العام الماضي، جاءت الهند في طليعة الدول التي أدركت إمكانات "دبلوماسية اللقاح"، إذ استفادت من موقعها كقوة دوائية عالمية ووجود موجة أولى خفيفة نسبياً من كورونا، كي تطلق برنامجاً طموحاً للغاية سمّته "لقاح مايتري"، ويعني في اللغة الهندية "صداقة اللقاح".
ومع ذلك، بعد عام واحد، حظرت الهند التصدير وبدأت تكافح في إنتاج لقاحات تكفي شعبها، بينما تقدّم الصين عشرات الملايين من جرعات اللقاح كهدايا إلى الدول الصديقة، وتحقق أرباحاً من خلال بيع مئات الملايين غيرها.
في المقابل، أعطت دول غنية عدة الأولوية لتطعيم مواطنيها قبل تصدير الجرعات إلى البلدان الأخرى، مع أنها تمتلك المرافق البحثية الأكثر تقدماً في تطوير لقاحات جديدة محتملة. بالتالي، خلقت تلك الدول ما تطلق "منظمة الصحة العالمية" عليه تسمية "جائحة بمسارين"، إذ فُتحت البلدان الأكثر ثراءً ولُقّحت الأجيال الشابة فيها، بينما تكافح الدول الفقيرة في الوصول إلى مجرد تلقيح الأكثر ضعفاً بين سكانها.
واستطراداً، ملأت الصين هذا الفراغ. وفقاً لـ"متعقّب اللقاحات الصينية الواقية من كورونا" China Covid-19 Vaccine Tracker التابع لشركة "بريدج" للاستشارات في بكين، باعت الصين حتى الآن حوالى 853 مليون جرعة لقاح، سلّمت 405 ملايين جرعة منها، وتبرعت بـ25 مليون جرعة أخرى لدول في مختلف أنحاء العالم. وتتضمن مجموعة المشترين دولاً في منطقة آسيا والمحيط الهادي وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.
في ذلك الصدد، يشير تشي تشيون تشو، رئيس قسم العلاقات الدولية في "جامعة باكنل" في بنسلفانيا إلى أن بكين، وفقاً للإحصاءات الصينية، تُعتبر إلى حد ما أكبر مانح للقاحات عالمياً، مع وصولها إلى أكثر من 80 دولة.
وفي تصريح أدلى به تشو إلى صحيفة "اندبندنت"، يورد أنه "بغض النظر عن الدوافع التي ربما تكون لدى الصين، فإن ’دبلوماسية اللقاح‘ جزء من جهودها في تعزيز صورتها العالمية كقوة مسؤولة تراعي غيرها. لقد بادرت إلى مساعدة البلدان ذات الدخل المتوسط والمنخفض، حينما بدا الغرب بطيئاً للغاية أو غير راغب بالمساعدة."
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف، "قبِل معظم الدول اللقاحات الصينية على أساس طوعي. وأبدت امتنانها أيضاً لأن الصين شكّلت القوة الوحيدة التي قدمت مساعدة لها، خصوصاً في المراحل الأولى من الوباء. ويزعم بعض الناس أن بكين تفرض قيوداً معيّنة في مقابل لقاحاتها. وذلك ممكن من منظور واقعي، لكن أي دولة تمارس الدبلوماسية من دون شروط؟."
في وقت مبكر من الوباء، أطلقت "منظمة الصحة العالمية"، جنباً إلى جنب مع التحالف العالمي للقاحات والتحصين "غافي "Gavi، مبادرة "كوفاكس" Covax مع هدف محدد لها يتمثّل في إخراج الاعتبارات الدبلوماسية من المعادلة. وطلبت تبرعات من البلدان المنتجة للقاحات كي توزّع بعد ذلك في شكل عادل، ووعدت بتقديم ملياري جرعة إلى 92 من أفقر دول العالم مع حلول نهاية 2021 بهدف ضمان قدرة تلك الدول في تحصين ما لا يقل عن 20 في المئة من سكانها.
في المقابل، أوقَفَ نقص الإمداد انطلاق تلك المبادرة. واقتصر الأمر على تقاسم حوالى 90 مليون جرعة من لقاح كورونا بين 132 دولة في الأشهر القليلة الماضية. لكن الأمور بدأت تتغير، بفضل مزيج من العوامل التي تشمل القلق من هيمنة الصين في هذا المجال، ومعدلات التطعيم المرتفعة بين الدول المتقدمة والمخاوف بشأن المتغيرات الجديدة من الفيروس التي تنشأ بين الناس غير المحصّنين. الشهر الماضي، التزمت "مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع" مشاركة ما لا يقل عن 870 مليون جرعة من لقاحات كورونا مع "كوفاكس"، من قبيل الصدفة أن الرقم أكثر بقليل مما توزّعه الصين، وتقديم نصف تلك الكمية على الأقل مع حلول نهاية 2021. وفي بيان أطلقه قادة "مجموعة السبع"، وُصفت "كوفاكس" بأنها "الطريق الأساس في توفير اللقاحات إلى أشد البلدان فقراً".
بالتالي، ما زال أمام أولئك القادة أمور كثيرة يتوجّب أن يفعلوها كي يلحقوا بالركب. ووفق البروفيسور تشو، فعلى الرغم من أن "الصقور المناهضين للصين لن يعترفوا بأي فضل لبكين على الإطلاق، بغض النظر عن مدى مساهمتها في الحرب العالمية ضد كورونا"، إلا أن أداءها في السيطرة على الفيروس جاء أفضل من أداء الولايات المتحدة أو أي قوة كبرى أخرى.
ويعتبر تشو أن "أصل فيروس كورونا لا يزال غير واضح، وهناك حاجة إلى مزيد من التحقيقات، وعلى بكين أن تتعاون مع ذلك النوع من التحقيقات الدولية. لقد كان بإمكان الصين أن تتعامل مع تفشي المرض بشكل أكثر شفافية وفاعلية أثناء مرحلته المبكرة. لكن هذا لن يغيّر حقيقة أنها خرجت أقوى من الوباء، والناس فيها يشعرون بمزيد من الاقتناع بأن نظامهم مجهز بشكل أفضل للتعامل مع مثل تلك الأزمات".
ثمة حقيقة في أن الصين ترى بالفعل فائدة من كونها رائدة عالمياً في دبلوماسية اللقاحات، إذ تتلقّى رسائل احترام وتشهد تحولات ملموسة في السياسة الخارجية لمصلحتها. والشهر الماضي مثلاً، عبّرت "رابطة دول جنوب شرق آسيا" (آسيان) الواسعة النفوذ، عن امتنانها للصين بسبب توفيرها لقاحات وإمدادات طبية ومساعدة فنية للدول الأعضاء في الرابطة خلال الوباء.
وكذلك تشير تقارير حديثة إلى أن هندوراس، وهي دولة في أميركا الوسطى كانت حليفة قديمة لتايوان وليست لها علاقات دبلوماسية رسمية مع بكين، يمكن أن تفتح أول مكتب تجاري لها في الصين، يركّز بشكل خاص حاضراً على لقاحات كورونا.
في المقابل، يشير الدكتور جابين تي جاكوب، الأستاذ المساعد في "قسم العلاقات الدولية ودراسات الحوكمة" في "جامعة شيف نادار" في الهند، إلى أن دعم بكين يأتي مصحوباً بشروط علنية إلى حد ما، إذ تتوقع الصين، أكثر من غيرها من [الدول]، عوائد سياسية أو دبلوماسية من العون أو المساعدة المقدمة في ما يتعلق بتطعيمات كوفيد-19."
ومع ذلك، وفقاً لرأيه، خرجت الصين من الوباء، لا سيما خلال الموجة الثانية منه في عدد من البلدان، "بحال أفضل على ما يبدو، من خلال الطريقة التي اتبعتها في "دبلوماسية اللقاح"، بمعنى أنها خَلَت من المبالغة في الالتزام [كالهند] أو الغياب كالحال مع الولايات المتحدة".
ويتابع، "تصرفت بكين بسرعة فيما فشل الآخرون في الوفاء بالتزاماتهم. لقد أقنعت قسماً كبيراً من الجمهور الدولي بقدراتها وموثوقيتها. ودعمت الرواية التي تفيد بأن الولايات المتحدة كانت أنانية ومتمحورة حول ذاتها، في حين أن الصين كانت معطاءة في وقت الحاجة".
استفادت الصين بنجاح من قرارات الدول الغربية باحتكار الجزء الأكبر من الإمدادات العالمية المبكرة من اللقاحات. ويصف الأستاذ ريتشارد ج. هيدريان من "جامعة البوليتكنيك" في الفيليبين ذلك الاحتكار بأنه "تمييز عنصري من دون حرج في ما يخص اللقاح".
وتالياً، جاءت النتيجة أن البلدان الأفقر، حتى تلك التي انتقدت الصين في السابق، خففت بشكل ملحوظ من حدّة ذلك الخطاب إبّان تدافعها للحصول على اللقاحات، فيما ارتسمت بكين بوصفها المورّد الوحيد المجدي.
ويضيف هيدريان، "لكن التصورات السائدة عن ذنب الصين ونظرية تسرّب الفيروس من المختبر لا تزال قوية. أعتقد أنه بعد مرور عامين، ستكون الصورة مختلفة، وربما تتغير اللهجة الترحيبية تجاه بكين لدى عدد من البلدان".
في ملمح مختلف، يلفت هيدريان وجاكوب إلى جانب آخر في ذلك الأمر كله قد يشير إلى أن سمعة الصين في تصدّر "دبلوماسية اللقاح" ربما تكون بلغت ذروتها بالفعل. وكذلك يسلّط الباحثان الضوء على مشكلات حول فاعلية التطعيمات الصينية.
فيلاحظ هيدريان أن "الأماكن التي استخدمت اللقاحات الصينية كتشيلي وجزر سيشل، لا تزال تشهد ارتفاعاً في حالات الإصابة بفيروس كورونا". وكذلك يشير جاكوب إلى وجود "تقارير متزايدة حول فشلها في السيطرة على تفشي المرض في البلدان التي استُعملت فيها".
وحاضراً، تعمل إندونيسيا التي كانت من ضمن أوائل الدول في توزيع اللقاحات الصينية فشكّلت نسبة جرعات "سينوفاك" الصيني 80 في المئة من أصل 152 مليون جرعة، على تقديم جرعة ثانية من "موديرنا" الأميركي الصنع للعاملين في مجال الصحة. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت تايلاند أنها أوصت الأشخاص الذين تلقّوا "سينوفاك" كجرعة أولى لهم بأخذ "أسترازينيكا" الذي ابتكرته "جامعة أكسفورد"، كجرعة ثانية.
ووفق هيدريان، "ربما تتغير النظرة إلى [الصين] عندما [تزيد] الدول المتقدمة كالولايات المتحدة من مساهماتها في ’كوفاكس‘ التي توزّع اللقاحات على عدد من البلدان في جميع أنحاء العالم".
أما بالنسبة إلى الهند، التي تباطأ فيها توزيع لقاحها الخاص على الرغم من التحذيرات المتكررة من احتمال ظهور موجة ثالثة في الأفق، ينقسم الخبراء حول كيفية النظر إلى محاولة دخولها المبكر في دبلوماسية اللقاحات.
وفي ذلك الصدد، يعتقد هيدريان بأنه لا يمكن الاستخفاف بأهمية دور الهند في سلسلة توريد اللقاحات في العام الماضي، إذ إنها "قدّمت المساعدة إلى بلدان عدة قبل أن تجبرها القضايا المحلية على التراجع".
في المقابل، يعتبر جاكوب أن الطريقة التي بالغت فيها نيودلهي في تحمّل ما يفوق قدرتها تعني أن البلاد "فقدت ماء الوجه، ليس لمجرد فشلها في الإيفاء بالتزاماتها بشأن إمدادات اللقاح إلى عدد من الدول الأخرى فحسب، بل أيضاً بسبب افتقارها الكامل للاستعداد للموجة الثانية وانهيار نظام الرعاية الصحية في البلد".
ويتابع، "قبلت دول متعددة اللقاحات الصينية لأنه لم يكن ثمة جهة أخرى تقدم لها شيئاً، وانشغلت الهند في إدارة الفوضى الداخلية. سوف تتعافى الهند في النهاية من هذه النكسة لأن إنتاج اللقاح سيعود إلى المسار الصحيح قريباً. في المقابل، ربما يغدو كثيرون، بمن فيهم صنّاع السياسة الأميركيون، أقل ثقة بقدرة الهند على إدارة الأزمات".
© The Independent