أوليفر ستون أنجز فيلماً عن سيرة المناضل الكوبي فيدل كاسترو، في حين اقتحم أمير كوستوريتسا حميمية رئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكّا (أفقر رئيس في العالم). واليوم، يوثق المخرج الألماني الكبير فرنر هرتزوغ حبّه لميخائيل غورباتشيوف في "لقاء غورباتشيوف"، أحدث فيلم وثائقي له عُرض أخيراً في تظاهرة "شاشات الواقع" البيروتية، وكنّا قبل ذلك شاهدناه في مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي. هذا الاهتمام من جانب سينمائيين كبار بشخصيات سياسية اضطلعت بأدوار بارزة، في طريقه إلى أن يتحول "صنفاً" سينمائياً قائماً في ذاته.
هرتزوغ لا يمازح. المشاعر التي بلورها على مدار الزمن لثامن زعماء الاتحاد السوفياتي وآخرهم حقيقية. مشاعر ملموسة ومحسوسة، نابعة من لحظة مفصلية في التاريخ الأوروبي الحديث. فبالنسبة إلى المخرج المسؤول عن بعض من أعظم أفلام السينما الألمانية، غورباتشيوف وحّد بلده المنقسم بين شرقية وغربية. إنها الخدمة السياسية التي لم ينسَ هرتزوغ تأثيرها عليه شخصياً.
لا يخشى هرتزوغ الوقوع في فخّ السخرية في العديد من المشاهد. مثلما عندما يأتي إلى غورباتشيوف بعلبة شوكولا من لندن للاحتفاء بعيد ميلاده في بداية الفيلم. بعيداً من أي تدليس سياسي، يتشكّل أمامنا فيلم طابعه حميمي يترجّح بين المعلومات الشخصية والنظرة الشاملة للواقع السياسي في زمن تسلم غورباتشيوف للسلطة، أي الثمانينيات.
بصمات سياسية
لغورباتشيوف بصمات واضحة تركها على القرن العشرين، يحاول الفيلم شد الانتباه إليها. قرنٌ شهد فظائع تمثّلت في حربين عالميتين ومحرقة وقنبلة ذرية وغيرها من المآسي التي لا تزال ماثلة في وجدان الإنسان الغربي. بهذا المعنى يُمكن اعتبار العمل ردَّ اعتبار لسياسي من المدرسة القديمة، يؤمن بالدبلوماسية أساساً لحل النزاعات في العالم، خلافاً لما هي الحال عليه اليوم في دنيا السياسة: بلطجة وابتزاز ولغة صبيانية.
جرياً للعادة في هذا النوع من الأفلام الوثائقية، يتكوّن "لقاء غورباتشيوف" من مشاهد أرشيف ومقابلات أُجريت مع الزعيم على ثلاث مراحل. هذا التداخل بين القديم والجديد ليس غريباً لمَن يعرف كيف يفكّر العقل الهرتزوغي، ولكنه قد يكون إشكالياً لمَن لا يعنيه غورباتشيوف، لم يعشْ زمنه، ولا يميل إلى معسكره السياسي. وعليه، لا يُمكن التقليل من احتمال أن يعتبر بعضهم الفيلم دعاية مجانية، وهذا مؤسف لأن نيات هرتزوغ ليست من هذا النوع، ولكن ليس بالنيات وحدها تُصنع السينما.
يحاول الفيلم أن ينبش في التفاصيل الشخصية. خلف السياسيّ المخضرم رجلٌ آخر، وهذا يضفي بعض العاطفة على السيرة السياسية الجامدة. فالرجل الذي هندس البيريسترويكا أبصر النور داخل عائلة فلاحين في مطلع الثلاثينيات، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي، فتسلّق السلالم تدريجاً، قبل أن يُنتخب رئيساً لدولة عظمى في العام 1985. انخراطه في العمل السياسي كصانع قرار ولاعب أساسي لا يتناقض عند هزتزوغ مع حقيقة أنه يفيض بالمشاعر. وهذا الشيء يعرف المخرج كيف يلتقطه، فنراه يتأخر على دمعة تتدحرج على خد غورباتشيوف عندما يتحدّث عن زوجته الراحلة وهو يقرّ بأن جزءاً من حياته غاب مع غيابها.
علاقته مع الأميركيين تحتلّ كذلك جزءاً مهماً من الفيلم. من محاولة فرض انتقال سلس لروسيا نحو الديموقراطية وإنهاء الحرب الباردة، ثم محاولة الانقلاب عليه التي عزّزت صلاحيات بوريس يلتسين وانتهت بإجباره على التنحي، هذا الفصل يراه هرتزوغ الأكثر أهلاً للمناقشة. في هذا الفصل أيضاً، يأتينا غورباتشيوف بدرس سياسيّ كبير سيبقى إلى الأبد في الأذهان.
على الرغم من هذا كله، يكمن سرّ الفيلم وفرادته في كونه يبحث عن شيء حميميّ، وهذا البحث يكاد يكون طفولياً في أحايين كثيرة لشدة ما ينطلق من شيء غير موجود سوى في مخيلة المخرج. فنجده يقوم بخطوات إضافية في سبيل بلوغه. طوال الفيلم، سيحاول هرتزوغ إحاطة ضيفه بهالة تراجيدية، ومقاربته كشخصية سليل المسرح الإغريقي، شخصية أهم ما فيها أنها حاولت ولم تنجح. هذا سببٌ كاف عند هرتزوغ للاحتفاء بالرجل. المحاولات المتكرّرة تجد صداها في السؤال الذي يتوجّه به هرتزوغ إلى غورباتشيوف في ختام الفيلم عمّا يرغب في أن يُكتب على قبره، فيرد الأخير بكلمتين: "لقد حاولتُ".
هذه المحاولة في جعل غورباتشيوف شخصية "سامية" تفلت من بين أصابع المخرج. لا طبيعة الحوار ولا الظروف التي صُوّر فيها الفيلم يسمحان له بذلك. الفيلم يكشف أيضاً محدودية الحوار حينما يكون المتحاوران من خلفيتين فكريتين مختلفتين ويجرّب كلّ منهما ملاقاة الآخر في منتصف الطريق. فهرتزوغ يأتي من مكان يختلف عن المكان الذي جاء منه غورباتشيوف. صحيح أن لحظات سحر تتطاير من اللقاء تجعلنا ندرك كم أن أسلوب التعاطي الروسي مع الواقع لا يتكيّف مع البراغماتية الألمانية. ثمة عاطفة وشعر في كلام غورباتشيوف يمتدان حتى إلى لحظات الصمت، وهما خير مدخل للوقوف عند التجربة السوفياتية. في النهاية، ما هو فيلم هرتزوغ سوى تأكيد الروحانية التي تميّز روسيا عن سواها من البلدان الأوروبية. يدعو المخرج بوضوح إلى عدم التفريط بهذه الأمة، بل العودة إلى حضنها، إذ لا وجود لأوروبا من دونها.
مَن لا يعرف الكثير عن غورباتشيوف سيخرج من الصالة باحساس عدم الاكتفاء. أما هواة الجيو سياسة، فلا يقدّم الفيلم لهم إجابات جاهزة من خلال ربط السبب بالنتيجة. لا يحاول الفيلم القفز إلى الراهن. فبوتين بالكاد مذكور في لقطات اعتراضية. وعندما تسدل الستارة، يبقى غورباتشيوف كما عرفناه: شخصية ملفوفة بالغموض، لا إجماع حولها. هل هو بطلٌ أو خائنٌ؟ التاريخ وحده يحكم. السينما لا!