جاءت الدورة الـ52 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب بشعارها "في القراءة حياة"، لتجدد جدل العلاقة بين الناشر وكل من الكاتب وكذلك القارئ، فتواصلت شكوى كثير من الناشرين مِن ضعف الإقبال على شراء ما عرضوه من كتب، وشكك بعضهم في دقة الرقم المعلن بشأن جمهور تلك الدورة، الذي قيل إنه تجاوز 1.7 مليون زائر في نطاق الواقع، وبلغ عشرات الملايين في النطاق الافتراضي.
زمن الرواية؟
رئيس اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد لديه شكوى من أن كثيراً من الناشرين اضطروا؛ إما إلى تخفيض عدد الإصدارات السنوية أو تخفيض عدد العاملين في دار النشر، أو التوقف بصورة مؤقتة.
ويقول رشاد: "زاد هذا من تفاقم معاناة الناشرين التي بدأت من سنوات، وفي ظل إلغاء أو تأجيل العديد من معارض الكتب العربية، وقد كانت متنفساً مهماً لتوزيع الكتاب، فقده الناشرون. فالاتجاه العام هو النمو المتزايد في حركة نشر الرواية المطبوعة، هذا الاتجاه يشهد نمواً مطرداً في السنوات الأخيرة بخاصة منذ عام 2006 إلى الآن. ولعل فن الرواية هو المحفز الأقوى حالياً لاستمرار حراك النشر العربي، فالأجيال الجديدة التي اعتادت على الدردشة على شبكة الإنترنت تعتبر الرواية عالماً آخر موازياً من الحكايات يجذبهم. وجاء انتقال بعض المتفاعلين على شبكة الإنترنت من هذا الفضاء إلى الكتاب الورقي بكتاباتهم إلى الدفع لعالم الكتاب الورقي بأجيال جديدة على غرار ما يحدث في مطبوعات في معرض الكويت ومعرض الشارقة ومعرض الرياض، لكن هذا الاتجاه نراه في مصر أيضاً في عدد من دور النشر، ويبقى السؤال الأصعب: هل لهذا النمط من مستقبل؟".
ويجيب رشاد: "في حقيقة الأمر إن هذا النوع من الأدب هو أدب وقتي يختفي كُتابه مع الزمن، وهذا ما يذكرنا بظواهر أدبية صاحبت صعود ؤ وأدبه، فاختفت هذه الظواهر وبقي أدب نجيب محفوظ، وقد أدركت بعض دور النشر هذا الأمر، فنظمت ورشاً متخصصة في الكتابة الإبداعية، أفرزت نتائج إيجابية".
وباء كورونا
تقول الشريك المؤسس ومستشارة النشر في دار "آفاق" القاهرية، سوسن بشير لـ"اندبندت عربية": "لم توفق معارض الكتب الدولية التي أقيمت خلال وباء كورونا في تعويض الناشرين في العالم العربي عن خسائرهم بسبب الوباء، وذلك يتضمن الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب. العالم كله يواجه وباءً لا يعرف كيف يتعامل معه، والنتيجة المباشرة لذلك هي تضرر الاقتصاد المحلي والعالمي في البنيتين التحتية والفوقية، وأصبح الوصول لكل قارئ محتمل هو الهدف الرئيس لأي دار نشر".
وتضيف بشير: "من هنا أستطيع أن أقول إن وباء كورونا حرق المراحل التي كانت متوقعة للوصول إلى سيادة الكتاب الرقمي حتى في العالم العربي الذي كنا، نحن الناشرين، نتوقعه ربما بعد عقد من الزمان. ما زال الكتاب الورقي هو المفضَّل لدى القراء العرب مواليد ما قبل التسعينيات، وذلك من ملاحظتي لشرائح القراء المختلفة، بينما يمكن لغالبية القراء مواليد الأجيال اللاحقة الاستغناء عن الكتاب الورقي تماماً والانتقال بكل أريحية للكتاب الرقمي حال توافره. وهذا ما أرى أننا نُدفَع إليه الآن، كناشرين، بفعل قوى الكارثة البيولوجية المتمثلة في فيروس كورونا، وهذا لا يعني بداية انتهاء الكتاب الورقي لكنه يعني طفرة كبرى في الكتاب الإلكتروني ليصبح منافساً حقيقياً على أرض واقع القراءة الحالي في العالم العربي، بحيث ستتراجع مكانة دور النشر التي لن تدخل هذا السباق المحتوم. علينا اليوم أن نعترف أن أي كتاب مطبوع سيخسر قراءً كثيرين إن كان ورقياً فقط".
بين الناشر والمؤلف
وبالطبع فإن مشكلات النشر لا تخص الناشر وحده، فالكتّاب أيضاً، يعانون منها، بل ويغلب على علاقة كثيرين منهم بناشريهم انعدام الثقة، خصوصاً في ظل الإصرار في كثير من الحالات على تحميل المؤلف كلفة النشر كاملة أو جزء كبير منها، أو إنَّ عليه في أفضل تقدير أن ينشر من دون أن ينتظر أي مقابل مادي يدفعه له الناشر.
يقول الروائي خالد إسماعيل: "بدأت مشكلاتي مع النشر منذ عام 1995 عندما اضطررت إلى الانتظار لمدة عام ونصف العام لتصدر مجموعتي القصصية الأولى "درب النصارى"، ولولا وساطة بذلها صحافيون نافذون لدى الناشر (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، ما صدرت المجموعة. وعشتُ معاناة أخرى عند نشر روايتى "عقد الحزون"، اقترضت من صديق ألف جنيه، وهو مبلغ كان يفوق طاقتي المالية وقتها (1998)، ودفعتها للناشر، ثم فوجئت برداءة الطباعة. هناك معاناة أهم من معاناتي الشخصية تتمثل في رداءة مستوى صناعة الكتاب في مصر، وهذا ناتج من تدهور الإمكانات الفنية وغياب الخبراء القادرين على صنع كتاب جيد، ومع استثناء دور النشر المصرية التي تملك مطابع خاصة بها، ستجد أن الكتاب المصري ـ بخاصة الأدبي ـ رديء، على رغم وجود فنانين ومصممين مبدعين، لكن رداءة الطباعة تهدر منجزاتهم وأفكارهم الإبداعية .
ومن التسعينيات إلى وقتنا الراهن، جرت تحت الجسر مياه كثيرة، لكن جوهر الأزمة لا يزال حاضراً، فقد ظهرت دور نشر عبر إعلانات مدفوعة تطلب من المؤلفين الاتصال بها لتنشر لهم كتبهم على أن يتحملوا نصف التكلفة... "هل انتهيت من كتابك وتبحث عن ناشر؟ نحن قدمنا 90 كاتباً ينشرون عملهم الأول في معرض القاهرة 2021، بدأوا طريقهم معنا بكتب رائعة في كل المجالات، الرواية والقصة والشعر والكتب التاريخية والدينية والتنمية البشرية، ذلَّلنا لهم عقبة التكاليف المرهقة، وأصدرنا أعمالهم في طبعات محدودة بتكلفة بسيطة، وشاركناهم فرحتهم في جناحنا بمعرض الكتاب، والفترة المقبلة سوف نبدأ في طرح كتبهم للتوزيع (أون لاين) وشحنها لأي مكان في مصر أو خارجها". وورد في الإعلان نفسه: "النجاح المبهر للفكرة شجعنا على الاستمرار في اكتشاف مواهب جديدة، سواء سبق لأصحابها النشر أو يخططون لإصدار الكتاب الأول، لا توجد شروط للنشر سوى جودة المحتوى، في أي مجال للكتابة. شاهد علي صفحتنا إصداراتنا الأخيرة، وكن واحداً ممن سينضمون إلينا. التواصل على رسائل الصفحة، أو عن طريق إيميل الدار. ننتظر كتابك، وسوف نرد عليك في حال الموافقة بكل التفاصيل".
بؤس شديد
ومن جانبه يرى الروائي والباحث في علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن أن حالة النشر في العالم العربي عموماً وفي مصر على وجه الخصوص، "تعاني من بؤس شديد، فهي في الغالب الأعم صارت تجارة ثم تجارة ثم تجارة وبعدها صناعة، بينما تأتي الرسالة أو مهمة ترسيخ المعرفة والوعي والذوق في الذيل".
ويضيف: "لقد زحفت آليات الرأسمالية المشوهة على النشر، فصار المهم عند أغلب الدور هو حجم المبيعات لا مستوى ما يطبع ويقدم للقراء. وبدلاً من الارتقاء بذوق القارئ ومستوى تفكيره، يحدث العكس تماماً. وزادت هذه الظاهرة مع ظهور دور نشر صغيرة وعابرة تطبع لمن يدفع وتعطيه اسمها، من دون تدقيق في عمق أو صدق أو صواب أو سلامة وعدم انتحال ما يقدم. ثم يأتي التلاعب في تزييف عدد الطبعات بما يعطي إيحاءً خاطئاً لسوق القراءة، فيقبل الناس على التافه والسطحي أو غير الناضج، وأحياناً غير المفيد وفاقد القدرة على الإمتاع والإضافة، بدعوى أنه من الأكثر مبيعاً".
ويتابع: "أصبح لدينا الآن جيل من القراء تربوا على الثقافة السماعية والمشافهة المبتسرة والجوفاء وغير المؤصلة الراسية على أسس وجذور، والتي تطلقها وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار، وبعض المتفاعلين مع هذا النمط من الثقافة يزحفون سريعاً إلى عالم النشر، سواء ككتاب هواة أو قراء غير مدققين، بل غير مستعدين لتقبل الجيد من النصوص الأدبية والعميق من المعارف العلمية".
و"ما يزيد الطين بلة، يقول عمار علي حسن، أن أغلب دور النشر لا تدفع لمصححين لغويين، ولا لمحررين، ولا للجان للقراءة والحكم على صلاحية العمل للنشر من عدمه، ومن ثم يفتح الباب على مصراعيه لسيل من الكتابات التي أغرقت السوق، وتقود بالتتابع إلى الحط من شأن الكتب والكتابة والكتاب أنفسهم".
ويرى الروائي أشرف الخمايسي أن زيادة عدد دور النشر مؤشر مطمئن على تقدم صناعة الكتاب، لكن هذا لا يمنع من أن هناك صعوبات كبيرة تواجه هذه الصناعة. فالدولة المصرية مثلاً لا تدعم دور النشر الخاصة بأي شكل من أشكال الدعم، بل وتستثمر فيهم، فأسعار إيجار أجنحة دور النشر في المعارض التي تقام داخل مصر مخيفة، وغير معقولة، ومنهكة، وغير مشجعة، في ظل تنافس غير متوازن بين الناشر الحكومي، مثل "الهيئة العامة للكتاب" و"الهيئة العامة لقصور الثقافة" و"المجلس الأعلى للثقافة"، الذي تدعمه الدولة من ضرائب المواطن، فيستطيع تقديم محتوى جيد شكلاً ومضموناً بسعر رخيص، في حين يتحمل الناشر الخاص عبء عملية النشر وحده، وغالباً لا يستطيع القيام بها، ما يضطره إلى مساومة الكاتب كي يشاركه مصاريف إصدار كتابه أو يتحملها بالكامل والأرباح مناصفة. هذا عن دور الحكومة التعجيزي لدور النشر الخاصة، أما عن دور المكتبات، أقصد منافذ التسويق، في فعل الشيء التعجيزي نفسه، فحدِث ولا حرج، فالمكتبة تأخذ نسخاً معدودة من الناشر، بخصم يقارب النصف من سعر الغلاف، ومع ذلك لا تقوم بالدفع فوراً للناشر، بل تمهله حتى الانتهاء من بيع النسخ. وحتى إذا باعت فإنها لا تسارع بالسداد، وتتملص من الدفع، وهذا يعطل دورة رأس مال الناشر، ويسبب لها العطب بالكامل، ما يدفع به إلى تحديد منافذ تسويقه في عدد محدود جداً من المكتبات، أقل مِن أن يكون كفؤاً لتحقيق عملية ترويج وتسويق تعود عليه بربح مشجع. هذا فضلاً عن الممارسات غير النزيهة التي يمارسها بعض الناشرين بعضاً ضد بعض، عندما تستأثر دور النشر الكبرى بأكبر قطعة من كعكة النشر تاركة الفتات للناشرين الصغار".
دِقة الأرقام في زمن كورونا
ويلاحظ مدير دار العربي للنشر شريف بكر أن دراسة "النشر في العالم العربي من 2015 إلى 2019" التي أعدها الباحث خالد عزب وتزامن صدورها مع انطلاق الدورة الأحدث لمعرض القاهرة الدولي للكتاب؛ "مهمة جداً، وتعتبر خطوة تأخرت كثيراً، فدائماً ما نشكو من أننا نفتقر إلى الأرقام الدقيقة التي تساعدنا على تطوير أدائنا، في ما يخص عدد الناشرين وعدد الكتب واتجاهات القراءة. وأوضح بكر أن الدكتور خالد عزب أجرى لقاءات مباشرة مع كثير من الناشرين خلال إعداد تلك الدراسة وقد راعى أن القطاع الخاص يمثل أكثر من 80 في المئة صناعة النشر في العالم العربي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول الباحث خالد عزب إن إعداده لهذه الدراسة بتكليف من مجلس إدارة اتحاد الناشرين العرب، "واجه صعوبات متعددة، فعلى الرغم من تعاون عدد كبير من الاتحادات الوطنية للنشر، ظلت الأرقام معضلة كبيرة لجهة دقتها، فضلاً عن تحليلها". وأضاف: "أن من المراحل الصعبة في الدراسة تحليل مضمون النشر وهو يعتمد على مسح للقراءة في العالم العربي واتجاهات النشر لدى دور النشر العربية، وهذه مسألة تطلبت جهداً مضاعفاً في ظل ندرة تحليل اتجاهات القراءة لدى القراء في مراحل سنية مختلفة، وكذلك عدم وضوح اتجاهات النشر لدى العديد من الدول، إلا أن تعاون أعضاء اتحاد الناشرين العرب كان معضلة خاصة مع توالي طلب الإجابة على أسئلة محدَّدة، كما كان إضافة قسم عن معارض الكتب في العالم العربي مهماً، لكونها إلى الآن المؤشر الأقوى على حركة الكِتاب في المنطقة". ورأى عزب أن تحليل النشر في الوطن العربي يحتاج إلى المزيد من الدراسات، "لذا بناءً على تكليف اتحاد الناشرين العرب بدأتُ في إعداد دراسة جديدة تغطي عامي 2020 و2021 وعنوانها المقترح هو "النشر في زمن كورونا"، وهو موضوع حيوي، إذ إن صناعة النشر العربية تعرضت لهزة عنيفة في هذا الزمن".
آليات مستحدثة
ويقول الكاتب إبراهيم عادل: "يواجه النشر في العالم العربي عموماً وفي مصر بخاصة، عدداً من المشكلات والتحديات، لا سيما في ظل جائحة كورونا التي هدَّدت الكثير من المكتبات ودور النشر، ولكن في المقابل ظهر عدد من الوسائل والآليات التي استغلتها دور النشر واستفادت منها في سبيل الوصول للقارئ بكل طريقٍ ممكن. من هذه الوسائل الدعاية من خلال صفحات ومجموعات القراءة على فيسبوك والتي انتشرت في السنوات الأخيرة انتشاراً كبيراً، بل واستطاع عدد من دور النشر أن يستحوذ عليها بشكل واضح ويجعلها منبراً للدعاية لأعماله والترويج لها من خلال القراء النشطين على هذه الصفحات، ومن خلال مسابقات بين الأعضاء للانتشار الأكبر على (فيسبوك) وإهدائهم عدداً من كتب هذه الدور. ومن جهة أخرى سعى عدد آخر من دور النشر إلى مواجهة ظاهرة القرصنة التي يشتكي منها الناشرون جميعاً، من خلال توفير كتبهم بشكل شرعي عبر تطبيقات حديثة متطورة مثل "أبجد" و"رفوف" التي تسمح للقراء بقراءة الكتب الموجودة عندهم وذلك باشتراكٍ شهري يتراوح بين 60 إلى 100 جنيه".
و"لا شك، يضيف عادل، أن عدداً لا بأس به من الكُتَّاب يواجه مشكلة كبيرة في النشر، ورفض الأعمال التي يرسلونها إلى دور النشر، بخاصة مجموعات الشعر والقصص القصيرة التي يواجه كتابها تحدياً كبيراً في النشر، إضافة إلى دور النشر التي تطلب مقابلاً مادياً للنشر، بل ويضعون في العقود أحياناً شروطاً مجحفة تتصل بالحصول على نسبة من الجوائز التي يحصل عليها الكاتب وغير ذلك".
وتابع: "نتمنى أن يتمكن اتحاد الناشرين بالتعاون مع مؤسسات الدولة المعنية من الوصول لآلية تمنع مثل تلك الممارسات التي تسيء للنشر والناشرين بدرجة كبيرة. كما يجب التعامل مع ظاهرة الكتب المقرصنة بجدية أكبر، لا سيما أنها تطبع بكميات ضخمة، ويتم تصديرها لمكتبات "سور الأزبكية" وفرشات كتب في وسط البلد وغيرها، وأظن أنه من اليسير اتخاذ قرار حاسم بشأنها لمصلحة الناشر والقارئ في الوقت نفسه".
معضلة الغلاء
يقول الروائي وكاتب أدب الرحلات مختار سعد شحاته: "زُرت معرض القاهرة للكتاب في دورته الأخيرة، وأعترف بأنني أنفقت في المعرض مع زوجتي مبلغاً ضخماً بحساب الأسر المتوسطة في مصر، ولاحظت أن كثيرين واجهوا المعضلة ذاتها. وبمتابعة صفحات شخصية ومجموعات افتراضية للقراء، لاحظت كذلك الشكوى من ارتفاع سعر الكتاب (خارج نطاق النشر الحكومي المدعوم) بشكل مبالغ فيه. إلا أن أحد الأشخاص القريبين من دوائر النشر، قال لي إن الناشرين "هيبيعوا هدومهم" نظراً لقلة المبيعات. ثم إنني رأيت بنفسي بعض الناشرين "يولولون" بسبب انخفاض المبيعات، وهو ما يثير أسئلة حقيقية حول علاقة الناشر بالكتاب ومؤلفه، وما يحدث في طيات تلك العلاقة من كوارث يمكن وصفها بضمير مرتاح بأنه تدليس ونصب في كثير من الحالات. وهنا أسأل: ألم تتلق دور النشر دعماً مادياً لهذه الدورة؟ فلماذا يصرخ الناشرون بخساراتهم؟ أتساءل عن تلك الخسارة في ظل غياب أرقام مبيعات الكتب وعدد الطبعات والنسخ، وتلك قضية ليست في صالح أي دار نشر. وبقي سؤال أخير: ألم تعلم دور النشر ظروف الوضع الاقتصادي العالمي في ظلّ كورونا؟ ألا تعتبر الأمر برمته "بيزنس" يحتمل الخسارة كما احتمل المكسب قبل ذلك؟ الموضوع هنا يحتاج لكثير من الشفافية من جانب دور النشر؛ لأنه ببساطة "ما دام المشروع التجاري يخسر، فلا داعٍ للاستمرار فيه". على دور النشر أن تكون أكثر شفافية وتعلن عن المبالغ التي تتقاضاها من المؤلفين مقابل النشر، وأن تعلن عن حقيقة عدد النسخ والطبعات والمبيعات، ثُم تعرض لنا بشفافية في نهاية كل دورة مالية ما حدث، وهو عُرفٌ متبع في دور النشر غير العربية. وعلى الحكومات أن تدعم وتكون أكثر انتباهاً ومراقبة لكافة الحقوق، بخاصة في ما يتعلق بحقوق المؤلفين المهدرة علناً لصالح دور النشر، إلا من رحم ربي".
جمهور المعرض
مليون و 700 ألف شخص زاروا معرض القاهرة في دورته الأخيرة بحسب تصريح رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، المنظمة للحدث، وهو رقم، بحسب التصريح نفسه لم يعرف مثله أي معرض كتاب في العالم، ومع ذلك يشتكي ناشرونا من أنهم لم يحققوا أرباحاً تذكر، وكأن عشرات آلاف الزوار لم يذهبوا إلى المعرض ليشتروا كتباً، فهل يمكن أن يفيدنا أحد بالحجم الحقيقي لمبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة؟
يقول مدير مجموعة "بيت الحكمة" (وهي دار نشر صينية تصدر كتباً باللغة العربية)، أحمد السعيد: "نسبة كبيرة من هذا الجمهور جرى توجيهها عبر السوشيال ميديا من جانب دور نشر معينة، فنتيجة التغير في طبيعة ومستويات وأعمار واهتمامات القراء، تغيرت طبيعة الزائر ولم يعد ذلك الشخص الذي يذهب إلى المعرض ليتفرج وينتقي، ولذلك الأعلى بيعاً هي دور النشر المهتمة بالكتب التراثية، وتلك المهتمة بنوعية محددة من الكتب يتهافت عليها الشباب، فضلاً عن دور النشر الحكومية التي تبيع بأسعار مخفضة جداً، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية من ناحية، والناس التي تذهب إلى المعرض لتلتقط الصور وتأكل".
ويقول الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة "ميريت الثقافية": "يمكن أن يكون ما يراه أحمد السعيد إشارة مهمة إلى ضرورة أن تراجع دور النشر الخاصة أسعار كتبها، باعتبار إن القارئ غير الموجَّه يذهب إلى المعرض ليشتري الكتب الرخيصة، علماً أن الكتاب يتكلف 15 جنيهاً (دولاراً واحداً) ويباع بـ 150 جنيهاً، وبأكثر من ذلك. ومع ملاحظة أن دور النشر الحكومية تحقق هامش ربح من بيعها الكتب بأسعار يرى الناشر الخاص أنها زهيدة بشكل مبالغ فيه. أما الرقم الخاص بالتكلفة الحقيقية لطباعة كتاب، فيؤكد سمير درويش أنه من واقع تجربته الشخصية في إصدار ديوان جديد له بعنوان "ديك الجن" ضمن سلسلة "كتاب ميريت الثقافي"، التي يشرف عليها الناشر محمد هاشم.
ويقول درويش: "ذهبت إلى معرض القاهرة في دورته الأخيرة أكثر من مرة، فلاحظت أن كثيراً مِن الذين يبيعون بمعدلات مُرضية، وبأسعار عالية، ليسوا معروفين في الوسط الأدبي أصلاً، ومعظمهم روائيون، عناوينهم بسيطة وقريبة من التراكيب الشعبية، مثل "نسيتُ أن أنسى". وفي المقابل لا يوجد إقبال من "الجمهور العادي" على الروايات والدواوين الجادة التي تحاول تقديم جماليات مختلفة، فضلاً عن أن الأدباء لا يشترون كتب الآخرين". ويضيف: "وجدتُ أسماء تبيع جيداً، وتحاول ملء الفراغ التي تركه رحيل أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق، كما وجدت كتباً عن السحر والجاسوسية والرعب. وعندما يشتري القارئ كتاباً منها، لا يقل سعره عن 100 جنيه يخبره البائع بأن من حقه الحصول على كتاب آخر للكاتب نفسه ممهور بتوقيعه، وهو أساساً كاتب مغمور بالنسبة إلى الوسط الثقافي التقليدي".