جاء التسخين العسكري على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية بين 4 و6 أغسطس (آب) في توقيت غير ملائم للبنان الرسمي، إذ تزامن مع المناقشات في مجلس الأمن التي تُجرى عادة قبل اتخاذ قرار التجديد لقوات حفظ السلام الدولية المتمركزة جنوب خط نهر الليطاني حتى الحدود (يونيفيل)، حسب القرار الدولي 1701 الصادر عام 2006، الذي أوقف حرب يوليو (تموز). ويُفترض أن يتم التصويت على فترة انتداب جديدة لمدة سنة لهذه القوات التي يناهز عددها الـ10243 جندياً من 26 دولة، قبل نهاية أغسطس الحالي.
فتبادل القصف بين الجيش الإسرائيلي وبين "حزب الله" يشكل خرقاً لهذا القرار من أوجه عدة، أولها أن الصاروخين مجهولي الهوية، من جنوب لبنان، وكانا الشرارة التي أشعلت القصف المتبادل، انطلقا من منطقة خاضعة للقرار الدولي وتحت ولاية الـ"يونيفيل"، فضلاً عن أن القرار ينص على عدم جواز احتفاظ أي جهة أو ميليشيات بأسلحة خارجة عن إطار السلطة الشرعية.
التسخين جنوباً تزامن مع التجديد لـ"اليونيفيل"
ومع أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها القرار الدولي للخرق في جنوب لبنان، فإن تزامن موجة العنف الأخيرة مع المشاورات التي تسبق التجديد لـ"يونيفيل" يحرج السلطات اللبنانية التي يلزمها القرار بالتعاون مع القوات الدولية، لمنع أي جهة مسلحة من الوجود جنوب خط نهر الليطاني، على الرغم من أن "حزب الله" تقصّد رماية صواريخه على منطقة مفتوحة وغير مأهولة في مزارع شبعا المحتلة من الجيش الإسرائيلي، من قرية شويا في القطاع الشرقي من المناطق الحدودية، وهي ليست خاضعة لولاية القرار 1701. إلا أن مجرد إطلاق النار يُعد خرقاً له من زاوية وقف العمليات الحربية الذي ينص عليه بوضوح، والذي ضمن الالتزام به نسبياً على مدى 15 عاماً فترة طويلة من الهدوء على الجبهة الجنوبية.
ومصدر الحرج أن موجة التصعيد الأخيرة، والتي انتهت إلى تهدئة من الجانبين مع تأكيد كل منهما أنه لا يسعى إلى الحرب، أن قرارات التجديد لـ"يونيفيل" في السنوات السابقة شهدت اعتراضات من إسرائيل وبمساندة إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، على دور الـ"يونيفيل" التي تتهمها بعدم الفعالية في مواجهة تحركات "حزب الله" في منطقة عملياتها، ومنعه من تخزين أسلحة يحظرها القرار الدولي.
وكانت تلك الاعتراضات تقترن منذ عام 2019، بطلب واشنطن وإسرائيل تعديل ولاية القوات الدولية في نص قرار التجديد في شكل يمكنها من التفتيش عن الأسلحة في جنوب لبنان في شكل مستقل من دون مواكبة الجيش اللبناني لها كما تنص قواعد عمل هذه القوات. كما أن إدارة ترمب هددت في العامين الماضيين بخفض مساهمتها في تمويل هذه القوات مشترطة التعديل الذي تطالب به، إلا أن وقوف فرنسا التي كانت عراب القرار الدولي منذ 2006 وتساهم في عديد هذه القوات أكثر من الدول الأخرى، وكذلك روسيا والصين، كانتا تعترضان على الطلب الأميركي، وكان الأمر ينتهي كل مرة بالإبقاء على مهمة القوات من دون تعديل والتجديد للقوات لأنها ضرورية من أجل حفظ الهدوء والاستقرار في المنطقة. إلا أن الضغط الأميركي والإسرائيلي نجح في التجديد الأخير في أغسطس من عام 2020، في دفع قيادة القوات الدولية إلى تقديم اقتراحات تزيد من فاعلية دورها، فاقترح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش استخدام وسائل تكنولوجية لمراقبة الحدود، منها تركيب كاميرات مراقبة ذكية على طول الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل. كما نجحت واشنطن في خفض عديد القوات من 15 ألف جندي إلى أقل من 12 ألف جندي.
إسرائيل وأميركا ومطلب تقوية الـ"يونيفيل"
المعطيات الدبلوماسية الواردة من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، أن الشكويين اللتين تقدم بهما كل من لبنان وإسرائيل ضد الآخر بخرق القرار الدولي، بالتزامن مع التحضير للتجديد للقوات الدولية، كانتا فرصة للجانب الإسرائيلي كي يعيد طرح ملاحظاته على الـ"يونيفيل". وفي جلسة مشاورات عقدها أعضاء مجلس الأمن، الجمعة 6 أغسطس، وحضرها ممثلو الدول الـ26 التي يشارك جنودها في عديد قوات حفظ السلام في الجنوب اللبناني، شددت الأمانة العامة للمنظمة الدولية على وجوب التجديد للقوات من دون تعديل في مهامها، وعلى الدور الذي تلعبه في ضمان استقرار تلك المنطقة، ودعت جميع الأفرقاء إلى التزام القرار الدولي.
قال المندوب الإسرائيلي غلعاد أردان إن الـ"يونيفيل" لا تقوم بالعمل المطلوب منها كما يجب، وعليها التشدد أكثر حيال "حزب الله"، ويجب تقوية إمكاناتها العسكرية كي تتصدى لنشاطاته، مهدداً بأنه إذا كرر قصف إسرائيل ستلجأ حكومة بلاده إلى "تفكيك البنية التحتية العسكرية" للحزب. وهو التعبير نفسه الذي يستخدمه الإسرائيليون من ما قبل حرب 2006. أما الجانب الأميركي، فقد هاجم الحزب ومواصلته التسلح، ودعا إلى تطبيق الإجراءات الواردة في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة للسنة الماضية، والذي تبنّاه قرار التجديد، آنذاك، والذي يقضي باعتماد وسائل تكنولوجية في مراقبة الحدود (ومنها الكاميرات).
يذكر أن قيادة الـ"يونيفيل" هيّأت قبل أشهر البنية التحتية لتركيب كاميرات على أبراج تقع على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، في سياق ما تضمنه قرار التجديد السابق لها، إلا أنها عدلت عن ذلك بعدما اعترضت مجالس بلدية في القرى القريبة من الحدود، وهي غالباً ما تكون مؤلفة من أعضاء ينتمون إلى "حزب الله" أو مقربين منه.
واستكمل مجلس الأمن النقاش حول طلب لبنان التجديد لـ"يونيفيل" في 10 أغسطس في وقت ينتظر فيه أن تسعى الدول الأوروبية إلى تجاوز محاولة تعديل مهامها وسط الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة، ولبنان خصوصاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"حزب الله" محرج وخطابه دفاعي
لكن الحرج من تداعيات التسخين على الجبهة الجنوبية اللبنانية، يصيب أيضاً "حزب الله"، لأن الاعتراض اللبناني الداخلي على سلوك الحزب ذهب مباشرة إلى اتهامه من قبل خصومه بأنه شارك في عملية فعل ورد فعل على القصف الإسرائيلي في سياق تحويل لبنان إلى مسرح للرسائل الإيرانية التصعيدية على امتداد المنطقة في سياق عودة التوتر إلى العلاقة بين طهران وواشنطن، ما دفع الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطاب ألقاه غداة وقف القصف والعودة إلى التهدئة في 7 أغسطس، إلى اعتماد لهجة دفاعية عن إطلاقه الصواريخ على مناطق في مزارع شبعا.
وهو مُحرج بسبب الاعتراض الشعبي على تركيزه راجمة الصواريخ التي استخدمها مقاتلوه في قرية انتفض أهاليها على استعمال أراضيها لتنفيذ العملية، خشية تلقيهم رد الفعل الإسرائيلي العسكري، فهاجموا المجموعة التابعة للحزب. حاول نصر الله إقناع الجمهور المعترض على ذلك بأن حزبه يدافع عن القرى الجنوبية إزاء القصف الجوي الإسرائيلي، عبر تسخيف خصومه الذين ربطوا التصعيد في لبنان بخوض إيران مواجهة مع المجتمع الدولي في مياه الخليج والحرب البحرية وتعثر مفاوضات فيينا على النووي، في وقت تسود الوسط السياسي اللبناني قناعة بأنه فعل ذلك بالوكالة عن إيران في إطار رسائلها إلى الدول الغربية بأنها قد تقابل أي ضربة عسكرية لقواتها رداً على اتهامها بقصف ناقلة النفط "ميرسر ستريت" في 29 يوليو الماضي، ومحاولة خطف سفينة أخرى، بتوسيع المواجهة العسكرية على مستوى الإقليم، وصولاً إلى الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية.
والحملة على الحزب لاستتباعه لبنان إلى المحور الإيراني، عبر نفوذه على حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل، تتنامى منذ أشهر مع التدهور المريع في الأوضاع الاقتصادية والمالية والحياتية. وعزلة البلد العربي الدولية بفعل تداعيات هذا النفوذ، أحد أسباب هذا التدهور. وتشمل الحملة توجيه أصابع الاتهام إليه بالوقوف خلف عون وباسيل في تعطيل قيام الحكومة الجديدة.
موسكو تتوقع تشدداً أميركياً إزاء تصعيد طهران
القراءة التي تربط التصعيد جنوباً بمجريات العلاقة الأميركية - الإيرانية لم تقتصر فقط على خصوم الحزب اللبنانيين. فحتى موسكو الحليفة لطهران وللحزب في الإطار الإقليمي، تنظر إلى ما حصل على أنه يأتي نتيجة حاجة الجانب الإيراني إلى تصعيد الموقف العسكري بعد تأخر مفاوضات فيينا في تخليصها من العقوبات التي تنهك اقتصادها، من أجل حمل واشنطن على استعجال رفعها، حسب تقارير واردة إلى بيروت.
ومع أن موسكو تدعو في مواقفها العلنية إلى التريث في توجيه الاتهامات لإيران باستهداف الملاحة في مياه الخليج، فإنها تعتقد أن رد الأخيرة على الدول الغربية بمزيد من التصعيد في عدد من دول المنطقة سيزيد واشنطن تشدداً بدلاً من أن يدفعها إلى الليونة، لأن التيار الداعي إلى تصليب موقف واشنطن حيال طهران سيقوى أكثر، بدليل تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي عاد للتأكيد أن إيران تقوم بتوتير الأوضاع في المنطقة. هذا بالإضافة عن إعلان واشنطن عن عقوبات جديدة ضد أذرع الحرس الثوري في عدد من دول المنطقة، منها العراق وسوريا ولبنان.
ضد إقحام لبنان في التصعيد
وتراقب موسكو مثل غيرها من العواصم تزايد التحركات الدولية، السياسية والعسكرية في مياه الخليج وبحر عُمان، في وقت يبدو فيه أن التعاون الأميركي - البريطاني نجح في استنفار الدول الأوروبية إزاء احتمال توجيه ضربة رادعة لإيران من أجل ضمان أمن الملاحة الدولية في الممرات المائية في تلك المنطقة. وخطورة التلويح بهذه الضربة، مع أنه لم يُتخذ قرار فيها بعد، أنها إذا حدثت ستكون متعددة الأطراف، وليست أميركية فقط، ما يعني أن طهران أمام احتمال مواجهة تحالف دولي عريض. ومن هنا ردها بالتلويح بفتح جبهات جديدة في الإقليم، منها لبنان.
وفي المعطيات التي لدى موسكو أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يعد مستعجلاً للتوصل إلى اتفاق مع إيران على النووي كما كان بُعيد تسلمه مهامه، يقود حكماً إلى رفع العقوبات عنها، لأن كثيراً منها يحتاج إلى التصويت على رفعها في الكونغرس، الأمر الذي يعارضه الحزب الجمهوري وجزء من الحزب الديمقراطي، إذا لم يشمل أي اتفاق مراقبة برنامجها للصواريخ الباليستية والحد من توسع دورها الإقليمي.
وهذه القراءة الروسية للمشهد الإقليمي الدولي تدفع الجانب الروسي إلى التحذير من إقحام لبنان في مواجهة عسكرية لا يمكن احتمال نتائجها في ظل أوضاعه الصعبة المأساوية، لا سيما أن البلد يفتقد المواد الأساسية كالأدوية والمستلزمات الطبية والمحروقات.