ثمة نوع من الروايات تبدو ممسوسة بالماضي، مفتونة به، تنزلق إليه بخفة وبلا وجل، ثم تعود لتحكي عنه وفق منظورها الخاص. ولعل انشغال الكاتب العربي بالبحث في التاريخ واختيار شخصية تاريخية بعينها ليعمل عليها؛ يحمل في مضمونه دلالات عدة، قد يكمن إحداها في الرغبة في تقديم قراءات جديدة، أو خارج السياق، وإلا ما الغاية من إعادة تقديم ما أرخ، أو ما كتب عنه من قبل؟ إن قائمة الأعمال الروائية العربية التي ظهرت في العقود الأخيرة وتنتمي إلى سياق "الرواية التاريخية"، أو التي تتناول شخصية بعينها كثيرة جداً، لا يتسع المجال لذكرها هنا، لكنها بلا شك ظاهرة ملحوظة في النتاج الروائي العربي.
"الشيخ الرئيس" ابن سينا، هو الملهم الذي اجتذب الكاتب والطبيب المصري محمد العدوي للعمل على حياته وكتابة عمل روائي مستوحى منها في رواية حملت عنوان "الرئيس"، دار "كتوبيا" القاهرة.
إن حياة الطبيب والفيلسوف والفقيه ابن سينا "أرسطو العرب"، الحافلة بالأحداث والوقائع المثيرة للجدل، اجتذبت أيضاً كُتاباً آخرين، وألهمتهم روايات توقفت عند حياته وقاربت بعضاً من مراحلها، منها "فردقان اعتقال الشيخ الرئيس"، ليوسف زيدان، و"ابن سينا، أو الطريق إلى أصفهان" لجيلبير سينويه. وتجدر الإشارة إلى أن روايتي " فردقان" و"الطريق إلى أصفهان"، قد التحمتا في حياة ابن سينا منذ الصفحات الأولى، بينما أرجأ العدوي الدخول إلى حياة الشيخ الرئيس حتى تجاوز المئة صفحة، وما سبق ذلك كانت مقاطع تحكي عما يود البطل السارد الخوض فيه.
ابن سينا روائياً
تبدو الحاجة للتخييل الروائي ملحة عند الاقتراب من الشخصيات التاريخية وتناولها إبداعياً، إذ ليس من السهل مقاربة شخصية مثل "ابن سينا" والوصول سردياً إلى عمق مستوياتها الفكرية والعلمية والفلسفية بالاستناد إلى ما وصلنا عنه فقط، فالكتابة بالنتيجة هي استعارة للواقع بأبعاد مختلفة. من هنا نجد أن ثمة تساؤلات تفرض نفسها منذ الصفحات الأولى عن طبيعة التناول الذي يختاره الكاتب للشخصية، إلى جانب رهبة القراءة حول شخصية تاريخية فذة كتب عنها من قبل، وتم تناولها أيضاً في أعمال درامية. كتب مقدمة الرواية الكاتب محمد المخزنجي، ومما جاء في كلمته عنها: "فاجأني محمد العدوي بعمل تمنيت لو أكون كاتبه، وهو هذه الرواية الرئيس، التي أرى أنها عمل كبير، فيها عذوبة اللغة وجدية البحث".
يبدأ الكاتب روايته مع جملة إهداء لا تنفصل عن المضمون تقول "إلى الذين سيعيدون للعالم بهاءه الذي كان عليه". ومن خلال شخصية بطله المعاصر محمد، التواق إلى المعرفة، وتحديداً إلى معرفة حياة ابن سينا وملابساتها، يتضح سعيه لزمن آخر عبر الارتحال إلى أماكن ابن سينا ومعايشتها عن كثب، وكأنه يتوق إلى استحضار روحه ومحاورتها ومكاشفته بواقع القرن الواحد والعشرين.
ارتحالات جغرافية
تبدأ أحداث الرواية مع فصل "صالة الدخول، ورود"، والزمن هو عام 2014. اختار الكاتب الزمن المعاصر مفتاحاً لروايته مما ينبه القارئ إلى أن هذا النص سوف ينضم إلى الأعمال السردية التي تتحرك بين زمنين، أحدهما بعيد وله أبطاله، والآخر قريب، لا بد أن يحمل تقاطعاته مع الماضي. نحن أمام عمل روائي بطله البعيد الطبيب والفيلسوف "ابن سينا"، وبطله المعاصر محمد، وهو طبيب أيضاً اختار لنفسه في عالم الإنترنت لقب "ابن سينا"، بسبب افتتانه بالشيخ الرئيس.
وإلى جانب التاريخ، تنتمي الرواية إلى نوع الروايات التي تتخذ من تيمة "الرحلة" سبيلاً للكشف عن المجهول. وعند حضور هذه التيمة نجد ثمة متلازمات حاضرة ترتبط بالتفاصيل المرئية والمسموعة التي تتعلق بالمكان الجديد. يختار البطل محمد السفر إلى أصفهان بحثاً عن ابن سينا، يصل إلى طهران ومنها يواصل رحلته، وخلال هذه الرحلة تحضر الموسيقى في النص، صوت الناي، وعزف القانون، ومشاهد مرئية ترتبط بالعمارة وجماليات المكان.
اختار الكاتب تقسيم الرواية إلى أربعة فصول، وفي كل فصل تقسيمات إلى فصول قصيرة تحمل عناوين. لا يقف القارئ على حضور مباشر لابن سينا إلا بعد الصفحة 160، حين يزور البطل قبره في مدينة أصفهان، ويخاطبه قائلاً "منذ أحد عشر عاماً، وأنا أحمل اسمك. لم يغضبك ذلك؟ أنت من ألهمنيه في ذلك الحلم البعيد. هل تذكر؟"، ثم يظل حضور ابن سينا متشظياً على مدار النص، حتى يتكثف في الجزء الأخير، مع ملحوظة أن عدد صفحات الرواية بلغ 423 صفحة.
الرواية مكتوبة بضمير المتكلم منذ البداية للنهاية، ولكن تتداخل في السرد صيغ أخرى متعددة: رسائل، مونولوغ داخلي، اقتباسات من كلام ابن سينا، إلى جانب فصول فيها مقاطع سردية عن حياة ابن سينا ممكن نسبها للبطل السارد الذي يحكيها بصيغة الراوي العليم. يتضح المجهود البحثي في هذه المقاطع السردية، إلى جانب دقة وصف الأماكن والمدن واختلافاتها، مع نقلها بعين سينمائية ذات طابع حساس نحو الأماكن والأصوات والروائح، بل الحواس عموماً.
إنتقالات زمنية
تحدث الانتقالات الزمنية في كثير من المواضع ضمن فقرة واحدة في السرد، واختار الكاتب تمييز الفقرات التي تتضمن كلام ابن سينا باللون الأسود، بحيث من الممكن تمييزها شكلياً أيضاً. ويعقب هذه المقاطع وجهة نظر الكاتب وتحليله لبعض ما حدث مع ابن سينا كأن يقول "يضيق صدره حين يذكر الرياسة، لم تورثه إلا ضيق الصدر. كان في غنى عنها، وعن نارها. كانت أيامه التي قضاها في القصر كأنما تظلم روحه، وتسلب منه بصره وبصيرته".
يمضي البطل السارد في رحلته مقتفياً أثر ابن سينا، ويتتبع نداء داخلياً يأخذه إلى البعيد، لذا يرحل إلى إيران، ويجول في أربع مدن فيها، يلتقي مع أناس غرباء، ويبدأ في تعلم لغة غريبة، ينفتح على واقع مغاير لكل ما عرفه في تخيلاته عن ابن سينا. وهو في ارتحاله هذا أشبه برحالة صوفي يمضي بلا هدف محدد سوى مراده الداخلي الذي يأمره بالانصياع إلى المجهول. والأماكن التي يصل إليها توحي له بمشاهد من حياة الشيخ الرئيس، وما عليه إلا الامتثال لصور المخيلة "جئت أبحث عن أبي علي فوجدت ورد، قلبي يعرفها... لم يكن هذا الجسر موجوداً حين كانت ورد تعيش في أصفهان، بني بعد موتها بثمانمئة سنة أيام الصفويين. أما ورد فقد توفيت بعد رحيل ابن سينا بعشرين سنة كاملة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن طابع الرحلة ووصف الأماكن والحوارات الطويلة في قضايا تاريخية وتفاصيل متشعبة سيطرت على نصف الرواية، وهذا لم يصب في اتجاه المحور الأساسي للرواية، فيما تكثف حضور عالم ابن سينا منذ الجزء الأخير الذي حمل عنوان "القاعة الرابعة، تالارجهارم"، في صفحة 227
شغل الحوار جزءاً كبيراً من الرواية، والحوارات تبدو في معظمها حاملة لآراء في التاريخ والسياسة والدين. بيد أن الحوار في مواضع عدة جاء مفتعلاً في غير سياقه، كما لو أن كل الأشخاص الذين يلتقيهم البطل خلال رحلته مثقفون ولديهم معرفة بالتاريخ والفلسفة والسياسة والدين. واحتشاد اللقاءات بنقاشات وجدالات فلسفية بدت دخيلة على الزمان والمكان الواقعي، كما في حواره الأول مع "آواز"، حين يلتقي بها صدفة، ثم يتطور التواصل بينهما، ويتحول إلى حوارات طويلة مسترسلة عن التصوف وعن جلال الدين الرومي وغير ذلك، مما شتت الرواية، وكان الأجدى التركيز على شخصية ابن سينا والتوغل أكثر في عالمها، بما أن الرواية مكتوبة لهذا الغرض.