لك أن تتخيل السيناريو التالي... تتصاعد مجدداً معدلات الإصابة بـ"كوفيد- 19" في صفوف السكان الذين يسجلون نسبة تلقيح منخفضة في شرق أفريقيا. كان طرح الجرعات التحصينية بطيئاً، إذ اصطدم بإمدادات غير متسقة من الجرعات. ونظراً إلى القدرة المحدودة على إجراء فحوص الكشف، لا يعرف المسؤولون تماماً الحجم الحقيقي لموجة كورونا المتزايدة في البلد، ولكن لا جدال في العبء الذي ترزح تحته المستشفيات. تفيض وحدات العناية المركزة بالمرضى. الممرضون والأطباء منهكون. و"كوفيد -19" مستشر.
في أحد المستشفيات، مريض مصاب بعوز المناعة يكابد "كوفيد- 19". يدفن الفيروس نفسه عميقاً في جسد المريض الذي يكافح للتعافي من العدوى. مرت ثلاثة أشهر، وما زال فحص الكشف عن كورونا يعطي نتيجة موجبة (تأكيد الإصابة). خلال ذلك الوقت، راح الفيروس يتكاثر، ويتحور في تركيبته الجينية، ويكتسب خصائص جديدة، ويعزز كفاءته.
الضحية التالية ممرض سبق أن أخذ اللقاح المضاد. لا يكابد أي أعراض واضحة، لذا يجهل أنه مصاب بالعدوى، بيد أن أفراد عائلته الآخرين لم يحصلوا على جرعاتهم التحصينية. لن يظهر عليهم المرض قبل مرور أسبوع كامل على تعرضهم الأول للفيروس، وعندها سينتقل كورونا منهم إلى كثيرين غيرهم في المنطقة المحلية. الفيروس الذي طرأ عليه حديثاً تحور جديد، الشديد العدوى، القادر على التفلت من المناعة المتولدة في الجسم (عبر العدوى الطبيعية أو التحصين باللقاح)، والأكثر قدرة على التسبب بمضاعفات صحية مقارنة بالمتحورات السابقة، يطلق موجة جديدة من العدوى في مختلف أنحاء البلد وخارجه.
ليس تطور المجريات بعيد الاحتمال. نظراً إلى أن سكان العالم الغربي يبنون جدران مناعتهم، فإن معدلات الإصابة التي لا تنفك ترتفع في جنوب الكرة الأرضية وبرامج اللقاحات المتعثرة فيها تتهددان بنشوء متحورة جديدة من "كوفيد"، ربما يعيدان أجزاء كثيرة من العالم إلى المربع الأول من صراعنا مع "كوفيد".
عالمياً، تقترب إصابات "كوفيد" اليومية من حاجز الـ700 ألف حالة. عدد حالات بهذا الحجم يعني أن مليارات ومليارات من نسخ فيروس كورونا تتكاثر داخل خلايانا يومياً- ما يشكل فرصة كافية، أو "مساحة تملص" لظهور متحورات خطيرة، كما يقول عالم الفيروسات الدكتور ستيفن غريفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤكد أن الظروف ملائمة للتطور المستمر لـ"كوفيد"، ولكن إلى أي مدى يمكنه أن يصل حقيقة في تطوره؟ ما زال "سارس- كوف- 2" عاملاً ممرضاً للبشر جديداً نسبياً، لذا سيواصل التكيف مع أجسامنا المضيفة، ولكن ثمة شك بشأن ما إذا كانت عملية التكيف هذه قادرة على أن تواصل مسيرتها إلى الأبد.
ثمة مدرستان فكريتان (فضفاضتان) في هذا المجال: واحدة ترى أن للفيروس قدرة لا نهائية على التطور عبر التحورات الجينية (من ثم يصبح أكثر كفاءة في انتقاله وتملصه من المناعة...)، وأخرى تعتقد أنه سيصل إلى نقطة نهاية جينياً. وفق جوناثان بول، عالم في الفيروسات في "جامعة نوتنغهام" Nottingham University البريطانية، "ثمة قدر كبير جداً من المعالم التطورية التي يستطيع الفيروس استكشافها". لكن هذه الحقيقة لا تعني بالضرورة، كما يقول، أن الفيروس سيغامر بدخول هذا الفضاء.
في الواقع، تتركز الغالبية العظمى من الطفرات الجينية التي رصدت في "سارس- كوف- 2" حتى الآن في التركيب الجيني البروتيني المعروف باسم "سبايك"، علماً أنه الجزء من الفيروس المسؤول عن الارتباط بالخلايا البشرية والولوج إليها. ومعلوم أن جهازنا المناعي، بعد التعرض لعدوى طبيعية أو أخذ التطعيم، يولد استجابة تستهدف هذه التراكيب بغية درء العدوى في المستقبل، والوقاية من المرض.
ولكن عبر طفرات جينية عشوائية تبرز أثناء تكاثر الفيروس، والتي يمنح بعضها ميزة لـ"سارس- كوف- 2" وتبقى موجودة في نسخ فيروسية تظهر لاحقاً، يتغير شكل بروتين "سبايك" ليصير قادراً على التملص من دفاعاتنا المناعية، وتحسين مستوى كفاءته في الارتباط بالخلايا البشرية. لذا، من المحتمل أن يكون الأشخاص المحميون ظاهرياً عرضة لإصابة ثانية، وقد ارتبط ذلك كما رأينا بمتحورة "دلتا".
مع مرور الوقت، راكم "سارس- كوف- 2" كوكبة من الطفرات الجينية في بروتين "سبايك" عبر عملية "انسياق مستضدي" antigenic drift، بمعنى تغير مستضدات (مواد تثير الاستجابة المناعية) الفيروس نتيجة التعرض لطفرات عشوائية. يقول البروفيسور بول إن هذه التحورات تطرأ عادة واحدة تلو الأخرى، أو بأعداد صغيرة طبعاً. لذا لا نشهد فجأة تحوراً جينياً ضخماً في فيروس واحد."
شيئاً فشيئاً، تعمل كل طفرة جينية على تغيير فيروس كورونا ليصبح مختلفاً عن النسخة الأصلية التي ظهرت في ووهان الصينية. بعض الطفرات سيأخذ هذا العامل الممرض (الفيروس) إلى طريق جيني مسدود، بينما ستعززه طفرات أخرى، وقد تكلل ذلك كما شهدنا في ظهور متحورات، من قبيل "ألفا" و"بيتا" و"دلتا"، ذات خصائص جينية تطرح إشكاليات.
ولكن في سياق بروتين "سبايك"، "سيواجه الفيروس قيوداً"، كما تقول إيما تومسون، أستاذة الأمراض المعدية في "مركز بحوث الفيروسات" في "جامعة غلاسكو" الاسكتلندية. في مختلف أنحاء العالم، ظهرت المتحورات عينها، من قبيل طفرة "إي 484 كي" (E484K) ذات الصيت السيئ التي أطلق عليها بعض العلماء اسم "إيك" (Eek) بشكل مستقل عن بعضها البعض.
يشير ذلك "التطور التقاربي" convergent evolution، كما يُسمى، إلى أنه لدى الفيروس مساراً محدداً يتبعه في رحلته (تحوراته بعيداً من نسخته الأصلية). بناء عليه، فإن أي طفرة جينية تنشأ خارج تلك الحدود ستكون على الأرجح غير فاعلة في تحسين قدرة "سارس- كوف- 2" على الالتصاق بخلايانا أو التهرب من الأجسام المضادة التي تولدت لدينا.
بدوره، يقول البروفيسور داني ألتمان، اختصاصي المناعة في "إمبريال كوليدج لندن" Imperial College London "لقد شاهدنا الطفرات الجينية نفسها تقريباً في البرازيل وجنوب أفريقيا والهند. ثمة حالات محدودة نوعاً ما في مقدور الفيروس أن ينتقل إليها. ولا يمكنه تالياً أن يواصل تغيير نفسه إلى الأبد".
في الأساس، يأتي الفيروس بنفس الحلول للمشكلات عينها. حاضراً، أقله، ما زال يُمنى بالخسارة أمام نظام المناعة لدينا- ولكن إذا تعرض في نهاية المطاف لتوليفة موفقة من الطفرات الجينية خلال مسار (تطوره الجيني)، فسنكون إزاء مشكلة على الأرجح.
بالنسبة إلى أريس كاتزوركيس، بروفيسور في التطور وعلم الجينوم في "جامعة أكسفورد" University of Oxford البريطانية، تبدو "الاحتمالات لا متناهية". ويشير إلى أن المسار الجيني للفيروس ربما يكون أوسع مما نعرف. كذلك يعتقد أن نطاقه يمكن أن يصبح أكثر اتساعاً في حال الوصول في نهاية المطاف إلى طفرات جينية معينة مدفونة في أعماق الترميز الجيني للفيروس عبر عملية "انسياق مستضدي".
يقول في هذا الصدد، "حتى لو وُجدت حدود (للمسار التطوري للفيروس)، ثمة دائماً قدر من التغير يحصل في مكان آخر ربما يفتح الباب أمام احتمالات لم نشهدها سابقاً. مثلاً، ربما تطلق الطفرة "إي 484 كي" تحديداً مجموعة كاملة من طفرات جينية أخرى في مكان آخر في خضم ارتفاع الإصابات الذي ستسجله الأشهر الستة إلى الـ12 المقبلة."
ربما يكون البروتين "سبايك" النقطة التي ينصب عليها التركيز الرئيس حالياً، ولكن يعتقد العلماء أن "سارس- كوف- 2" يحتوي على مناطق أخرى يمكن أن تكون عرضة لطفرات تزيد الفيروس كفاءة. لما كان الجينوم كبيراً جداً، الذي يرمز إلى تشكيل كثير من البروتينات المختلفة، يتسع نطاق حدوث تغيرات في مواضع أخرى من العامل الممرض.
وفق البروفيسور جوناثان بول، "يمكن أن تطاول الفيروس تغيرات في أي مكان منه وتؤثر في سلوكه. بعض الطفرات الجينية يمكن أن يعزز كفاءة الفيروس في ما يتصل بقدرته على التكاثر بمجرد دخوله إلى خلايانا". وفي النتيجة، من شأن ذلك أن يؤدي إلى تزايد الحمل الفيروسي الناتج من متحورة معينة، ما يفاقم صعوبة التخلص من العدوى- حتى لدى شخص تلقى تطعيمه.
يقول الدكتور ستيفن غريفين إن "هول" التكاثر من شأنه أن يسمح للفيروس "بالانتشار على نحو أسرع في مختلف أنحاء الجسم، ويمنحه قدرة أكبر على التغلب على الاستجابات المناعية"، مضيفاً أن ذلك قد يقود إلى فترات زمنية مختلفة للمرض، أو حتى يجعل الفيروس أكثر قدرة على التسبب بمضاعفات صحية.
أمام الفيروس خيار آخر، وهو عملية "إعادة التركيب" recombination (بين متحورتين مختلفتين) التي تتسم بأنها ذات طابع فجائي ومباغت كثيراً (مقارنة بالطفرات الجينية التقليدية). يطرأ ذلك عندما يصيب نوعان مختلفان المضيف عينه (عدوى مزدوجة)، ويتبادلان أجزاء من جينومينهما أثناء عملية التكاثر، مثل حزمة من ورق اللعب أعيد خلطها وتوزيعها.
في الأيام الأولى من الجائحة، نظراً إلى التنوع الجيني المحدود لـ"سارس- كوف 2"، كان يُنظر إلى "إعادة التركيب" على أنها عديمة الشأن، وذلك بوجود متحورات متشابهة في شكلها تتبادل الكثير من الترميز الجيني، أو أوراق اللعب، نفسه، بين بعضها البعض.
ولكن مع استمرار الفيروس في التفشي، لا سيما في البلدان التي تتبع أي إجراءات احتواء فيُطلق فيها العنان للعدوى، سيراكم كورونا تنوعاً جينياً يمكنه أن يجعل "إعادة التركيب" أكثر بروزاً، وينتج تالياً نسلاً متحوراً يحمل العامل المساعد المطلوب الذي يمكنه من السيطرة.
"بينما نمضي قدماً كما نفعل مع الإنفلونزا الموسمية، ومع ظهور مواسم متعددة من "كوفيد- 19" تتراكم فوق بعضها بعضاً، وتداول المتحورات بين الناس، سنشهد حالات إضافية من "إعادة التركيب" بسبب إصابة الأشخاص بمتحورتين اثنتين أو أكثر"، بحسب ما يقول الدكتور جوليان تانغ، عالم في الفيروسات التنفسية في "جامعة ليستر" Leicester University البريطانية.
في النهاية، لا يمكن إغفال البيئة التي ينتشر فيها الفيروس في أي نقاش بشأن مدى استمرارية "سارس-كوف -2" في التطور. في مجموعة سكانية محصنة جيداً باللقاحات، ستتفوق المتحورة القادرة على التهرب من المناعة على النسخة الشديدة العدوى، ما يؤدي بالأخيرة إلى التلاشي. أما ضمن مجموعة سكانية محمية جزئياً فقط، فيُحتمل أن تهيمن المتحورة ذات القدرة الكبيرة على الانتقال بين الناس.
يشرح الدكتور غريفين أن "المسألة تتعلق بعمليتين، ألا وهما ما نسميه قابلية الجينوم على التحور، ثم كيفية تفاعله مع بيئته"، ما يحدد أياً من التغيرات الجينية "تظهر" و"كيف تصبح راسخة".
تؤدي مجموعة واسعة من العوامل دوراً في هذا المجال، من بينها الاستجابة المناعية الناتجة عن التطعيم والعدوى الطبيعية، ودرجة الحرارة والمناخ، وفرض قيود من قبيل التباعد الاجتماعي أو ارتداء الكمامات الواقية، فضلاً عن الأنواع العرقية، والمناعة الفطرية، ذلك الخط الدفاعي المبرمج على مهاجمة أي غاز أجنبي، بغض النظر عن شكله.
ربما يكون التغير والتطور عملية عشوائية، "لكن لا بد أيضاً من أن يتوافقا مع شيء ما"، كما يقول الدكتور غريفين، "وهو أمر تحدده البيئة الأكثر اتساعاً."
يعتمد مستقبل معركتنا ضد "كوفيد" على ما إذا كان "سارس- كوف- 2" سيتطور في النهاية إلى ما هو أبعد من قدرة لقاحاتنا المعتمدة والحماية التي توفرها. لدينا الآن الأدوات التي تسمح بخفض تأثير الفيروس، ومع ذلك ترانا عاجزين عن تبيان أي متحورات خطيرة تغير الوضع الراهن جذرياً.
لدى الخبراء ثقة في أننا بموجب قواعد اللعبة الحالية، نملك الأفضلية. لكن إلى متى سيستمر ذلك؟
على الرغم من التقدم المحرز خلال الـ 18 شهراً الماضية، إلى جانب الخسائر الفادحة في الأرواح التي تكبدها العالم، ما زال عمر الفيروس في أيامه الأولى. يقول البروفيسور بول إن "الفيروسات، بمجرد عبورها حاجز الأنواع من الحيوانات إلى البشر، عادةً ما تستغرق سنوات عدة قبل تعزيز نفسها فعلاً لتكون قادرة على التكاثر بشكل جيد. لذا لن أستبعد أن يجد الفيروس طرائق ذكية أخرى كي يتطور."
© The Independent