يمكننا أن نفترض أن ثمة في مكتبة كل مثقف متعمق في الفلسفة والنقد والعلوم الاجتماعية بين ثلاث وأربع طبعات من كتاب المفكر الفرنسي الأشهر رولان بارت، بالإضافة عادة إلى ترجمة أو ترجمتين إلى لغات أخرى غير الأصل الفرنسي. فالكتاب مغر تماماً ليس فقط لأنه واحد من أول الكتب التي أصدرها بارت وقرئت من قبل جمهور عريض غير متخصص، ولا لأن لغته بسيطة تمس اهتمامات عامة القراء، ولا حتى لأنه يكاد يكون نوعاً من التأريخ لمرحلة من تاريخ الذهنيات الاجتماعية في فرنسا وربما في غيرها أيضاً خلال مرحلة زمنية يمكن اعتبارها طفولة الزمن الراهن ومن آخر محطات "البراءة" في العلاقة بين الفرد والمجتمع، بل ربما لأن مقتني الكتاب يشعر في كل مرة تصدر فيها طبعة جديدة منه أن هذه المرة قد تكون الطبعة أكثر اكتمالاً من سابقتها. وهو شعور مبهم قد لا يكون له ما يبرره ويكاد يشبه شعور المرء حين يشاهد على الشاشة الصغيرة فيلماً قديماً سبق أن شاهده ويتمنى لو يكون فيه هذه المرة نوع من تبدّل في نهايته المحزنة.
نقصان محيّر
نقول "يكاد يشبه" ولا نقول إنه يشبه بالتأكيد وذلك بالتحديد لأن كل الطبعات التي تنزل إلى الأسواق ومنذ الطبعة الأولى "المتكاملة" من ناحية النص، والتي صدرت عام 1970 من كتاب "أسطوريات"، ناقصة بالفعل لا بشكل مجازي. وبارت كان يعرف هذا كما أن قراءه جميعاً يعرفونه. ففي الأصل كان الكتاب عبارة عن مقالات صحافية شهرية كان بارت ينشرها عند أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين بين 1954 و1956، في مجلة "الآداب الجديدة" وتنتمي من ناحية تصنيفها إلى ما يسمى "المرحلة الصحافية" في مسار بارت. ولقد بلغ عددها في نهاية الأمر 54 نصّاً سرعان ما جُمعت في كتاب أول كما هي في العام 1957 لكن الطبعة التي أصدرها بارت عام 1970 أتت وقد أضاف إليها ذلك النص الذي استكملها نظرياً ويعتبر من أهم النصوص التي وضعها بارت في هذا المجال وعنوانه "الأسطورة اليوم". والحقيقة أننا حين نتحدث عن أن كل الطبعات التي صدرت تباعاً ليست مكتملة لا نعني افتقارها إلى هذا النصّ النظري، بل إلى شيء آخر تماماً سنظل نعتقد أن لا بد من وجوده متواكباً مع تلك النصوص الـ54 حتى نعتبر الكتاب مكتملاً تماماً. ولنوضح ما نرمي إليه.
دلالات أشياء الحياة اليومية
عندما نشر بارت تلك المقالات في وتيرتها الشهرية كان في معظمها يعلق على ما يسميه أساطير الزمن الحديث، وهي أساطير كانت بالنسبة إليه تنتمي في غالبيتها من دون أن يفوته أن ثمة منها ما هو أساطير يسارية، إلى الفكر اليميني الذي كان سائداً في الصحافة والسينما والمسرح والدعاية التلفزيونية وغير التلفزيونية والبضائع الاستهلاكية وشائعات الحياة الاجتماعية وصولاً إلى صناعة السيارات والمصارعة وتصميم علب السجائر مروراً بحديث الجرائم والمحاكم وعروض الأزياء وفورة التصوير الفوتوغرافي للنجوم والأيديولوجيا الكولونيالية وردود الفعل الاجتماعية على الحرب الجزائرية، وعشرات غير ذلك من مواضيع كان بارت يرى في تلك المرحلة أنها تشغل بال ويوميات قطاعات معينة من الشرائح الاجتماعية، ويشتغل الإعلام بخاصة على ترسيخها وجعلها أساطير تحل بديلة عن كل ما عرفته الأزمان السابقة من أساطير تاريخية أو دينية. وبشكل إجمالي كان بارت ينطلق في تعليقاته على تلك "الأساطير" من فهمه المعاصر والمؤدلج على أية حال للدال والمدلول، وهو المفهوم الذي سوف يتطور لديه لاحقاً ويدخله في عوالم ستبدو أكثر علمية وصعوبة وتعمقاً مما جاء في تلك التعليقات الصحافية المبكرة.
"ميزانسين" لرجل البر والإحسان
ومع ذلك حسبنا مثلاً أن نقرأ ما يكتبه بارت عن واحد من رجال الدين المحسنين في فرنسا ذلك الحين، الأب بيار، والذي سيكون له شأن كبير في الحياة الاجتماعية لاحقاً، واصفاً ثيابه وقصة شعره وطريقة حديثه لندرك أهمية الدالّ والمدلول من خلال تعمد ذلك الأب الشهير أن ينظر الناس إليه نظرتهم، شكلياً ولكن من ناحية الفعل الخيّر كما ينظرون إلى القديس فرانسوا الأسيزي الذي كان قد تحول إلى أسطورة دينية واجتماعية منذ مئات السنين؛ كما حسبنا أن نقرأ تعليقه على صور النجوم التي كانت تنتجها استديوهات هاركور الشهيرة وأسهمت في علاقة التماهي التي انبنت بين الجمهور والنجوم حتى خارج إطار الأفلام نفسها، وكذلك تحليله لابتسامة غريتا غاربو الغامضة وعلاقتها باعتزالها التمثيل، من دون أن يفوته مثلاً أن يدرس اللغة والصور التي تنشرها مجلة يمينية مثل "باري ماتش" كانت حينها تصنع الرأي العام، لأبناء البلدان التي تستعمرها فرنسا مطلقة عليهم أسماء وأوصافاً يرى بارت أنها أسهمت في الصورة الدنيا التي باتت لهم لدى الطبقات الفرنسية الوسطى.
بين تكامل وتكامل
طبعاً لا يتسع المكان هنا لإيراد المزيد من الأمثلة من بين الـ43 تعليقاً – علماً بأن ثمة مقالات قليلة لم يرفقها يومها بصور - التي كان بارت قد نشرها في المجلة الشهرية مصحوبة بصور لا يستقيم منطق التحليل من دون وجودها أمام أعين القارئ فيما هو يتصفح تلك المقالات، حتى وإن كان كثر يرون أن المهم في الأمر كان النصوص نفسها حيث أن التحليل الذي كان بارت يشتغل عليه كان يبدو متكاملاً في ذاته، ناهيك بكون المقالات نفسها تتكامل في ما بينها بل عادت وتكاملت أكثر حين أضاف إليها بارت بعد سنوات، أي في طبعة عام 1970، تلك الدراسة الجامعة المترابطة والرابطة حول النصوص كمنطلق لأي بحث ينبغي الاشتغال عليه حول الأسطورة وانزياحاتها في أيامنا هذه. أو هذا ما بدا لنا على الأقل حتى صدرت طبعة جديدة من "أسطوريات" بعد نحو خمسين عاماً من الطبعة الأولى، وبعد نحو أربعين عاماً من صدور طبعة العام 1970. لماذا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العودة إلى لغة التكامل
بكل بساطة لأنها أتت طبعة مختلفة تماماً ومكتملة تماماً لا شك أن من يتأملها سيجد نفسه وقد أعاد قراءة الكتاب كله من ألفه إلى يائه من جديد وبنظرة مختلفة حتى وإن كان قد سبق له أن قرأ الكتاب مرات ومرات وكتب عنه مرات ومرات، كما حال كاتب هذه السطور. فهذه المرة جاءت الطبعة كبيرة الحجم، يكاد حجمها يماثل الحجم الذي كانت تصدر به "الآداب الفرنسية" (25×35 سم) تقريباً، ما يضع القارئ على الفور في زمنية الصدور الأول للمقالات. لكن الأهم من هذا هو أن المقالات التي كانت مرفقة بصور تتكامل معها ولا تستوضحها وحسب، عادت هنا مصحوبة بالصور نفسها سواء كانت منتزعة من صحافة ذلك الزمن، أو من أفلام أو مسرحيات أو مقتبسة من صفحات دعائية لأدوات تنظيف أو من الأخبار المتعلقة بالحرب الجزائرية أو حتى بمؤتمر باندوغ (بما في ذلك تلك الصورة الشهيرة التي تجمع الرئيس المصري جمال عبد الناصر بالزعيمين الهندي نهرو واليوغوسلافي تيتو...)، أو بحكاية جريمة من هنا وانتشار أفكار سياسي من اليمين المتطرف من هناك.
فضح التضليل الأيديولوجي
وهكذا، بعد ثلاثين عاماً من رحيل رولان بارت في العام 1980 بحادث السيارة الشهير الذي قضى عليه وهو خارج من مكان عمله التدريسي في "كوليج دي فرانس" أصدر ناشره طبعة بالغة الدقة والأناقة والصواب من واحد من أهم كتبه وأشهرها. طبعة أعادت إلى الكتاب جوهره وأسلوبه في تكامل خلاق بالنسبة إلى العدد الأكبر من مقالاته بين ما هو نظري وما هو بصري فيه. وكان ذلك قدراً كبيراً من الإنصاف في حق كتاب كان مؤلفه، الذي لم يقيّض له مشاهدة هذه الطبعة والتعليق عليها، قد قال عند صدوره للمرة الأولى: "يجد القارئ هنا تضافرين أساسيين يتمثل أحدهما في نقد أيديولوجي للثقافة المسماة الثقافة الجماهيرية، والثاني في المحاولة الأولى لتفكيك لغة هذه الثقافة بذلتها أنا الذي كنت قد قرأت لتوي دي سوسور واستخلصت منه القناعة بأن الاشتغال على معالجة "التمثلات الجماعية" بوصفها منظومات إشارة، يمكنه أن يعطينا الأمل في فهم لعبة التضليل الأيديولوجي التي تحول ثقافة البورجوازية الصغيرة إلى طبيعة كونية".