بعد أكثر من 75 سنة على شروع الولايات المتحدة في بناء نظام للتجارة الحرة بهدف تحقيق تكامل عالمي حول رؤية للتعاون الاقتصادي السلمي، يفشل كثير من الأنظمة الدولية الأشد حيوية. إذ تتقاتل البلدان حول كيفية ضمان اللقاحات، وتوزيع إنتاج أشباه الموصلات، والرد على المركنتيلية (عقلية التركيز على التجارة) والعسكرة لدى الصين، وإدارة الجهات المحتكرة للتكنولوجيا والمعلومات كـ"فيسبوك" و"غوغل"، وحتى مشاركة المعادن الضرورية في صنع البطاريات الخاصة بالسيارات الكهربائية.
ومن نتائج هذه المشاكل، زيادة الدعوات الموجهة إلى الحكومات من أجل اعتماد إجراءات حمائية، وإدارة القطاعات المحلية عن كثب، والسعي إلى تحقيق رؤى جديدة تتعلق بالاستقلال الاقتصادي. في المقابل، تمثل تلك الصدامات وردود المسؤولين الحكوميين عليها، تهديداً يتجاوز الأنظمة الصناعية والمالية الدولية الهشة حول العالم. إذ دفعت الدول إلى فقدان الإيمان في حكم القانون ونوايا الحلفاء القدماء. والأسوأ أنها أدت دوراً أيضاً في تعطيل المناقشات والمعايير الديمقراطية في الولايات المتحدة وأوروبا.
وتستطيع الولايات المتحدة البدء في إنهاء هذه المخاطر اليوم. وفي مقدور واشنطن أن تنطلق من الاعتراف بأن معظم المشاكل الحالية يمكن تتبعها إلى مصدر واحد، يتمثل في تركيز السيطرة على الإنتاج والاتصالات في أيدي بضع شركات وبلدان. وعلى المسؤولين الأميركيين الإقرار بأن الجهات المحتكرة اليوم تفعل نفس ما دأبت على فعله الجهات المحتكرة دوماً، أي التخلص من الفوائض بغرض جني الأرباح، مع استغلال الاعتماد على منتجاتها من أجل كسب القوة. واستطراداً، سيساعد ذلك [الاعتراف] الولايات المتحدة على تذكر فكرة جوهرية وجهت البلاد خلال سنواتها الـ200 الأولى، ومحورها أن السياسة التجارية نوع من السياسة المناهضة للاحتكار ويمكن استخدامها في كسر أنواع من تركيز القوة تهدد الأمن الأميركي.
وعلى الولايات المتحدة البدء باستخدام المبادئ والأدوات الخاصة بالمنافسة كي تحد من اعتمادها على مصدر أجنبي واحد للبضائع والخدمات التي يعتمد عليها الأميركيون. وكذلك يتوجب على المسؤولين الأميركيين استخدام أدوات مماثلة بهدف إلغاء قدرة الجهات المحتكرة للتكنولوجيا على تعطيل أنظمة الأخبار والمعلومات في الولايات المتحدة وخارجها. ومن شأن نهج كهذا أن يجبر الأميركيين على إعادة تعلم المفارقة الجوهرية في الليبرالية التي تفيد بأن الليبرالية، على الرغم من أنها تهدف إلى الحد من دور الحكومة في الاقتصاد السياسي ورفع الحرية الشخصية إلى الحد الأقصى، فإنها نظام يجب فرضه على الشركات وبلدان أخرى ومن ثم حمايته بالقوة الكاملة للدولة. فمنذ الأيام الأولى للجمهورية، شكل العداء للاحتكار عاملاً رئيساً في الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة، إضافة إلى كونه الأداة الواسعة النطاق التي تستخدمها البلاد في بناء الديمقراطية الليبرالية وحمايتها في البلاد وحول العالم.
البيض يلتقي بسلة
في مارس (آذار) 2021، أصبحت صور سفينة الحاويات "إيفر غيفن" العالقة في قناة السويس شعاراً لهشاشة الأنظمة الدولية المعاصرة. إذ أطلق جنوح تلك السفينة سلسلة من التعطيلات في النقل العالمي، وبين أيضاً أن أنظمة الشحن البحري العالمية تعتمد على بضع نقاط عبور. في المقابل، تعتبر تعطيلات كتلك من بين التهديدات الأقل خطورة التي يفرضها تركيز القدرة والسيطرة في الأنظمة الصناعية العالمية.
انظروا كيف أضرت النواقص التي يمكن تجنبها في الكمامات وأدوات الفحص واللقاحات، بالثقة حتى بين أقرب البلدان المتجاورة وأكثرها تكاملاً خلال جائحة كورونا. وعلى نحو مماثل، خذوا قطاع أشباه الموصلات، الذي يوفر مكونات مهمة لكل منتج صناعي رئيس تقريباً في العالم اليوم. لقد احتكرت تقريباً شركة واحدة مصنعة للرقاقات، هي "شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات"، إنتاج أشباه الموصلات الفاخرة، إذ تنتج تقريباً الإمداد العالمي كله من أنواع معينة من الرقاقات الإلكترونية الأساسية. وفي هذه السنة، عطلت نواقص لدى تلك الشركة الإنتاج في قطاعات تتراوح بين تصنيع السيارات والاتصالات. ومثلاً، توقعت "فورد"، في أبريل (نيسان) أنها قد تخسر نصف ناتجها في الفصل الثاني. وما زاد الطين بلة أن "شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات" تركز كمية كبيرة من عملياتها في جزيرة واحدة، هي تايوان، تقع عند نوعين من خطوط الصدع، واحد مادي والثاني سياسي. وبالتالي، يكون في استطاعة زلزال [جيولوجي] أو نزاع مع الصين أن يوقف إنتاج الشركة كله، وستكون الآثار كارثية.
وثمة مخاطر مماثلة في قطاع الاتصالات. لقد تركزت السيطرة على طريقة تبادل الناس للمعلومات مع بعضهم بعضاً، في أيدي شركات "أمازون" و"فيسبوك" و"غوغل". إذ تقوض نماذج أعمالها التي تعتمد على استغلال ما يقرأه المواطنون ويشترونه وتسعى إلى احتكار عوائد الإعلان عبر الإنترنت، الصحافة الحرة والمجال العام في الديمقراطيات حول العالم. وفي تطوّر خطير بمقدار مماثل، تسعى "فيسبوك" و"غوغل" إلى تهديد ناشرين نافذين أو رشوتهم وضمنهم "نيوز كورب" و"نيويورك تايمز"، وكذلك تعاقب بلداناً كأستراليا تتجرأ على محاولة وضع قوانين تنظم عمل الشركتين. وفي الوقت نفسه، يعطي الربط الرقمي الدول والمجموعات الأجنبية طرقاً جديدة في تعطيل الحياة اليومية داخل الولايات المتحدة، وفق ما تبين من عملية القرصنة الروسية الكبيرة المزعومة التي طالت كمبيوترات حكومية أميركية في 2020، وكذلك الهجوم ببرمجيات الفدية على شركة "كولونيال بايبلاين" [مورد رئيس للنفط داخل الولايات المتحدة] في مايو (أيار) 2021، والاستغلال الروسي الروتيني لـ"فيسبوك" و"غوغل" و"تويتر" بهدف التأثير في المناقشات السياسية الأميركية.
وفي سياق متصل، تبرز تهديدات قديمة الطراز. فمثلاً، تستخدم الصين تمركز القوة الذي تملكه في [صناعة] المكونات الأساسية [بمعنى أنها تلك المكونات التي تستعمل في صنع سلع ومنتجات أخرى] وتدفقات الأرباح لديها، بهدف إجبار شركات غربية كـ"أبل" و"ديزني" و"نايكي" على الترويج للدعاية الصينية وتعزيز قوة الدولة الصينية. وتستخدم البلاد القوة نفسها في الضغط على حلفاء الولايات المتحدة للقبول باتفاقات خاصة. ففي ديسمبر (كانون الأول) 2020، قبل أقل من شهر من تولي جو بايدن منصبه رئيساً للولايات المتحدة، دفعت ألمانيا الاتحاد الأوروبي إلى اتفاقية استثمارية واسعة النطاق مع الصين، التي تعد مصدراً رئيساً [للمكونات الأولية] بالنسبة إلى منتجي السيارات والمصنعين الألمان.
ويتمثل الخطر الأكثر مباشرة في طريقة تخلص المحتكرين والمركنتيليين من الفوائض والتكرارات المادية التي ساعدت يوماً في ضمان استقرار الأنظمة الدولية ومرونتها. [إشارة إلى أن الشركات الكبرى تملك دوماً أفرعاً إنتاجية كثيرة، لكنها تركز على المقر الرئيس، ما يسهل عليها التخلص من الأفرع عند اللزوم]. وثمة أمثلة كثيرة على كيفية تحول الصدمات في مكان ما بسرعة إلى مشاكل عالمية. إن حوادث كزلزال تايوان في سبتمبر (أيلول) 1999، والأزمة المالية التي بدأت في سبتمبر 2008، وزلزال توهوكو في اليابان في مارس 2011، تبين كلها كيف تطلق صدمات محلية إغلاقات معممة في الإنتاج الصناعي حول العالم. ويتمثل الشيء الأكثر إثارة للرعب في احتمال وقوع عمل سياسي أو عسكري يوقف الوصول كله إلى منطقة صناعية رئيسة. ومثلاً، من شأن عمل صيني ضد تايوان، أن يخاطر ليس بمجرد حرب تشنها قوة عظمى بل كذلك بإغلاق كثير من الإنتاج الصناعي العالمي.
التحرر من الاحتكار
كان من شأن مؤسسي الولايات المتحدة أن يريعهم احتمال اعتماد البلاد في شكل كامل يوماً ما على قوة أجنبية واحدة في الحصول على منتجات أساسية. إذ شكلت وثيقة "إعلان الاستقلال" رؤية تتعلق بالحرية التي لا تقتصر على تحرر شخص من الآخر بل أيضاً تحرر بلد من بلد آخر، لا سيما حرية الولايات المتحدة من النظام التجاري الاحتكاري الخاص ببريطانيا العظمى. وشكلت تلك الرؤية عماد السياسة الأميركية بعد فترة وجيزة من استقلال البلاد. وحين دفعت الحروب النابليونية البريطانيين إلى محاولة عرقلة تجارة الولايات المتحدة مع الفرنسيين وغيرهم، فرض الرئيس توماس جيفرسون حظراً على التجارة مع القوى الأوروبية لإجبارها على تغيير مسارها. وبعد فشل الخطوة، أطلق الرئيس جيمس ماديسون حرب سنة 1812 ضد المملكة المتحدة.
ولم يكن هدف الولايات المتحدة خلال هذه المرحلة وقف التجارة في شكل كامل مع البريطانيين. بالأحرى، سعى الأميركيون إلى بناء قاعدة تصنيع محلية تكون متطورة ومتنوعة بما يكفي لضمان قدرة بلادهم على الدفاع عن نفسها في أزمنة الأزمات. وإضافة إلى هذه القاعدة، هدفت الولايات المتحدة إلى عدم اقتصار التجارة على المملكة المتحدة وحدها، بل أن تشمل ذلك الصين وفرنسا وإسبانيا ودول البلطيق وممتلكات بريطانية ككندا، وتكون على متن سفن أميركية وبتمويل أميركي ووفق شروط تخضع لمفاوضات حرة. ومثلت تلك الرؤية في التجارة المفتوحة طريقة لتنظيم اقتصاد العالم مختلفة تماماً عنها لدى الأنظمة الملكية الأوروبية بأنظمتها الاستعمارية والمركنتيلية المتنافسة.
شكلت الرؤية المتعلقة بمناهضة الاحتكار عماد السياسة الأميركية بعد فترة وجيزة من استقلال البلاد
وخلال القرن الطويل بين معركة "واترلو" [شهدت الهزيمة النهائية لنابليون بونابرت] والحرب العالمية الأولى، خدم النهج الأميركي المناهض للاحتكار الولايات المتحدة في شكل جيد. وفي وقت مبكر من القرن التاسع عشر، أتقن الأميركيون بناء السفن وصنع الأسلحة إلى درجة مكنتهم من إعلان "مبدأ مونرو" الخاص بحماية الجمهوريات الجديدة في أميركا اللاتينية. ومع حلول منتصف القرن، كانت الشركات الأميركية بدأت في إتقان الإنتاج المكثف، بل حتى تصدير النموذج، على غرار ما فعل المخترع والمصنع الأميركي صموئيل كولت حين أسست شركته مصنعاً للأسلحة النارية في لندن. وقبل عقود من بدء العصر الذهبي وظهور "وول ستريت"، أثبت الأميركيون أن في مقدورهم تطوير بلدهم بسرعة مذهلة.
وخلال تلك السنوات أيضاً، استخدمت الحكومة الأميركية سياسة مناهضة للاحتكار في تعزيز الديمقراطية. فمن أواخر القرن الثامن عشر وصولاً إلى القرن العشرين، سعت الولايات المتحدة إلى تعزيز استقلالية مواطنيها من خلال توزيع الأراضي عليهم وحماية الملكيات العائلية الحجم من نفوذ الشركات والمصارف. وأدت الرؤية الأميركية المناهضة للاحتكار أيضاً دوراً مؤسساً في المعركة التي استمرت عقوداً عدة بهدف كسر قوة مالكي العبيد، التي اعتبرها أميركيون كثر تهديداً احتكارياً لنظام الملكية الصغيرة الذي رعته الحكومة الأميركية آنذاك. ودولياً، وضعت الولايات المتحدة سياسة "الباب المفتوح" في معارضة الاستعمار الاحتكاري الرسمي ليس في الأميركتين وحدهما بل حول العالم كذلك، خصوصاً الصين. وجزئياً، اعتبر الأميركيون هذه السياسة طريقة تضمن ألا تبني الحكومة الفيدرالية أنواع المؤسسات الاستبدادية الضرورية في إدارة الإمبراطوريات الاستعمارية.
وفي وقت حطمت فيه ألمانيا السلام سنة 1914، نجح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في تحديث النظام الأميركي المناهض للاحتكار بشكل يتلاءم مع العصر الصناعي. وخلال الأشهر الـ16 الأولى لويلسون في السلطة، كرس أسس الدولة الإدارية الليبرالية الحديثة من خلال تمرير "قانون كلايتون" المناهض للاحتكار، وقانون اللجنة التجارية الفيدرالية، وقانون مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وإصلاح الرسوم الجمركية، وضريبة دخل تصاعدية، إضافة إلى الإشراف على التفكيك الأول لشركة الاتصالات "أيه تي أند تي". (وبعد 20 سنة، ستشكل رؤية ويلسون الأساس الفكري والمؤسسي لـ"العقد الجديد" [إصلاحات الرئيس فرانكلين روزفلت لإنهاء تداعيات الكساد الكبير]).
في المقابل، حين انتهت الحرب العالمية الأولى، فشل ويلسون في استغلال الموقع الجديد للولايات المتحدة في إنهاء العمل الذي بدأه جيفرسون وماديسون، المتمثل في كسر الأنظمة الاحتكارية التجارية لدى فرنسا والمملكة المتحدة. فعلى الرغم من أنه أثبت براعته في فرض الليبرالية في بلاده، أعطى ويلسون الفرنسيين والبريطانيين الحرية في تدمير الاقتصاد الألماني من خلال تعويضات عقابية والحفاظ على الأنظمة الاستعمارية التي ألهمت سعي ألمانيا إلى القوة.
وبالتالي، مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من النهاية، أثبت الرئيسان الأميركيان فرانكلين روزفلت وهاري ترومان أنهما تعلما من إخفاقات ويلسون. وفي 1937، ذكر المعلق الصحافي والتر ليبمان أن الأنظمة الليبرالية يجب أن تسعى إلى "الحفاظ على نظام الأشياء الموجود في مجال القوة القصوى، لكن مع التنازل عن مساواة متزايدة في الحقوق في المجالات الأخرى كلها". وفي نظام "بريتون وودز" (الذي أرسى أسس "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي" و"الاتفاقية العامة للرسوم الجمركية والتجارة" ["غات"] برعاية أميركية)، استهدفت الولايات المتحدة إنشاء نظام تجاري مفتوح وليبرالي يخضع إلى مراقبة القوة الاقتصادية الأميركية. وفرضت واشنطن أيضاً أنظمة قوية مناهضة للاحتكار على ألمانيا واليابان، وعززت حياد أنظمة الاتصالات الدولية، وأضعفت في النهاية وفي شكل قاتل الأنظمة الإمبريالية البريطانية والفرنسية. أكثر من ذلك، حاولت إدارة ترومان تطبيق سياسة عالمية مناهضة للاحتكار من خلال "ميثاق هافانا" الذي يشكل اتفاقية موقعة في 1948 من قبل 56 بلداً بهدف تنظيم التجارة العالمية، لكن مجلس الشيوخ عرقل ذلك الجهد.
وبعد الثورة الشيوعية في الصين واندلاع الحرب في كوريا، عززت الحكومة الأميركية جهودها في فرض نظام ليبرالي على العالم، إذ سعت إلى بناء اقتصاد متكامل من برلين الغربية إلى طوكيو. وأجبرت إدارتا ترومان وأيزنهاور الشركات الأميركية على تصدير تكنولوجيا التصنيع وقدرته إلى الحلفاء مع التنازل عمداً لهم عن أجزاء كبيرة من الأسواق الأميركية الخاصة بالملابس والسيارات والطائرات وحتى الإلكترونيات. كذلك استخدمت واشنطن خطة مارشال بهدف دعم التكامل الاقتصادي في أوروبا الغربية، ما أعطى دفعة إلى "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب"، التي طلبت من فرنسا وألمانيا الغربية التخلي عن بعض جوانب السيادة الاقتصادية، ومثلت لاحقاً حجر زاوية في الاتحاد الأوروبي.
وجاءت نتيجة [تلك الجهود كلها] تكون نظام دولي يشبه في شكل ملحوظ النظام الذي تصوره جيفرسون وماديسون قبل قرن ونصف القرن. ونجح ذلك النظام. ففي واحد من النجاحات السياسية الكبرى في التاريخ، وضعت الولايات المتحدة الأساس لنظام ليبرالي ومفتوح من التعاون السياسي والتجاري شمل نصف العالم ودعم الديمقراطية والازدهار ثلاثة أجيال.
الاقتصادات الزائفة
حتى سبعينيات القرن العشرين، تعاملت الحكومة الأميركية مع الاقتصاد السياسي بالمقدار نفسه الذي اعتمدته منذ تأسيسها. وتمثلت الأهداف الرئيسة في ضمان الحرية والمساواة بين أكبر عدد ممكن من المواطنين وحماية الديمقراطية من تركيزات القوة. وتلخصت الافتراضات الفلسفية الرئيسة في أن المجتمعات كلها عبارة عن أنظمة للقوة وكل ما يحدث فيها ينتج من قرارات سياسية. وتمثلت الأدوات الرئيسة لتحقيق تلك الغايات الاجتماعية والسياسية في القانون والسياسة المناهضين للاحتكار.
في مسار مغاير، انطلقت منذ الأيام الأولى من رئاسة رونالد ريغان، مجموعة من خبراء الاقتصاد وعلماء القانون بقيادة ميلتون فريدمان وروبرت بورك وريتشارد بوسنر، كي يحلوا محل هذا النهج القديم الأمد نهجاً جديداً. وجادل أنصار تلك "الليبرالية الجديدة" ["نيوليبرالية"]، وفق ما عرفت به نظرتهم إلى العالم، بأن هدف السياسة الاقتصادية ينبغي أن يكون تعزيز الرفاه المادي للمستهلكين إلى حده الأقصى من خلال تعزيز إنتاج أكثر كفاءة. وصور هؤلاء المفكرون السوق نفسها على أنها نوع من القوة الميتافيزيقية يحدد نتائج متعددة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وتالياً، بدأت إدارة ريغان في الترويج للأفكار الجديدة بعد وقت قصير من توليها السلطة، إذ أصدرت توجيهاً إلى وزارة العدل و"لجنة التجارة الفيدرالية" يقضي بتطبيق القوانين المستندة إلى مناهضة الاحتكار بطرق تعطي الأولوية للكفاءة الاقتصادية على الأهداف الاجتماعية والسياسية التقليدية. لكن واشنطن لم تنقل هذا التفكير الجديد إلى ما وراء الحدود. فحتى في الوقت الذي عمل فيه المسؤولون الأميركيون على تركيز القوة الاقتصادية في الداخل، استمروا في استخدام السياسة التجارية للبلاد لكسر تركيزات القدرة في الخارج. ففي شكل أكثر دراماتيكية، مع حلول منتصف ثمانينيات القرن العشرين، استخدمت الحكومة الأميركية نظاماً متطوراً من الحصص والرسوم الجمركية بهدف تعطيل جهود اليابان في احتكار صناعة الكمبيوترات.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ الأميركيون من كلا الحزبين السياسيين في دفع التفكير المؤيد للاحتكار. ففي الداخل، طبقت إدارة كلينتون سياسة مؤيدة للاحتكار في قطاعات المصارف والاتصالات والدفاع والمالية والإعلام، وكذلك في قانون حوكمة الشركات وبراءات الاختراع. ودفعت الوكالات التشريعية في الخارج، لا سيما في أوروبا، إلى اعتماد نهج مماثل.
استخدمت الولايات المتحدة سياسة مناهضة الاحتكار وسيلة في تعزيز الديمقراطية
لقد أعادت إدارة كلينتون تشكيل السياسة التجارية الأميركية على أسس مؤيدة للاحتكار. وتمجيداً لكفاءة التخصص الاقتصادي الشديد بين البلدان، اعتمدت رؤية طوباوية عن مجتمع واحد يمتد عبر العالم شكلته عولمة التصنيع والتمويل والاتصالات. ووفق زعم روبرت رايتش، الذي تولى لاحقاً وزارة العمل سنة 1991 في عهد بيل كلينتون، أصبحت الحدود "بلا معنى أكثر من أي وقت مضى" أمام "قوى الطرد المركزي للاقتصاد العالمي".
وبرز إجراءان خلال هذه السنوات، هما إنشاء "منظمة التجارة العالمية" في 1995، ورفع معظم القيود المفروضة على التبادل مع الصين، في نهاية المطاف. وفي حين سعى نظام الفترة التي تلت مباشرة الحرب [العالمية الثانية] إلى ضمان أن تتولى حكومات ديمقراطية تحديد الأنظمة التي يتعين تدويلها وكيفية فعل ذلك، حررت "منظمة التجارة العالمية" الجديدة قدرات الشركات الكبرى والبلدان المركنتيلية في تركيز قدراتها وتنظيم الإنتاج إلى حد كبير، ووفق ما تراه مناسباً لها. وجاءت النتيجة المباشرة متمثلة في موجة من الاحتكار شمل مختلف القطاعات الصناعية من قبل الشركات المدعومة من الحكومات المركنتيلية في البرازيل وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وفي نهاية المطاف، شكلت الصين الرابح الأكبر، إذ وضعت الدولة فيها أنظمة متطورة للمراقبة والسيطرة والإكراه.
وفي سياق متصل، تمثل ما تلى ذلك في إعادة هيكلة ثورية شملت معظم الأنظمة الإنتاجية والمالية في العالم. فقد عمل المحتكرون مع المركنتيليين في نقل صناعات بالكامل إلى الصين، وإلى حد أقل إلى الهند والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايوان. وفي حين أن معظم الإنتاج تقسم وتوزع تاريخياً بين مصنعين متكاملين رأسياً يخدمون دولاً أو مناطق فردية، أدى النظام الجديد في الأغلب إلى شبكات دولية مصممة كي تخدم البلدان كلها في وقت واحد.
ومنذ البداية، اتضح أن الهيكل الجديد يحمل مخاطر كثيرة. وبرزت ثلاثة مخاطر. إذ أثار النظام الجديد احتمال وقوع حوادث صناعية معممة في حال حالت كارثة طبيعية أو صدمة سياسية دون الوصول إلى مصدر أساسي في الإمدادات. وكذلك مكن الحكومة الاستبدادية في الصين من ممارسة مزيد من القوة على البلدان التي تعتمد على القدرة الصناعية الصينية، بما في ذلك الولايات المتحدة. وإضافة إلى ذلك، قوض الهيكل الجديد قدرة الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية وعدد من الدول الأخرى، في زيادة التصنيع أثناء أزمات كالجوائح والحروب.
وعلى الرغم من المخاطر، واصل واضعو السياسات في الولايات المتحدة مسيرتهم. فمن ناحية، استفاد المستثمرون والشركات من نقل القدرة الصناعية إلى الخارج. ومن ناحية أخرى، ترسخ الإيمان بالوعد الطوباوي للعولمة في دوائر السياسات والدوائر الفكرية النخبوية الأميركية. ولم يكن تشتت انتباه الولايات المتحدة لأكثر من عقد بسبب الحرب في أفغانستان والعراق بعد هجمات 11 سبتمبر، عنصراً مساعداً. وتجسدت النتيجة في التخلي عن النظام الذي استخدمته الولايات المتحدة لإبقاء نفسها آمنة وحرة طيلة قرنين. وهكذا، تركت البلاد عارية أمام رياح الصدفة وأهواء القوى الأجنبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التفكيك أمر جيد
شكل انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 2016 بمثابة النهاية لنهج عهد كلينتون في التجارة. فقد قاد ترمب حملته الانتخابية باعتباره مناصراً للحمائية، وبمجرد توليه منصبه، لم يكتف برفع الرسوم الجمركية المفروضة على الصين، بل شمل ذلك الشركاء التجاريين المقربين للولايات المتحدة. كذلك اتخذت إدارة ترمب أول إجراءات متماسكة منذ رئاسة ريغان في تعطيل تركيزات القوة في الخارج. وتجسدت الخطوة الأهم في ذلك بفرض عقوبات على شركتي الاتصالات الصينيتين "هواوي" و"زد تي إي". في المقابل، فشل فريق ترمب في نشر تفسير متماسك عن رؤيته أو إضفاء الطابع المؤسساتي على أفكاره.
واستطراداً، رحب بعض الديمقراطيين بعدد من إجراءات ترمب في شأن التجارة، وخلال الحملات الانتخابية الرئاسية 2020، لم يدع أي من المرشحين إلى معاودة السياسة التجارية [العولمة] التي اتبعت في عهد كلينتون. ومنذ توليه منصبه في يناير (كانون الثاني)، يتجنب بايدن إلى حد كبير مناصري العولمة الذين هيمنوا على إدارتي كلينتون وأوباما، ويعين مفكرين يؤيدون نهجاً أكثر قومية في التصنيع. ودعمت إدارة بايدن تلك التعيينات بخطط لإعادة بناء الصناعات المنتجة لبعض البضائع الأساسية، كأشباه الموصلات، داخل حدود الولايات المتحدة.
في ذلك الصدد، من الطبيعي أن يكون التفاعل مع مشكلة كبيرة من خلال تحديد أسبابها، ثم فعل ما يعاكس تلك الأسباب. في المقابل، قبل أن يضفي المسؤولون الأميركيون الطابع الرسمي على رؤية ما بعد العالم الدولي [عالم العولمة]، ينبغي عليهم أن يدركوا أنه حتى الرؤية الحمائية الأكثر تماسكاً من شأنها أن تحمل عدداً من المخاطر. فقد تزيد الحمائية حدة التدافع على المكونات والمواد الخام، وتسهم في انهيار الأنظمة السياسية الدولية. ومن خلال زيادة تركيز القدرة والتسبب في تآكل أنظمة الدعم المتبادل، قد تجعل التدابير الحمائية الأميركيين أقل أماناً في الواقع، من حالهم اليوم.
هناك طريقة أفضل. بدلاً من السعي إلى إعادة الإنتاج إلى الوطن، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل على كسر تركيزات القوة داخل النظام الاقتصادي الدولي. ويمكن للولايات المتحدة أن تفعل ذلك باستخدام الأداة نفسها التي يسعى دعاة الحمائية إلى استخدامها، المتمثلة في سيطرة البلاد على حدودها، لكن لأغراض مختلفة.
ينبغي على المسؤولين الأميركيين إدراك أنه حتى الرؤية الحمائية الأكثر تماسكاً من شأنها أن تحمل عدداً من المخاطر
وفي ملمح متصل، يستطيع المسؤولون الأميركيون التعلم من ثلاثة نماذج حديثة في مناهضة الاحتكار أثناء وضعهم سياسة كهذه. يتجسد الأول في النهج الذي تتبعه الولايات المتحدة منذ فترة طويلة تجاه قطاع النفط. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أبدت واشنطن استعدادها استخدام كامل قوة الدولة، على غرار ما فعلت خلال "حرب الخليج" [الأولى] بهدف ضمان عدم تمكن أي جهة فاعلة من شل الولايات المتحدة أو حلفائها بواسطة قطع إمدادات النفط. ويتمثل النموذج المفيد الثاني في إدارة الولايات المتحدة التصنيع المحلي من منتصف الثلاثينيات حتى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، حينما استهدفت واشنطن ضمان وجود أربعة مصنعين على الأقل لأي بضاعة. وأظهرت النتائج أن المنافسة القوية بين أربعة أطراف فاعلة أو أكثر، حققت جودة أعلى، وابتكاراً أسرع، وأسعاراً أقل، وفوائض أقوى، وقدرة أكبر على الزيادة. وتقدم استجابة إدارة ريغان حيال محاولة اليابان السيطرة على صناعة الكمبيوترات نموذجاً ثالثاً. ويتمثل الدرس الأهم بين تلك الأمثلة في ضرورة أن تفرض الولايات المتحدة حدوداً بسيطة على مقدار القدرة والسيطرة المسموح لأي بلد بتركيزه بين يديه.
وفي حال تطبيق هذا الدرس على الظروف الحالية، سيكون من شأن ذلك أن تتعلم الولايات المتحدة ضمان عدم سيطرة أي بلد على أكثر من ربع القدرة التصنيعية التي تلبي الطلب الأميركي على أي بضاعة أو مكون أو خدمة أساسية. وبمجرد أن تلبي أي دولة 25 في المئة من إجمالي الطلب الأميركي، ينبغي على واشنطن أن تطلب من كبار المصنعين والمستوردين اللجوء إلى الموردين الموجودين في أماكن أخرى.
واستكمالاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تطبق هذه القاعدة في نهاية المطاف على المنتجات والمكونات والخدمات كلها، مهما بدت تافهة، لأن تركيزات القوة في قطاع ما يمكن استخدامها في ممارسة القوة على قطاعات أخرى. في المقابل، نظراً إلى ضرورة التصدي للتهديدات الأكثر إلحاحاً بسرعة، ينبغي على واشنطن أن تبدأ بتحديد القدرات الصناعية المركزة التي تدعم أنظمة إنتاج بأكملها على غرار الإلكترونيات والكيماويات، ثم تعطي الأولوية للإجراءات الرامية إلى توزيع القدرات الإنتاجية في تلك القطاعات.
وتوصلاً إلى فرض الامتثال لنظام الحصص هذا، يجب على إدارة بايدن أن تأمر مكتب الممثل التجاري الأميركي بفرض رسوم جمركية صارمة على البضائع أو الخدمات المستوردة من أي بلد يوفر أكثر من ربع الطلب الأميركي. كذلك ينبغي على الإدارة معاقبة أي مصنع أو شركة تجارية تفشل في تنويع مصادر إمداداتها. وينبغي أن يعبر توقيت تلك التدابير عن أن بناء مصانع جديدة قد يستغرق سنة أو أكثر. ومثلاً، بالنسبة إلى سيطرة "شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات" على إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة، ينبغي على الولايات المتحدة، على مدى الأشهر الستة المقبلة، تصعيد الرسوم الجمركية المفروضة على تايوان وزيادة الغرامات على الشركات كلها التي تستورد أشباه الموصلات التي تصنعها تلك الشركة إلى الولايات المتحدة. وبمجرد أن تتخذ الإدارة خطوات كهذه، ينبغي على الكونغرس تمرير تشريع يجعل هذا النظام الجديد للرسوم الجمركية دائماً.
واستطراداً، سيتطلب هذا النهج من الحكومة الأميركية أن تنظر بعمق داخل سلاسل الإمداد. وثمة خبر سار في ذلك الشأن مفاده أن "إدارة الجمارك وحماية الحدود" قد طورت خبرة واسعة في تطبيق أنظمة "قواعد المنشأ" في السنوات التي تلت توقيع "اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية" ["نافتا"] سنة 1993. وعلى مدار ثلاثة عقود تقريباً [تلت "نافتا"]، تنامت القدرة التكنولوجية في متابعة مصدر المكونات. ومن المرجح أن تتمكن "إدارة الجمارك وحماية الحدود" من رفع مستوى قدراتها في تلبية المطالب الجديدة.
وعموماً، لن يعالج توزيع الإنتاج بين مزيد من البلدان التهديدات كلها التي تواجهها الولايات المتحدة من تركيز القوة والقدرة في البلدان والشركات. وتبرز ثلاثة تهديدات أخرى تتمثل في خنق الشركات التكنولوجية الكبيرة للمعلومات والأخبار والتواصل، وعدم قدرة الولايات المتحدة على إنتاج عدد من الإمدادات الضرورية للأمن القومي والطوارئ الصحية، واستغلال احتكارات البراءات من قبل الشركات الكبرى بهدف الحد من وصول منافسيها إلى التكنولوجيات الأساسية. لكن في كل من تلك الحالات الثلاثية، يمكن للولايات المتحدة أن تستخلص الدروس من الأنظمة المحلية والدولية المناهضة للاحتكار التي سرت قبل إدارتي ريغان وكلينتون.
في حالة "فيسبوك" و"غوغل" وغيرهما من الشركات التي سيطرت في شكل واسع على أنظمة الاتصالات والمعلومات العالمية، ينبغي على واشنطن أن تنظر إليها على أنها مرافق وتستخدم ما يسمى "قواعد الناقلات العامة" في الحد من قدرتها على التلاعب بكيفية مشاركة الأفراد للمعلومات والأخبار مع بعضهم بعضاً. أما بالنسبة إلى المنتجات والمكونات الحيوية للأمن القومي كمكونات العقاقير والأجهزة العسكرية وكمامات "أن 95"، ينبغي على واشنطن أن تستخدم على الفور مزيجاً من الرسوم الجمركية والإعانات وسياسات المنافسة المحلية بهدف ضمان قدرة الولايات المتحدة على إنتاج كل ما تحتاجه في الداخل، كلما دعت الحاجة إلى ذلك. وأخيراً، ينبغي على الولايات المتحدة أن تلغي معظم حقوق براءات الاختراع للشركات المهيمنة، على غرار ما فعلته بين أواخر الثلاثينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، بهدف منع تلك الشركات من استخدام براءات الاختراع في تعزيز سيطرتها على البضائع الحيوية. وقد شكل دعم إدارة بايدن التنازل عن حقوق براءات الاختراع المرتبطة بلقاحات كوفيد- 19 بداية جيدة.
الترويج للصفقة
يتجسد السؤال السياسي الكبير في الكيفية التي يمكن بواسطتها تلبية استراتيجية كهذه في الداخل وحول العالم. في الحالتين كلتيهما، ثمة ما يدعو إلى الأمل.
بالنسبة إلى المستهلكين في الولايات المتحدة، من المرجح أن تكون تكاليف خطة كهذه ضئيلة وقريبة الأجل. إذ لا يمثل التصنيع عموماً سوى جزء صغير من السعر النهائي في معظم المنتجات. ومن شأن زيادة المنافسة أن تؤدي بسرعة إلى مزيد من الابتكار، والجودة العالية، وانخفاض الأسعار. وفي حال تحول التكاليف المرتفعة إلى تكاليف دائمة، سيشكل ذلك ثمناً مستحقاً لقاء التقدم الضخم في الأمن والسلامة الذي ستقدمه القواعد الجديدة.
ومن المرجح أيضاً أن تتبنى عدد من الشركات الأميركية تلك الخطة. فمن خلال تعطيل قوة الجهات المركنتيلية كالصين، من شأن القواعد التجارية الجديدة أن تزيد حرية المصنعين والتجار والمستثمرين في ممارسة الأعمال حيث يريدون، وتجنب الأعمال حيث لا يريدون. كذلك يمكن أن تقضي بساطة القواعد على كثير من عدم اليقين والفوضى التي شهدتها السياسة التجارية الأميركية في السنوات الأخيرة.
أما الترويج لخطة كهذه على الصعيد الدولي فسيشكل تحدياً أكبر. وبعد 75 سنة من دعم اتخاذ القرارات عبر أطراف متعددة [دولياً]، ستتصرف الولايات المتحدة فجأة من جانب واحد بهدف إعادة هيكلة جزء كبير من الاقتصاد الدولي. في المقابل، سرعان ما سيدرك معظم الحلفاء الرئيسيين أن نية الولايات المتحدة ليست تركيز القوة في الأعمال اليومية بأيدي المسؤولين أو الشركات الأميركية، بل تزويد شعوب العالم بفرصة إعادة بناء نظام دولي ليبرالي مصمم بهدف ضمان أمن البلدان كلها وتعزيز التعاون والازدهار المشترك. والأكثر من ذلك، نظراً إلى هيمنة الصين على عدد من الأنظمة الصناعية، من شأن أي جهد للحد من اعتماد الولايات المتحدة على ذلك البلد أن يتيح مجموعة واسعة من الفرص للبلدان والشركات الأخرى في الدخول على خطوط الأعمال التي تهيمن عليها الآن قلة قوية. وقد لا تعارض حتى بكين رؤية كهذه.
وعلى الرغم من أن الصين ستفقد قدراً كبيراً من قدرتها على التلاعب بالبلدان والشركات الأخرى، ستستفيد من خفض قلقها بشأن أوجه الترابط الخاصة بها.
ويمكن لنظام الحصص، المفروض بطريقة محايدة، أن يشجع البلدان والشركات الأخرى غير الأميركية على تنظيم تجارتها كي تأتي على غرار ذلك، بحثاً عن المنافع نفسها. وبالفعل، بمجرد أن تتحرك الولايات المتحدة لكسر قوة المحتكرين والمركنتيليين، من المرجح أن يكون معظم الناس وعدد من الشركات في أنحاء العالم كله، على استعداد للانضمام إلى الأميركيين في بناء نظام دولي متجدد، فيكون نظاماً أكثر انفتاحاً ومرونة، وأكثر ليبرالية حقاً، من أي نظام بني حتى الآن.
* باري لين هو مدير "معهد الأسواق المفتوحة" ومؤلف كتاب "الحرية من السادة جميعاً: الاستبداد الأميركي الجديد في مقابل إرادة الشعب".
مترجم من فورين أفيرز، تموز (يوليو)/ أغسطس (آب) 2021