بعد إقفال تام للمسارح في واشنطن دام لما يزيد على العام بسبب الجائحة، كان لافتاً تقديم العرض المسرحي الأول في مدينة سياتل خارج سياق المنظومة الإنتاجية الأميركية. العرض "Blackout" وفيه أخذت هايلي هاندرسن كل المسرح ووضعته في عهدة بيتها في الفناء الخلفي. على المصطبة الخلفية لمنزلها، أسرّت الممثلة والكاتبة بتجارب التحرش والإساءة اللفظية التي تعرضت لها قبل أشهر ليست ببعيدة.
الزومبي السعيدة
لا تنظر هايلي إلى نفسها إلا تحت صورة الزومبي السعيدة التي تبتسم دائماً لكل شيء. جعلها هذا الأمر عنصراً تابعاً في علاقاتها مع رجال يجدون أن المرأة تنضوي تحت صورة محددة تتماهى ضمن الصندوق وهم من يحددون صفاته. حبيبها الأول كان يتخذ عنها كل القرارات دون أن تعترض. عندما تم قبولها في برنامج الماجستير لم يستطع أن يخفي أنه كان ينوي أن يأخذها معه إلى الصين، كأنها قطعة أثاث، لكنه قبل في النهاية على مضض. أصرّ أن يربطها به عبر أخذ أثاث بيته على الرغم من أنها أرادت أن تصمم بيتها الجديد على هواها. عندما انتقلت هايلي إلى ولاية واشنطن لإكمال شهادة التمثيل، التقت في الأسبوع التوجيهي الأول في الجامعة بزميل لها في الجامعة. للوهلة الأولى بدا أن هناك قواسم مشتركة قد تعد بعلاقة لطيفة. تشاركا معاً حب دوار الشمس ورافقها بلطف إلى منزلها ودخله بكل الأمان الممكن قبل أن يمارس ذكوريته ويظهر وجهه الآخر.
منذ تلك اللحظة بدأت سلسلة من التعقبات والإساءة والترهيب النفسي والجسدي. من هذا الحدث تنطلق المسرحية إلى مجموعة من الأحداث التي تظهر فشل أنظمة الحماية – التي تضعها المؤسسات من ناحية، ومن ناحية أخرى، التي تظهر تصاعد ثنائية الرجل كحامي المرأة بصفتها محمية، الرجل كمقرر مستقبل المرأة/ المرأة ككائن سالب لا مستقبل لها من دونه، الرجل المستثار البريء/ المرأة مصدر الإثارة الآثمة. في أكثر المشاهد حدةً في العرض: تهرب هايلي إلى حبيبها الثاني جوردان حين رأت متعقبها وهو يلاحقها تارة ويختفي حيناً آخر. على الرغم من أن جوردان تركها لأنه لا يستطيع أن يتعامل مع كونها ممثلة، وعلى الرغم من أنه قال لها إنه موجود حين تقرر أن تصبح ناضجة، أي أن تترك مهنة المسرح. كان موجوداً لاحتضان هايلي بعد حادثة عودة المتعقب وليقول لها في الوقت نفسه: "انظري إلى الثياب المثيرة...لا ألومه". قال ذلك كمحاولة غواية منه وهو يحضنها مستثاراً. هنا الطامة الكبرى: أن يصبح المنطق الذكوري الذي يبرر لأي رجل فعلته مترسباً لدرجة يتماهى فيها الحبيب مع المتعقب. وإن كان جوردان أول من دعم هايلي للتبليغ عن الأخير فهو يقوم بفعل حماية مشروط بالانضواء تحت جناحه.
تتحول هايلي في هذا السياق إلى امرأة "مصندقة" سرعان ما تهرب من صندوق رجل، حتى يطالعها صندوق رجل آخر في وسط منظومة لا تؤمن أي حماية فعلية للنساء حين يتعرضن للتحرش أو للإساءة. عندما ذهبت هايلي إلى القسم الذي تدرس فيه، حولها إلى قسم الحماية فأصبحت كطابة بينغ بونغ بين القسمين من دون أن تصل إلى مخرج. تطول محاولات تحرير الذات ولحظات الإساءة من الرجلين في العرض. تتشارك هايلي حكايتها بشكل فيه من الفكاهة بقدر ما فيه من الأحداث الصادمة التي تنتهي بانتحار جوردان بعد أن حاول أن يطاردها عبر رسائله الهاتفية. وبفعل الانتحار أسر آخر.
الممثلة وصدمتها على الخشبة
كان على هايلي أن تلائم سمات الصندوق والصورة اللذين وضعهما الرجال الثلاث الذين صادفتهم. إن بحثنا قليلاً في التاريخ قد نجد أحد مراجع هذه السمات في الحقبة الفيكتورية حين شاع ما يعرف بعبادة الرجال للنساء المريضات (the cult of women invalidism). كانت آنذاك رائجة اللوحات التي تصور النساء في حالة المرض والروايات التي تطرقت لهذا الموضوع، وليست شخصيتا "مدام بوفاري" (غوستاف فلوبير) وأوفيليا (جيرار دو نيرفال) إلا مثالين بارزين من حقبتين مختلفتين على هذا الأمر. يشكل هذا المصطلح مؤشراً لدوام نظرة الرجل إلى المرأة ككائن ضعيف، بحاجة دائمة للحماية، وكلما زاد ضعفه أصبح أكثر إثارة وأصبح للرجل مكانة مجتمعية. لم تعان هايلي من أي مرض.
ولكن الرجال الذين صادفتهم جعلوها تشعر أنها تختلق الأشياء أو لربما هذه كانت طريقتها لإنكار ما يحدث لترتدي مجدداً صورة الزومبي السعيدة. بعد كل حادثة كانت تقول: "أنا أختلق الأمر... هذا لم يحدث...". في كل حادثة كانت هايلي تمرن نفسها على الاختفاء إلى أن أيقنت حاجتها لتحرر نفسها من كل الصناديق والقيود. على الأرجح أن هذا الأمر تزامن مع الجائحة: تشير الممثلة إلى أن وفاة ودفن جوردان كانا خلال الجائحة وكان الحدثان لصيقين بإحساسها، أخيراً، أنها حرة بذاتها ولذاتها. إذاً نحن أمام ممثلة تقوم باستعادة سلسلة من الصدمات التي عاشتها عبر عمل مونودرامي حكواتي بعد ما يقل أو يزيد على العام من وقت الصدمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ أكثر من ثلاثة عقود أصبح المسرح بمثابة وسيلة تنموية أو مسار علاجي نفسي أكثر رواجاً في مناطق عديدة من العالم. على الرغم من أن جذور المسرح العلاجي تعود للعام 1930 وأن المسرح كوسيلة تنموية يعود إلى أواخر الستينيات مع تجربة أوغستو بوال في مسرح المضطهدين، وجو سالاس في مسرح إعادة التمثيل، تشهد المناطق الحرجة سياسياً واجتماعياً في العالم استخدام الخشبة كوسيط لنقل شهادة ضحايا الأزمات. في حالة هذا العرض تقوم ممثلة بنقل تجربتها الشخصية على الخشبة، وهنا لا يعود السؤال الأهم حول دور المسرح في الشفاء وفي شرعنة صوت الضحية. هناك سؤال مواز في أهميته حول اللحظة التي تنقلب فيها الصدمة النفسية على ذاتها لتصبح فعلاً ممسرحاً واعياً في صلب التحضير للعرض. متى تنفصل صدمة هايلي عنها لتعود إليها على شاكلة منتج فني؟ وكيف تتوارى أمام الأدوات التمثيلية التي تملكها ممثلة محترفة وحين تعود، كيف تعود؟ هل كان كل هذا التخفف من كل أدوات المسرحة كالإضاءة والسينوغرافيا والاكتفاء بالحكي مدفوعاً بفعل وفاء للصدمة كحالة فجة وجب الحفاظ عليها كمادة خام، أم أن الأمر أيضاً مرتبط بمحدودية الإنتاج وبخرق هايلي للمنظومة الإنتاجية الأميركية المعهودة؟
مصطبة بيت هايلي
وجهت الجائحة خيار هايلي تحويل عرضها إلى عرض بيتي، ولكنه أيضاً خيار جمالي يضع المشاهد في موقع حميمي ويؤمن للممثلة فضاء دافئاً وآمناً للبوح. وقد تكون المصطبة أيضاً المكان الأقرب للأحداث التي روتها هاندرسن، الأمر الذي تطلب منها العمل على التصالح مع المكان. المسرح هنا يتحول إلى حدث خاص بيتي يكسر المنظومة الإنتاجية الأميركية المعهودة التي تتطلب كثيراً من الجهود البيروقراطية كي يقوم كاتب مبتدئ بعمل مسرحي ما.... وهذا حديث يطول، من الأفضل تركه لمقال آخر.