شكل التحدث مع أعضاء "رابطة المحاربين البريطانيين" في مناسبة "أحد التذكر"، واحداً من أكثر واجباتي أهمية وصعوبة على امتداد السنوات التي قضيتها نائباً عن دائرة "تويكنهام" الانتخابية. إذ مثل تكريم ضحايا الحروب مهمتي الرئيسة في تلك المناسبة، كسياسي لم يخدم إطلاقاً في القوات المسلحة لكنه صوت لمصلحة خوض أعمال عسكرية عدة. ولقد تحدثت هناك من أجل طمأنة الناجين وأحفاد الضحايا بأن تضحياتهم لم تذهب سدىً.
وبعد ما أعلنت المملكة المتحدة في 2006 التزامها مواصلة المساهمة في القوة العاملة في أفغانستان تحت قيادة حلف الناتو، تكررت الإشارة في إطار إحياء "أحد التذكر"، إلى الجنود البريطانيين الذين لقوا مصرعهم في أفغانستان والآلاف الذين أصيبوا بجروح فيها. ولطالما جاء بعض أولئك الجنود الذين عانوا من جروح جسدية ونفسية في أفغانستان، إلى مكتبي في الدائرة الانتخابية بغرض إجراء استشارات.
وفي ذلك الإطار، اشتملت كلماتي السطحية إلى حد ما، على أفكار من قبيل أن تلك الحرب جاءت مبررة قانونياً، خلافاً للتدخل في العراق، وقد شنت بالاشتراك مع عدد كبير من حلفائنا. وذكرت تكراراً أن الحرب في أفغانستان عادلة أيضاً، إضافة إلى كونها ضرورية بسبب استضافة حركة "طالبان" إرهابيي تنظيم "القاعدة" وكذلك وحشية تفسيرها الحرفي للإسلام، خصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع النساء.
عند التفكير في الأمر الآن، أرى أنه ربما توجب علي أيضاً أن أورد أفكاري الخاصة التي اعتبرت أن [مشاركتنا في تلك الحرب] لا تنم عن حكمة. تذكرت أنني درست الحوادث التي جرت في 1841 حين أبيد رتل بريطاني مؤلف من 16 ألف شخص، بينهم 4500 جندي، على يد جماعة تعتبر نسخة القرن التاسع عشر من "طالبان" حاضراً. لقد توجب علينا، نحن والأميركيين والروس، أن نتعلم من دروس الماضي.
لا أدعي أنني أعرف أفغانستان. لقد تجولت في أنحاء تلك البلاد كطالب، قبل ما يزيد على 50 عاماً، حينما نعمت بفترة سلام نسبي في ظل نظام ملكي، بينما تنافس الأميركيون والروس مع بعضهم بعضاً لكسب مزيد من النفوذ، ومدوا طرقات في طرفي البلاد. وما زلت أحتفظ باثنتين من الذكريات الباقية معي على الدوام. تتمثل الأولى في مدى إعجابي بجمال مسجد في "هرات" والتأثير المنوم الذي تركه عليّ الأذان في أوقاته المنتظمة، فيما جلست أقرأ وأفكر في ظلال المسجد الواقية أثناء تعافي أصدقائي في فندق قريب من حالة زحار [إسهال وحرارة بسبب أحد الطفيليات المعوية] عارضة أصيبوا بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتجسد الذكرى الثانية في عيون الرجال (إذ إن وجوه النساء كانت تختفي تحت البرقع). وفي أماكن أخرى في المنطقة، يتعامل الناس معك من خلال تعابير توحي بالصداقة، أو العداء، أو اللامبالاة أو الفضول. في المقابل، يتطلع الأفغان إليك كأنهم لا يشاهدونك أبداً، أو يتظاهرون بعدم رؤيتك. لم نكن نحن الأجانب بالنسبة لهم موضع ترحيب أو أهمية تزيد كثيراً عن الذباب الطنان. ولقد رأيت التعبير نفسه في عيون المقاتلين الذين أجريت مقابلات معهم هذا الأسبوع فيما كانوا يتباهون ببنادقهم في البلدات التي استولوا عليها. هل يدل ذلك التعبير على اللامبالاة أو الاحتقار؟
ثمة قليل من الشك في حجم الإذلال الذي لحق بالولايات المتحدة وبنا، من خلال الانهيار السريع للقوات المسلحة الأفغانية التي قدمنا لها السلاح ودربناها من أجل مواجهة وضع محتمل كهذا، وأيضاً بسبب التداعي السريع لنظام جاء نتاج عقدين من بناء المؤسسات الديمقراطية. لا شيء يرمز إلى خواء البنى التي أوجدناها هناك، أكثر من النزوح السريع للرئيس والوزراء والنواب أثناء زحف "طالبان" على العاصمة كابول.
ثمة فكرة قد تنبه المرء إلى حقائق خطيرة، مفادها أن هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان أسهمت في انهياره. واستطاع نظام نجيب الله الشيوعي البغيض الذي دعمه السوفيات أن يبقى بضع سنوات من خلال القسوة والمكر، عقب رحيل "الجيش الأحمر" السوفياتي. وخلافاً لذلك، لقد تداعى نظام "الديمقراطية الليبرالية" على الطريقة الغربية في غضون أيام.
هل يوجد أي وميض ضوء، مهما تناهى في الصغر؟ قيل لنا إن هناك حركة "طالبان جديدة وأنها أكثر حداثة، ليس بالضبط بمعنى أن أفرادها يتبنون الثقافة الغربية ويرتدون بزات رسمية، بل إنهم مقاتلون قادرون على إصدار بيانات صحافية والجلوس حول طاولة مباحثات. وتفيد تقارير أولية بأنه سيسمح للبنات بالذهاب إلى المدارس حتى وصولهن سن البلوغ. ويبقى ذلك مطمئناً للوهلة الأولى، إلى أن تبدأ في التفكير في آلاف الشابات اللاتي طردن فعلاً من الجامعات والمدارس الثانوية كي يتفرغن للزواج (القسري) ولأداء واجباتهن المنزلية.
واستطراداً، لم تتضح تداعيات تلك الكارثة حتى الآن، لكن يمكن تلمسها من خلال الذعر والفوضى كأنها صورة عليها مسحة ضبابية. هناك في أفغانستان أشخاص وضعوا ثقتهم في القيم والمؤسسات الغربية، وقد تركوا الآن لمصيرهم هناك. لقد "خدعوا"، كما ذكر روري ستيورات ]الوزير السابق[ (باعتباره واحداً من الغربيين القلائل الذين يتعاطفون بشكل حقيقي مع تلك البلاد).
وإضافة إلى ذلك، هناك الأثر الذي ستحدثه الكارثة على السياسة الأميركية أيضاً. ليس من شك في أن ترمب مهد الطريق لانسحاب الولايات المتحدة، لكن على غرار عدد من تجاوزاته وارتكاباته الأخرى التي لا تعد ولا تحصى، سينسى دوره أو يصفح عنه، من قبل ناخبيه. وسيتحمل الرئيس جو بايدن المسؤولية كلها.
في ذلك الصدد، يرى منظمو استطلاعات الرأي أن الناخبين الأميركيين ليسوا مهتمين بتلك البلاد البعيدة التي لا يكادون يعرفون شيئاً عنها سوى أنها مقبرة للقوات الأميركية. إلا أنني أظن أن تلك الواقعة المعيبة سيكون لها تأثير واسع على آراء الناخبين بشأن الرئيس. لقد باتت مصداقية تلك الإدارة [بايدن] أثراً بعد عين. وسيصبح تمرير التشريعات أكثر صعوبة مما مضى. وسيكتسب جناح اليمين الصاعد، المستوحى من ترمب، قسطاً من الزخم والانتعاش بسبب فشل أول وكبير للديمقراطيين بعد تسلمهم الحكم. ولا يمكن لتلك التطورات أن تشكل أخباراً جيدة بالنسبة إلى أميركا والعالم كله.
في تلك الأثناء، ستتعزز السردية المسموعة في بكين وأماكن أخرى عن أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، في حالة انهيار نهائي. هنالك الأزمة المالية، وترمب، والـ"بريكست"، والآن، ذلك الإخفاق العسكري والسياسي والتخلي عن الحلفاء. قد تميل الحكومات غير الصديقة إلى تجريب حظها في بعض حملات من شأنها أن تسلط الضوء بشكل أكبر على الضعف الأميركي في الخليج أو بحر البلطيق أو أوكرانيا أو بحر الصين الجنوبي. وبعد ذلك سيشعر الأميركيون برغبة في المبالغة برد الفعل بهدف إثبات أنهم لم يفقدوا الطاقة والحماس كحال من يتداعى فعلاً. ولذا، سيصبح العالم برمته مكاناً أكثر خطورة مما مضى.
ولا ننسى أن هناك جماعات إرهابية. ولقد عاد الرجال الذين خططوا لهدم البرجين التوأم في 11/9، أو على الأقل رجع الذين استطاعوا منهم البقاء على قيد الحياة طيلة عقدين مختبئين في كهوف أفغانستان أو في ملاذ ما في الحدود الشمالية الغربية مع باكستان. وبعد ما تمكن أولئك الرجال من ترسيخ نفوذهم، وكذلك نفوذ منافستهم "داعش"، في منطقة الساحل في أفريقيا وأيضاً في سوريا، شرعوا في العودة كي يرسوا قاعدة آمنة في بلاد يستطيعون التحصن فيها بشكل شبه كامل. ولا تشكل تلك المعطيات أخباراً حسنة بالنسبة إلينا أو إلى دول في المنطقة كالهند والصين وإندونيسيا وباكستان والفيليبين، صارعت الإرهاب الإسلامي بدرجات متفاوتة من النجاح والقسوة.
في سياق متصل، سيكون هناك لاجئون حتماً. هل سيكون عددهم مئات الآلاف؟ أم ملايين؟ يمكن أن يتحول التدفق المحدود الحالي إلى فيضان قريباً، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار باكستان وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى القريبة كطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان. وكذلك ستفيض بهم تلك الدول وسيتدفقون على تركيا التي أوضحت أنها لا تريدهم، وبالتالي ستحولهم إلى أوروبا الغربية التي سيدخلونها حيثما يستطيعون اجتياز الأسوار التي تحيط بدولها.
وحين يصل أولئك اللاجئون إلى ميناء "كاليه" في فرنسا، ستحاول عائلات على متن زوارق صغيرة خرق الحصار الذي فرضته [وزيرة الداخلية بيرتي] باتيل، كي تتمكن [العائلات] من الوصول إلى شواطئ المملكة المتحدة فتلتحق بأقرباء وأصدقاء ممن حصلوا على حق اللجوء.
في المحصلة، تلوح في الأفق معضلة أخلاقية محيرة أيضاً. هل سنسمح لأولئك الناس أن يأتوا ويعيشوا هنا كي ينجوا بأرواحهم، تماماً على غرار ما فعلنا حين أرسلنا قواتنا كي تموت من أجل حمايتهم في وطنهم؟
إذا حاكمنا المسألة على أساس رفض الحكومة إصدار تأشيرات دخول لمصلحة موظفي "المجلس البريطاني" [في أفغانستان] بعد أن باتوا معرضين للخطر بشدة، سنخلص إلى أن البوصلة الأخلاقية للحكومة موجهة بصرامة في الوجهة التي يرضى عنها الناخبون المحافظون الذين تقول لنا شركة "يوغوف" لاستطلاعات الرأي إنهم يعتبرون "الهجرة" التحدي الأكبر للبلاد.
وتفيد شائعات بوجود تصميم لدى الوزراء لمصلحة البقاء في أفغانستان حتى بعد رحيل الأميركيين عنها. وربما يعود هذا التصميم المفترض إلى الاعتبارات السياسية من النوع الآنف الذكر، أو إلى الإحراج المحض لكون مئات الجنود البريطانيين قد أرسلوا كي يموتوا في أفغانستان، ومع ذلك لم يلبث "العدو" أن عاد وهيمن على البلاد كلها في غضون أيام من مغادرة القوات الأميركية. هل يمكن أن نبقى هناك إلى جانب أصدقائنا الفرنسيين؟ لعلهم [أولئك الوزراء] قد نسوا أزمة السويس [فشل تدخل عسكري بريطاني وفرنسي في حل مشكلة قناة السويس سنة 1956]، أو ربما غابت الـ"بريكست" عن بالهم؟
بالنتيجة، ثمة حقيقة كريهة تتجسد في أن "بريطانيا العالمية" تفعل ما يطلب منا الأميركيون فعله، لا أكثر ولا أقل. ومع صدور التعليمات [الأميركية] هذا الأسبوع لنا، بـ"الركض"، يحز في القلب شعور مأساوي لا يغتفر بأن أولئك الذين خدموا وماتوا على امتداد العقدين الأخيرين، قد فعلوا ذلك كله عبثاً.
© The Independent