وصف مستشار سياسي رافق مصطفى الكاظمي في آخر جولة حوارية له مع الإدارة الأميركية الجولة بـ"الناجحة" ولكن بأي معيار يُحسب ذلك النجاح، سألته؟... أشار عليّ بعدم ذكر اسمه واكتفى بالقول: "هي بداية جديدة لبناء علاقة استراتيجية طويلة الأمد مع العراق"، لكن من وجهة نظر المنتقدين كانت الزيارة بروتوكولية بحتة، ولفتت نظرهم تلك القصاصة الورقية التي لوّح بها الرئيس جو بايدن في اللقاء مع الكاظمي، والتي حملت جملتين بخط اليد: "إيران تفكر بإيقاف الهجمات" و"الولايات المتحدة تستعد للردّ على الهجمات!".
تفاوض حذر من أجل الانسحاب
لكني ما زلت أنظر إلى معطيات تلك الزيارة على أن المفاوض العراقي رضخ توافقاً مع مطلب الميليشيات الولائية كما يصفونها، بالانسحاب التدريجي من البلاد وإبقاء قوة محدودة لا تتعدى بضع مئات من الخبراء العسكريين، الذين سيشرفون على التدريب والتجهيز وإدامة التسليح العسكري للجيش، الذي تحوّل كلياً إلى التسلح الأميركي والتخلي عن 50 عاماً من التسلح الروسي منذ عام 2003. إضافة إلى الدعم والتطلع لإبقاء المساعدة اللوجستية والمعلومات ضد الإرهاب، الذي تحاربه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم، فما زال العراق مهدداً بالهجمات التي تشنّها فلول "داعش" التي تحظى بحاضنة في المنطقة الغربية منه.
المستشار السياسي يعتبر "إرجاع 17 ألف قطعة متحفية مسروقة من المتحف بداية غزو العراق عام 2003 إلى البلاد نصراً كبيراً، كذلك استعادة الملف اليهودي والوثائق اليهودية التي سُرقت بداية الغزو بعد أن حافظ عليها المتخصصون الأميركيون، من دون الكشف عن ملابسات سلبها من المتحف الوطني، وكيف ذهبت إلى هناك وبأي أيادٍ نُقلت، ويعدّ منح نصف مليون جرعة من لقاح "فايزر" تحولاً كبيراً، كذلك منحنا مقاعد دراسية وتفعيل الاستثمار والمساهمة في الدعم الاقتصادي، كلها تُعتبر مؤشرات نجاح، "فلا يمكن حصر العلاقة بالجانب العسكري فقط، وذلك لا يُحسب بزيادة الأعداد أو نقصانها، لأن الولايات المتحدة لها قدرات ضرب الأهداف من خارج العراق، كما فعلت بقصف موكب قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وأن ترويج الولائيين لنصر الميليشيات وتصوير الانسحاب تحت مطرقة الاستهدافات التي قاموا بها، فهي لا تعدو إلا كونها للترويج لنصر يحققون من خلاله تسويغ مواقفهم وورقة يلعبون بها"، على حد وصفه.
هل العراق باقٍ تحت المظلة الأميركية؟
الأسئلة الكثيرة حول اختتام جولة المباحثات الأخيرة التي تجري بناءً على اتفاق الإطار الاستراتيجي، الذي وقعته الولايات المتحدة أثناء غزوها العراق، وبوجود أكثر من 100 ألف من جنودها فيه عام 2008، يثيرها الكثير من المتخصصين والمراقبين للمشهد العراقي في مقدمتها: هل إن العراق خرج من حماية جيش الأولويات الأميركية؟ أجابني المستشار السياسي المرافق للجولة، الذي فضّل عدم ذكر اسمه: "العراق باقٍ ضمن اتفاقه مع الأولويات الأميركية حتى الآن، وأنصح بعدم الترويج لما تقوله الدعاية الولائية التي تسعى إلى خذلان أميركي في البلد، وهي استراتيجية يتبعونها الآن ربما تؤثر دعائياً في الإعلام الأميركي الذي يصيغ الرأي العام ويشكّل المواقف، فليس من مصلحة العراق الانسحاب الأميركي، فالذي حصل خلال هذه الجولة هو إعادة وصف القوات الأميركية وعملها في العراق، والموقف سينجلي من خلال إتمام الصفقة مع إيران والحؤول دون مشروعهم النووي".
الانسحاب يعني تولّي الميليشيات الحكم المطلق
أما الشارع العراقي، فيرى بعض متابعي مشهده أن "مع طلب الإدارة الأميركية إجراء الانتخابات في موعدها، ستسيطر الميليشيات على البرلمان الجديد الذي سيبدأ بدورة جلسته الأولى قبل الموعد النهائي المحدد، لتحويل دور القوات الأميركية من قوات قتالية إلى مهمة التدريب والمشورة"، كما يؤكد الكاتب والباحث الكردي هيوا عثمان الذي يعلّق على زيارة الكاظمي إلى واشنطن ولقاء الرئيس بايدن: "أظهرت الزيارة أولى بوادر توصّل إيران والولايات المتحدة إلى تفاهم حول العراق، أما التصريحات التي أعقبت اجتماع الرجلين في المكتب البيضاوي والبيان المشترك، كانت كلها مجرد مجاملات لا تعني الكثير لأي مراقب يريد أن يرى كيف سيكون شكل العلاقات بين البلدين ومستقبلها".
ويعتبر كثرٌ من المتابعين العراقيين لجولة الحوار الاستراتيجي الرابعة والأخيرة، أنها لا تحمل أي شيء ملموس لبلادهم، لكنها تحمل هدية لإيران، تُوّجت بزيارة الجنرال اسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس إلى العراق مباشرة، واجتماعه مع رؤوساء الفصائل والألوية الممثلة للميليشيات وتأتي بمثابة إعلان نجاح مسعى إيران لتطويق خلاياها وأتباعها الولائيين، الوجود الأميركي في العراق وحصره في قواعد محدودة تتعرّض للقصف، وسفارة أميركية ما زالت تتلقّى صواريخ الكاتيوشا من مناطق متعددة في بغداد، من دون ردع ومن دون ردّ كافٍ لوقفها كلّياً، وهذا ما يحرج مهمة الكاظمي التي يعرف الأميركيون جيداً كم حظوظه وقدراته في الانتخابات، بخاصة أن الولايات المتحدة تدرك مدى هيمنة الجماعات الموالية لإيران وسيطرتها المتزايدة على المشهدين السياسي والأمني في البلاد، فيما يعتقد مراقبون عراقيون بأن برلمان 2022 "سيكون ميليشياوياً إيرانياً بامتياز"، ومن بينهم عثمان .
تحول مهمة القوات من القتال إلى التدريب والاستشارة
الكاظمي وعدد من أعضاء حكومته ومستشاريه يعوّلون على إلزام القوات الأميركية المهمات الأساسية في العراق، لتدريب القوات الوطنية من دون المشاركة في مهمات قتالية، وإبقاء تلك القوات التي لا تتعدى 2500 عنصر من الجيش الأميركي، خارج قصبات المدن وقواعد متفق عليها تحكم وجودها اتفاقيتان وُقّعتا عام 2008، الأولى "قانون الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق"، و"قانون اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعمل القوات الأميركية" من دون شرط زمني، لكنها تجيز لأي من الطرفين إنهاء الاتفاق بعد مرور عام من استلام أحد الجانبين إخطاراً خطياً بهذا الشأن، مع إيقاف جولات الحوار التي تجري دورياً بالرجوع إلى تنفيذ الاتفاق المبرم، يعطي مؤشراً إلى أن الأميركيين أوصلوا الرسالة كاملة بقصاصة ورقة بايدن المشار إليها أعلاه .
لكن الجنرال مارك كيما الذي عمل في العراق إبان حقبة الغزو، يقول "إن المهمة الأساسية للأميركيين في العراق ومنذ 2014، كانت لمواجهة داعش، وهناك الكثير من العمليات التي جرى فيها التعاون والدعم الاستخباراتي واللوجستي والتدريب والإسناد الجوي، وهذا حدث داخل قواعد عراقية، وحتى إن جرى ذلك اليوم بوجود قليل، فمنذ ذلك التاريخ لم تعُد لدينا المهمات ذاتها ولم نعُد نجري عمليات واسعة، وكل ما نفعله يأتي في إطار دعم القوات الأمنية، والأمر هنا له علاقة بالسياسة الداخلية للعراق ولا يرتبط بالقدرات العسكرية وحدها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح الكاتب العراقي حامد شهاب أن "جولة الحوار الأخيرة أسفرت عن أن الولايات المتحدة ضمنت شكلاً من أشكال الوجود العسكري - السياسي والاقتصادي في البلاد، لكن التعبير عنه هذه المرة جاء بطرق أخرى مغايرة من خلال التلاعب بـ"الألفاظ والمصطلحات" من "وجود عسكري دائم" إلى "دور استشاري وتقديم الخدمة"، وإن تخفيض حجم الوجود العسكري الأميركي بشكل تدريجي في الأعوام المقبلة، ليس مهماً بالنسبة إلى شكل من أشكال الوجود في العراق، الذي تنظر إليه على أنه سيبقى ساحة انطلاقها لمواجهة تحديات كل من روسيا والصين وإيران، وسعيها لأن يكون البلد مرتكزاً يبعد شبح تمدد محور الشرق (باتجاه العراق ودول الخليج). ويضيف "تخفيض عدد القوات العسكرية الأميركية في العراق يخفف عنها بعض تبعات الإنفاق العسكري وتكاليفه الباهظة"، مستدركاً "لعل مكسب الكاظمي الوحيد أنه نجح في استدراج أو تفعيل عقول القوى الرافضة للوجود الأميركي، أن تعهّد لها بحدوث عمليات "انسحاب" من البلاد بحلول ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وتحويل المهمة من وجود عسكري ومهمات قتالية إلى تلك الاستشارية والتدريبية منها. وعدّت قوى كثيرة أن الحصول على مكسب كهذا يقلل عليها ضغوط الفصائل المسلحة التي تدعمها إيران".
الفصائل الولائية تحذر من نتائج المفاوضات
الفصائل المسلحة التي وجد بعضها في مخرجات الحوار ما يمهد لانسحاب أميركي قريب، لم تتوافق جميعها على ذلك، إذ قال قيس خزعلي، أمين عام "عصائب أهل الحق" وهو فصيل رئيس في "الحشد الشعبي" والقوى الولائية، "لا توجد نوايا حقيقية للإدارة الأميركية بالخروج من العراق، ولن تكون هناك نتيجة لمفاوضات انسحاب القوات الأميركية من العراق، إنما ستكون مجرد تلاعب لفظي"، مؤكداً أن "الطيران الأميركي يتركز بشكل أساسي فوق بغداد، ويستعمل لأغراض التجسس". وتساءل: "ماذا يفعل الطيران الاستطلاعي المسيّر فوق محافظات الوسط والجنوب؟ غير أن هدفه الحقيقي التجسس ومراقبة فصائل المقاومة ومراقبة الحشد الشعبي"، على حد قوله.
لا يزال العراق مجالاً حيوياً للولايات المتحدة
وعلى الرغم من اختلاف النظرة والتوقعات والترجيحات حول سياسة الولايات المتحدة إبان حكم الرئيس جو بايدن، فإن مخرجات السياسة الأميركية لا تستطيع من الناحية الاستراتيجية الابتعاد كثيراً عن العراق، فهو مركز الصراع في الشرق الأوسط وعقدة الوصل بين القوى الإقليمية، وأرض خطوط الاتصال بين مركز القوى هذه وأدواتها في المنطقة في الوقت ذاته. فالعراق أضحى "بارومتر" النزاع الذي يؤشر إلى سخونة المنطقة أو هدوئها. لهذا يلفت الكثير من المراقبين إلى أن يكون البلد عامل استقرار وتفاهم إقليمي جامع لملفات عدة أو أن يكون منطلقاً لإشعال توتر تمتد آثاره خارج حدوده، كما جرى عند نشوء "القاعدة" و"داعش" والميليشيات العابرة للحدود، التي بدأ بعضها بتوجيه نيرانه لدول جوار العراق والتهديد باستهداف أخرى، وربما كانت أو ستكون محاولات لاستهداف إسرائيلي، الخط الأحمر أميركياً ومحركها للتصدي لأية محاولة للمساس بها.
محاولات الكاظمي وقسوة الواقع
وفي هذا الإطار الملتبس، أخذ الكاظمي معه ملفات إيجابية إلى واشنطن تشي بجدّيته في محاولة إدارة ملفات البلد، مرجحاً الحكمة على سواها كما يؤكد حلفاؤه، لا سيما محاربته للفساد وتصدّيه لأعمال العنف التي تستهدف معسكرات القوات الأميركية والقوات الدولية والسفارات، والقبض على بعض المجرمين الذين اغتالوا الناشطين، لكن على الرغم من كل محاولاته، يرى مراقبون وكتّاب وأكاديميون كثر، أنه لم يقدّم نموذجاً يحتذى به كرئيس وزراء قوي وحازم، لعله نتاج واقع عراقي مدمر لم يتمكن من الإمساك بملفات يشكو منها العراقيون بعد تدهور القدرة الشرائية وتدني مستويات الدخل نتيجة الانخفاض الشديد في قيمة الدينار وانهيار كبير في الطاقة الكهربائية، إضافة إلى الحرائق المتكررة في المستشفيات ومئات الضحايا وانتقادات كبيرة لإفلات الفاسدين وعدم تمكّنه من إيقاف مسلسل استهداف المعسكرات الخاصة بقوات التحالف الدولي وعدم الكشف عن الجهات التي استهدفت المتظاهرين على الرغم من إلقاء القبض عليهم.
حتى إن بعض المتخصصين في الشأن العراقي يؤكدون أنه حمل معه إلى واشنطن رسالتين متناقضتين: فالمطلوب منه بوضوح كفاعل سياسي شيعي (افتراضاً)، أن يكون حازماً في موضوع سحب القوات الأميركية من العراق بالكامل، وهو الأمر الذي لن تقبل به واشنطن. في الوقت ذاته، عليه إيجاد شكل بديل يسمح بوجودها ولو بمسمّى قوات تدريب واستشارة، كما فعل لإرضاء الفاعل السياسي الشيعي والتخفيف من ردود أفعاله الخشنة، كون منصب رئيس الوزراء للغالبية الشيعية التي قبلت أن تمنحه المنصب ليتفاوض باسمها، معوّلين على كونه مقبولاً للغرب ويحمل جنسية أخرى غربية، لعلهم يفكرون بالعبور به إلى مرافئ كسب الوقت للحوار الأميركي الإيراني حول ملف أكثر تعقيداً هو الملف النووي لطهران، وهذا ما يجعل القوى العراقية حليفة إيران تتروّى وتقنّن أفعالها، لمصلحة عرابها المفاوض في الجناح الشرقي للعراق.