لن تمر التطورات التي أحدثها الرئيس التونسي قيس سعيّد مساء الأحد 25 يوليو (تموز) من دون ارتدادات كبيرة على الوضع الاقتصادي والمالي لتونس.
وقرر الرئيس التونسي إثر اجتماعه بعدد من القيادات العسكرية والأمنية في قصر قرطاج، تجميد كل اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب ومحاكمة من تتعلق بهم تهم الفساد، وقرر إعفاء رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي من منصبه.
وتشهد تونس أعمق أزمة اقتصادية ومالية منذ ما يزيد على ستة عقود، عمقتها الصراعات السياسية بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة، مما أدخل الوضع الاقتصادي في ضبابية بالنسبة إلى المستثمرين التونسيين والأجانب وحتى المانحين الدوليين.
ولم تتمكن البلاد من الخروج من الأزمة المالية التي تمر بها على الرغم من محاولات حكومة المشيشي التي تم إقالتها سنّ قوانين وإجراءات لإنعاش الاقتصاد التونسي العليل.
وساد منذ العام 2011 اعتقاد لدى التونسيين بأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ستتحسن، وأن يسهم الانتقال الديمقراطي في تحسين الأوضاع في البلاد، غير أنه مع مرور الوقت بدأت البلاد تدخل في سلسلة من الأزمات تحولت إلى حلقة مفرغة، غذاها ارتفاع مديونية البلاد إلى درجة التخوف من القدرة على الإيفاء بتعهداتها المالية للمانحين الدوليين، مما زاد تعكير الأوضاع الاقتصادية.
وفاقمت جائحة كورونا الأزمة، إذ عطلت العديد من القطاعات الحيوية، وتسببت بتراجع العائدات السياحية للعام الثاني على التوالي، وبتوقف إنتاج الفوسفات، أحد أهم أعمدة النقد الأجنبي.
وسجلت تونس العام 2020 نسبة انكماش في اقتصادها بلغت 8.8 في المئة، ونسبة بطالة في حدود 17.5 في المئة.
مفاوضات متوقفة مع صندوق النقد الدولي
ويُرجح عدد من المحللين الاقتصاديين بأن المفاوضات مع المقرضين الدوليين قد تتأجل في شأن البرامج الاقتصادية والتعاون المالي، إلى حين استقرار الوضع السياسي وتشكيل حكومة جديدة، وعودة مؤسسات الدولة وفي مقدمها البرلمان إلى العمل بعد تجميده لمدة 30 يوماً، بفعل قرار الرئيس سعيّد. إلا أن متحدثا باسم صندوق النقد الدولي أكد "إن الصندوق على استعداد لمواصلة مساعدة تونس في التغلب على تداعيات أزمة فيروس كورونا وتحقيق تعافٍ غني بالوظائف وإعادة مالية البلاد إلى مسار مستدام".
وأضاف المتحدث، ردا على أسئلة من "رويترز"، "نراقب عن كثب تطورات الوضع في تونس. لا تزال تواجه ضغوطاً اجتماعية واقتصادية غير عادية، منها تداعيات جائحة كوفيد-19 التي تسبب خسائر كبيرة في الأرواح".
ويلفت أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي إلى أن "المؤسسات المالية الدولية تشترط الاستقرار السياسي كي تدخل في مفاوضات مالية، وهذا الشرط غير متوافر في تونس حالياً".
ويحذر الشكندالي من أن يستغرق "الوضع السياسي الراهن وقتاً طويلاً، مما سيكون له تداعيات حساسة مع المقرضين الدوليين في ظل وضع اقتصادي هش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول إن المفاوضات بين تونس وصندوق النقد الدولي لازالت شبه متوقفة حالياً بسبب المشهد السياسي المتأزمة والصراعات السياسية الحاصلة بين رأسي السلطة التنفيذية، في إشارة إلى رئيسي الجمهورية والحكومة.
ومن أهم أسباب توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وفق الشكندالي، توقيع رئيس الحكومة المعفى من مهماته اتفاقاً مع الاتحاد العام للشغل يقضي بمواصلة الزيادة في الأجور، الأمر الذي عارضه الصندوق.
ويتابع أن "صندوق النقد الدولي لن يقبل بالتفاوض مع حكومة مؤقتة لا يمكنها أخذ قرارات حاسمة، مما يعقد الوضعية المالية لتونس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجية لمواصلة تعبئة الموارد الضرورية لتمويل موازنة العام الحالي".
ويدعو إلى "ضرورة التعجيل في وضع خريطة طريق واضحة لإعادة الثقة، تشارك فيها الأطراف الفاعلة وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل، الذي يجب أن يلعب دوراً أساسياً في هذا الانتقال السياسي".
ويعتقد الشكندالي أن هناك حاجة إلى "وضع برنامج إنقاذ اقتصادي منفصل عن الحوار السياسي، يسهم فيه الخبراء الاقتصاديون".
قلق المستثمرين
وتثير التطورات قلق المستثمرين في شأن قدرة تونس على تدبير التمويل اللازم لتفادي المشكلات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب جائحة "كوفيد-19".
ونقلت وكالة "رويترز" عن رئيس استراتيجية ائتمان الأسواق الناشئة في "ليجال أند جنرال إنفستمنت مانجمنت" رضا آغا، أن "هذه التطورات تشير إلى الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الصعب الذي تعانيه البلاد منذ العام 2011".
ومُني إصدارا 2024 و2025 بأكبر هبوط على الإطلاق، وفق تصريح لمسؤول تونسي رفض ذكر هويته لوكالة "رويترز"، ويتوقع تعافي أسعار السندات بعد تعيين سعيّد حكومة جديدة.
وكتب المحللان في "بنك باركليز" إبراهيم رزق الله ومايكل كافي، في مذكرة بحثية، "أدى قرار الرئيس سعيّد بتجميد العمل التشريعي في تونس إلى أزمة دستورية جديدة أكثر حدة من وجهة نظرنا، مما أضاف أخطاراً متزايدة إلى التقلبات السياسية والاجتماعية خلال الأسابيع المقبلة".
وأظهرت بيانات "آي. إتش. إس ماركت" أن عقود مبادلة أخطار الائتمان التي أجلها خمس سنوات للبنك المركزي التونسي بلغت 751 نقطة أساس، بزيادة نقطة أساس واحدة عن إغلاق يوم الجمعة، وزاد المستوى إلى مثليه تقريباً مقارنة به قبل عام.
وتعتمد النظرة المستقبلية لتونس جزئياً على قدرتها على تدبير تمويل جديد من صندوق النقد الدولي، وتسعى تونس إلى الحصول على قرض مدته ثلاث سنوات بقيمة 4 مليارات دولار للمساعدة في استقرار وضع ميزان المدفوعات، بعد اتساع عجز ميزان المعاملات الجارية إلى 7.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي.
وقال كبير خبراء الديون السيادية للأسواق الناشئة تيم أش، في "بلو باي أست مانجمنت"، إن "السوق قلقة بشأن النظرة المستقبلية ومشاركة صندوق النقد الدولي".
وتابع، "كان الحديث عن إجراء حوار في الصيف على أمل التوصل إلى اتفاق في سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن الآن ثمة علامة استفهام بشأن هوية من سيكون رئيس الوزراء الجديد، ومن سيكون لديه سلطة التعامل مع صندوق النقد".
وفي تقرير في مايو (أيار)، قالت وكالة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني، إن التخلف عن سداد ديون سيادية ربما يكلف البنوك التونسية ما بين 4.3 و7.9 مليار دولار، أي ما يعادل نسبة تتراوح بين 55 في المئة و102 في المئة من إجمالي رأسمال النظام المصرفي، أو 9.3 في المئة إلى 17.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي المتوقع لعام 2021.
خطر عدم القدرة على السداد
وزد احتمال عدم قدرة تونس على سداد دينها الخارجي مع استمرار الأزمة السياسية وغياب اتفاق حول الإصلاحات العاجلة المتوجب إقرارها، وفق تقرير نشرته "مجموعة القرض الفلاحي في فرنسا".
وذكر التقرير أن وكالة التصنيف الائتماني "فيتش رايتينغ" خفضت مجدداً تصنيف تونس إلى "B-"، مع المحافظة على آفاق سلبية، لتلتحق بوكالة "موديز" التي خفضت تصنيف إصدار العملة الأجنبية والعملة المحلية لتونس من "B2 إلى B3"" مع الإبقاء على آفاق سلبية.
ويحيل هذا الخفض وفق معايير الوكالة إلى أن البلد قد يصبح مصنفاً في موقع عالي المخاطر، بمعنى عدم القدرة على الإيفاء بالالتزامات المالية.
وخفضت الوكالات بسبع درجات التصنيف السيادي لتونس منذ سنة 2011، بسبب عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والآثار الاقتصادية لذلك منذ 10 سنوات، سواء على الدين والنمو والسياسة النقدية والقطاع المصرفي.
ويشير التقرير إلى أن النظام السياسي المنقسم الذي تغلب عليه الصراعات والتجاذبات يمنع كل إصلاح وكل مسار لاتخاذ قرار، كما تفضي التوترات الاجتماعية، ولا سيما مع الاتحاد العام للشغل، إلى تقلبات اقتصادية تثير قلق المستثمرين الأجانب.
وخلص التقرير إلى أن التعامل مع الأزمة لا يسير في الاتجاه الصحيح، وهو يغذي عدم الاستقرار الحكومي وانعدام ثقة المانحين الخارجيين، وأن اتفاقاً مسبقاً مع صندوق النقد الدولي هو وحده الكفيل برفع القيود عن تمويلات البلدان الصديقة المستعدة لمساعدة تونس مالياً.