من وزارة الخارجية الروسية رامي الشاعر، الذي تعبر كتاباته عن المناخ السائد في أروقة الدبلوماسية الروسية، وإذ أكد الشاعر التفاهم الروسي الصيني في شأن سوريا، واصفاً بعض التوجهات في شأن الصين بأنها "ساذجة لن تغير في الأوضاع على الأرض"، وتحدث الشاعر عن توجهات غرائبية (في دمشق) "في شأن التطبيع مع واشنطن، واستلهام تجربة السادات في سبعينيات القرن الماضي في علاقته مع الاتحاد السوفياتي"، في إشارة منه إلى تلويح بعض محيط الفريق الحاكم في دمشق بالانفتاح على الإدارة الأميركية، لإزالة العقوبات، بعد أن بات التجديد للأسد أمراً واقعاً، نتيجة انزعاج هذا البعض من أن موسكو تستمر في مطالبة النظام بتسديد بعض ديونه، على الرغم من الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعانيها سوريا من جهة، وبسبب الضغط الروسي المتواصل على الأسد من أجل ولوج الحلول السياسية وما باتت تسميه القيادة الروسية "الانتقال السياسي" وفق منطوق القرار الدولي 2254، من جهة ثانية.
كما وصف الشاعر إشارة بعض الكتابات والأقاويل من الأوساط القريبة من النظام عن أن روسيا "هي التي تحتاج إلى سوريا، وإلى موقعها الاستراتيجي، ومواردها الغنية"، وتهكم على وصف بعض مكونات الشعب السوري بأنهم "عملاء" أو "خونة"، (في خطاب الأسد)، وانتقد تحويل "قيادات دمشق النقاش في اللجنة الدستورية إلى منصات للتنظير في أصول المفاهيم، ومعاني الكلمات".
باختصار، يسود الاعتقاد في أروقة الخارجية الروسية التي يعبّر عنها كاتب المقال، وكذلك في أوساط وزارة الدفاع الروسية، بأن خطاب الأسد يسدّ الأبواب على الحلول السياسية التي تسعى موسكو إلى إعطائها أولوية، لأنها الوسيلة الوحيدة من أجل إقبال المجتمع الدولي على توظيف الأموال في إعادة إعمار البلد المهدم، فالجانب الروسي يرى أنه لم يعد جائزاً توصيف توق جزء كبير من السوريين إلى التغيير بأنه "ضلال وخيانة وعمالة".
ويدعو المطلعون على موقف القيادة الروسية عن قرب إلى رصد مدى إمكان إحداث تقارب بين موسكو وواشنطن، بعد قمة جنيف حول سوريا. فإدارة بايدن تحسب حساباً أيضاً للدخول الصيني على الخط في الشرق الأوسط، ويفترض أن تكون أوضاع المنطقة وسوريا من ضمنها على جدول أعمال اللجنة المشتركة الروسية الأميركية التي تقرر تأليفها في قمة جنيف بين بايدن وبوتين، التي عقدت اجتماعاً أولياً وستعقد اجتماعها الثاني قريباً.