يُروى أنه كان لدى رجل عربي بيت جميل، يعيش فيه بسعادة مع زوجته وأولاده. وفي إحدى السنين، واجهته أزمة مالية اضطر فيها إلى أن يبيع داره، فجاءه رجل، وكان تقياً كريماً، واشتراها منه ودفع ثمنها، وتسلّم الدار وسكن فيها مع أهله، فلما أتى الليل سمع المشتري بكاء، فسأل: ما هذا؟ قالوا له: إنهم أهل الرجل الذي باع لنا الدار، يبكون حزناً على دارهم. فرَقّ قلب المشتري لحال أهل البائع، وأرسل إليهم يخبرهم بأن "المال والدار لهم".
هذه القصة واحدة من آلاف القصص في تاريخنا العربي القديم، التي تؤرخ لحوادث ومواقف يتغلب فيها الطبع الطيب الكريم، وتنتصر فيها الأخلاق عند العرب، الذين أعلوا قيمة الكرم واتخذوا له رموزاً وإشارات، حتى صار لدى طائفة كبيرة منهم سلوكاً والتزاماً. فهل الكرم عند العرب قيمة إنسانية وأخلاقية وثقافة اجتماعية أم مجرد عادة؟
الشغف بالكرم
ذُكر في المراجع العربية من كتب اللغة والأدب، أنه لم يشغف العرب في الجاهلية والإسلام بأكثر من شغفهم بالشجاعة والكرم، إذ اقترن ذكر الكرم بأسماء الأجواد الأسخياء العرب من أهل الكوفة والبصرة والحجاز وغيرهم، وكان الملوك شديدي الحرص على أن تنتشر سمعة كرمهم من خلال الشعر والشعراء الذين أشادوا بأفعالهم، وأشاروا إلى هاتين الصفتين بالتنويه، سواء حقاً أو باطلاً أو مبالغة.
وبعد مجيء الإسلام، أضفى على الكرم قيماً روحية وغايات سامية، عبر ثنائه على معاني الجود والسخاء وذمّه لمظاهر الشح والبخل وتفضيله طريق الاعتدال في الإنفاق، وكذلك في تنظيمه لطرق العطاء وتقديمه، وضمان ذهابها إلى أهلها مما يعود بالخير على العاطي والمعطى له.
ونجد النصوص القرآنية واضحة في هذا الخصوص، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً). (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى).
قيمة إنسانية
كان الكرم من القيم الإنسانية البارزة في تاريخ العرب القديم، وكانوا يتقصدون المبالغة في مدح الكريم وذمّ البخيل، الأمر الذي شجع الكرماء على عمل الخير ودفع المترددين منهم إلى المبادرة بالكرم خوفاً من الذم، مما جعله من القيم الأكثر تداولاً في الأشعار والكتابات القديمة. إ ضافة إلى ذلك، رُبط الكرم بصفات ذات قيمة عالية مثل الإحسان والود والنجدة والعطف والمروءة والشهامة والعزة وعفة النفس والرجولة والمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية وغيرها، أما البخل، فجُعل على رأس قائمة الصفات المذمومة وقرنوه بالدناءة والوضاعة، الأمر الذي أسهم في نشر عادة الكرم.
كما وصل الكرم في أعلى مراتبه إلى الإيثار الذي من الممكن أن يعرض صاحبه للهلاك، في محاولة نجدة أو إغاثة ملهوف، إضافة إلى إكرام الضيف إلى الحد الأقصى الذي يُعدّ واجباً عند العرب في بذل أفضل ما لديهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جذور عميقة
يذكر في كتاب "الكرم والجود والسخاء" من "سلسلة صفات عباد الرحمن" أن بعض أسباب ذيوع صفة الكرم بين العرب يرجع إلى طبيعة الحياة العربية في المجتمع البدوي القديم، الذي كان دائم الترحال فراراً من الجفاف وبحثاً عن موارد الماء ومواطن الكلأ والعشب، تلك الحياة القاسية التي كابدها العربي جعلته يدرك قيمة إكرام الضيف وإعانة المحتاج ونصرة المظلوم وغيرها من القيم الإنسانية السامية. فكان العربي يُرسي دعائم تلك القيم حتى تعم وتنتشر، فيعود خيرها في النهاية إليه أيضاً.
ومن تلك الأسباب ما يرجع إلى طبيعة الحياة الاجتماعية في المجتمع القديم، الذي انتشر فيه حب التفاخر بالآباء والجدود، والتباهي بالخصال الكريمة وتمجيد الأفعال النبيلة، إذ أحب العربي أن يرتبط ذكره بالصفات المحبوبة من قبل الناس، وكان الكرم أكثرها تأثيراً في النفوس وأقربها إلى وجدان المجتمع.
كما كان للنزعات المستمرة بين القبائل، وما خلّفته من بؤس وفقر وشح في الطعام، دور في انتشار الكرم والحرص عليه، وفي تقدير معنى الإنسانية الحقيقية بتقديم ما يحفظ حياة الإنسان أو يسدّ رمقه، فعُظِّم الكرم واحتل مقدمة الفضائل، ونُسب إلى عظماء القوم.
المجد للكريم
تعددت أسباب ودواعي الكرم من الدوافع الذاتية المنطلقة من حب تقديم العون ونشر الخير والإحساس بالمحتاجين إلى حب الثناء والمديح وإعلاء الشأن، فكان المال أيضاً بالنسبة إلى العرب وسيلة لكسب المكانة والمديح في حياتهم وبعد موتهم أيضاً، وتوريث هذه المكانة إلى الأجيال المقبلة، حتى إن البعض اشترى به مجداً وخلوداً، كما حاتم الطائي وسيف الدولة الحمداني وغيرهم كثيرون.
وأعلى العرب شأن الكرم وبالغوا في مدح وتعظيم المعطاء منذ الجاهلية، فكان الكريم بالنسبة إليهم أرفع قدراً من أصحاب المناصب، الأمر الذي جعل الكثيرين يتسابقون للظفر بأكبر نصيب ممكن من الثناء والمكانة الاجتماعية. وهنا لا يغيب أيضاً بعض الأسباب التي تتعلق باستجلاب منفعة أو دفع مضرّة، فالبعض يضطر إلى اصطناع المعروف لبلوغ هدف ما، أو الحصول على مدح وطلب منزلة.
الوقت الحالي
نجد في وقتنا الحالي ممارسات شبيهة وردود شفهية من نوع "ع حسابك. كلنا على حسابك. البيت إلك والعتبة إلنا. ما في فرق بينّا"، وربما يبقى هذا النوع من الردود في إطار المجاملات أو المبادرات اللطيفة أو حتى النزعة العربية التي تميل إلى الشهامة وعرض المساعدة، والحق أن عبارات كهذه لا يتم تداولها في مجتمعات أخرى حتى من باب المجاملة.
كما نجد عادة إكرام الضيف والجار والصديق والمبادرة في تقديم المال، ما زالت قائمة عند العرب في أقصى حالاتها على الرغم من الظروف المحيطة بهم، وأكثر المواقف شيوعاً ووضوحاً نجدها في جلسات المطاعم والمقاهي، حيث يطول السجال على من سيدفع الفاتورة وتتعالى الأصوات بين إصرار على الموقف وردّ من نوع "ما في فرق بينّا" وأحياناً يستمر لدقائق عدة، حتى اشتهر العرب بالمجادلة عند "أمين الصندوق" في المطاعم والمجمعات التجارية لدرجة أن أصبح يُستدلّ عليهم ويميزون عن غيرهم من خلال هذا السلوك.
مجتمعات أخرى
بينما لا نجد هذه الظاهرة في كثير من المجتمعات الأخرى، إذ لا يبادرون إلا في حالات خاصة جداً ومتفق عليها مسبقاً، بل على العكس لا يمانعون في أن يدفع عنهم العربي إذا أخذته الشهامة وحب الضيافة.
وكذلك نسمع ونقرأ في المقابل قصصاً كثيرة تتحدث عن حرص مجتمعات أخرى على المال وتنظيمه والاعتدال في إنفاقه، فنجد النادل في المطعم الألماني يخيّر العميل إذا كان يريد أن يدفع بشكل منفصل أم مشترك؟، هذا السؤال ربما يكون مرفوضاً تماماً لدى بعض العرب. وليس غريباً في المجتمعات غير العربية أن يترك الحبيب حبيبته تدفع لنفسها في المطعم، بينما يُستهجن هذا الموقف جملة وتفصيلاً عند العربي الذي يربطه بالكرم وما يتبعه من صفات الرجولة والشهامة وحس المسؤولية. وفي النهاية، يبقى الأمر نسبياً تبعاً للمجتمع نفسه والتربية والاكتساب، ليس كل العرب مبالغين في صرف المال ولا كل الغرب حريصاً عليه.
خلاصة القول إن الكرم وإذ شاع في المجتمع العربي القديم، فإنه ارتبط بمنافع دنيوية وغايات نفعية ومطامع مادية، فحرص العربي على الكرم حرصه على الحياة ومن ثم على المجد، فهو في كثير من الحالات إما ابتغى من ورائه شهرة تحقق له الخلود أو سيادة في قومه تؤهله للحكم، أو الاثنتين معاً. لكن تظل صفة الكرم من أقوى الصفات تأثيراً في المجتمع العربي وأشدها وقعاً وأثراً في النفوس والقلوب، وتشرّب أفراده هذه الصفة ممن سبقوهم وانتهجوها حتى أصبحت سلوكاً عفوياً.