ينظر عادة إلى رواية "حروب العالم" الضخمة باعتبارها واحدة من أقوى نتاجات الأديب البيروفي الحائز على جائزة "نوبل" الأدبية ماريو بارغاس يوسا. بل إن البعض يجدها في قوة الرواية الأكبر في الأدب الأميركي اللاتيني، "مئة عام من العزلة" لماركيز. غير أن ما لا يعرفه كثر هو أن يوسا ليس مؤلف هذه الرواية بالمعنى الدقيق للكلمة. وذلك لأن لهذا النص الذي يمتد على نحو سبعمئة صفحة أصلاً تاريخياً حقيقياً يعود إلى بدايات القرن العشرين بحيث يمكن القول، إن يوسا إنما "أعاد كتابة ذلك النص" معطياً إياه ذلك الشكل الروائي الذي كان يود في الأصل استخدامه كأساس لمشروع سينمائي لم يكتمل.
الصحافي شاهد عيان
طبعاً حين نقول هذا لا نعني أن "حروب نهاية العالم" ليست رواية تحمل لغة يوسا وأسلوبه بل تعكس حتى تعامله البديع مع الحبكات التاريخية، ما نحاول أن نقوله هو أن للرواية التي نعرفها ذلك الأصل الذي دوّنه خلال اندلاع الحرب التي يتحدث عنها الكتاب صحافي عايش الحرب وشارك فيها ودوّن يومياته بشأنها قبل عقود من ولادة يوسا ليصدرها في كتاب لا يمت أصلاً إلى الأدب الروائي بصلة حقيقية لكنه في الحقيقة يُقرأ كرواية بديعة، خصوصاً بالنسبة إلى الذين كانوا قد قرأوا رواية يوسا ولاحظوا بقوة كيف أن الأخير أفرد مكانة مهمة فيها، تكاد تكون مكانة البطل والراوي لتلك الشخصية الظريفة المقدامة التي سيقول لنا التاريخ لاحقاً إنه هو من دون تاريخ تلك الحرب واعتمد يوسا على مدونته هذه ليطلع برواية الحرب تلك. وهنا لكي لا يبدو كلامنا هذا نوعاً من الكلمات المتقاطعة لا بد أن نتوقف لا عند رواية يوسا، بل عند الكتاب التاريخي الذي أعيد إصداره قبل سنوات في أصله البرتغالي وترجم إلى لغات عديدة كاشفاً كل الحكاية.
بين السرقة والاستلهام
وهنا قبل أن يتبادر إلى الذهن أن يوسا قد "سرق" الحكاية وادعاها لنفسه، لا بد من إشارتين "تبرئانه": أولهما ما قلناه أعلاه من أنه أعطى المؤلف الأصلي مكانة أساسية في الكتاب من دون أن يعطيه اسماً، وثانيتها أنه منذ البداية أوضح مهمته، في إهدائه الكتاب إلى "إقليدس دا كونيا، في العالم الآخر ونيليدا بينيون في هذه الحياة الدنيا". ولنوضح هنا أن كونيا المذكور هو المؤلف الحقيقي للكتاب التاريخي. وهنا لا بد طبعاً من المزيد من التوضيح الذي يتمثل في أن الكتاب التاريخي الواقع في 650 صفحة وصدر قبل نحو عقد من الآن مترجماً إلى أكثر من لغة عن أصله البرتغالي عنوانه "الأراضي العالية، حرب الكانودوس" يحمل توقيع إقليدس دا كونيا، وكان قد صدر للمرة الأولى عام 1902 ولقي يومها إقبالاً كبيراً حتى وإن رويت فيه أحداث بالغة الغرابة نقلها شاهد العيان الذي كانه المؤلف وهو صحافي كلفته صحيفته بالتوجه إلى تلك المنطقة من البرازيل التي وقعت فيها واحدة من أغرب الحروب في تاريخ هذا البلد.
والكتاب أصدره كونيا في ذلك الحين على شكل تاريخي، لكنه كتبه كنوع من "سيرة ذاتية"، ذلك أنه كان هو نفسه كما قلنا، جزءاً من الحدث، عايشه مندمجاً مع أطرافه الرئيسية ليكون واحداً من قلة من أفراد خرجوا منها سالمين. ولكن لئن كان يوسا قد جعل من كونيا في الرواية الوحيد الذي لا اسم له، فيسمى فقط "الصحافي قصير النظر"، فلماذا؟ وما الذي يرويه هذا الصحافي في نهاية الأمر؟
دفع القارئ إلى الحياد
ما يرويه في الحقيقة قصة حرب قد تكون خصوصيتها البرازيلية فاقعة. غير أن موضوعها يبدو أرحب من ذلك بكثير. يبدو موضوعها، وحتى في بعض أعمق تفاصيله، صالحاً حتى لتفسير "حروب" من هذا النوع تدور في أيامنا هذه. ففي نهاية الأمر نجد أنفسنا هنا أمام تصوير تاريخي للعبة الصراع بين العقل واللاعقل، بين منطق التقدم والخرافة، بين مجانين الماوراء والساعين، ولو بالبطش، إلى الدفاع عن قيم الديمقراطية وفقط حين تكون من مصلحتهم ضد دولة يصفونها بأنها ديكتاتورية كافرة.
صحيح أن هذا كله يبدو واضحاً في سياق الرواية، غير أن المسألة في نهاية الأمر تبدو أكثر عمقاً بكثير إن نحن تفحصناها في الكتاب التاريخي. ولعل هذا العمق هو الذي يجعل هذا العمل، عملاً مضاداً للأيديولوجيا حيث من المستحيل على القارئ، وهو يتنقل بين الفصول أن يندفع إلى الوقوف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك فيها.
حتى الجنود إنسانيون
ليس هذا لأنه لن يعرف كيف يحسم أمره، ويختار موقعه بين الطرفين المتقاتلين، بل لأن الكاتب حين يتنقل بين أجواء الفريقين، لا يعرض وجهة نظره حول مواقفهما، بل يلجأ إلى لعبة (ثلاثية) إذ ينقل الأخبار والآراء والمواقف، على لسان الشخصيات المشاركة وكل من وجهة نظره الخاصة. وهذا الشكل الذي عرف يوسا كيف يشتغل عليه بقوة في روايته سنجده أقوى تعبيراً في النص التاريخي حيث تتحول الشخصيات التي يفترض أنها آتية من حقائق التاريخ، إلى أشخاص من لحم ودم. إنهم أناس يجلسون بيننا، نشاركهم مخاوفهم وآمالهم الفردية والجماعية. وحتى الجنود الذين اعتيد أن يقدموا في هذا النوع من الآداب التاريخية، كتلاً من الأزياء والأسلحة والتجهم، نراهم هنا بشراً يحبون ويحلمون ويخافون ويحاربون ويموتون كبشر. ومن هنا، ما إن يندفع القارئ في التعاطف مع فريق ما، حتى يجد نفسه بعد صفحات قليلة، جزءاً من الفريق الآخر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرشد الثورة ضد الجمهورية
ولكن من هم هؤلاء جميعاً؟ وماذا يفعلون هنا؟ إنهم برازيليو السنوات الأخيرة قبل بداية القرن العشرين: من ناحية أنصار الجمهورية الوليدة قبل سنة واحدة إثر انقلاب جمهوري أطاح ملكية آل براغانسا، بمن فيهم الأحزاب المتنازعة وسكان المدن والتجار والمثقفون. ومن ناحية ثانية أنصار "مرشد الثورة" وهو "مسيح معاصر" يزعم أنه مبعوث العناية الإلهية لخلاص البشر قبل حلول نهاية العالم التي حدد موعدها في عام 1900، أي بعد ثلاثة أعوام من تاريخ اندلاع الأحداث. وعلى الرغم من أن هذا "المرشد" يشكل مركز الاستقطاب ومحور الموضوع، فإننا نكاد لا نعرف عنه شيئاً، سوى اسمه: أنطونيو كونسلييرو، واللون الأرجواني لعباءته الكالحة، وكاريزماه الهائلة التي راحت تزداد يوماً بعد يوم في أوساط حثالة الحثالة من أبناء المناطق الفقيرة والمحرومة بالقرب من باهيا.
صحيح أن "المرشد" كان يتجول ويبث أفكاره في شمال البرازيل منذ عقود، لكن حوارييه ظلوا قلة قليلة، حتى إعلان الجمهورية. فقد انطلق على الفور معادياً لها، معتبراً إياها مؤامرة "ماسونية – بروتستانتية" كافرة معادية لله وللمسيح، عازمة على إعادة نظام الرق والنظام المتري وفصل الدين عن الدولة. وهكذا بعد ما كانت دعواه "أيديولوجية" قابلة للانتشار المحدود أول الأمر، تحولت الآن إلى دعوة اجتماعية تستند أساساً إلى فكرة إعادة الملكية بوصف الملك ذا حق إلهي. فراح أتباعه يتضاعفون في شكل مرعب، البائسون وقطاع الطرق. المجرمون والعبيد السابقون. المزارعون المطرودون من أراضيهم وعاهرات الأسواق العمومية كل أنواع الحثالة. من الذين التحقوا به لتأسيس إمارة إلهية في مدينة كانودوس.
ثورة مضادة
ما يصفه لنا كونيا في كتابه هو في نهاية الأمر "ثورة مضادة" يقوم بها من يمكن اعتبارهم أعداءً للتقدم وللدولة ومشروعها بما في ذلك اشتغالها على الحقوق المدنية والزواج المدني، انطلاقاً من فكرة تبسيطية ترى في كل أفكار التقدم نشاطاً هداماً يقوم به عدو المسيح. ومن هنا من الواضح أن ما نشهده ليس سوى الصراع الأزلي بين الحضارة والهمجية، ولكنه صراع مقلوب هذه المرة: فالهمجيون هم الثوار بينما الدولة الجمهورية المدنية هي هنا من يمثل الحضارة والمصالح الاجتماعية. وفي هذا السياق تبدو ذات دلالة تلك اللفتة التي يشير إليها كونيا ولو بشكل عابر في كتابته تاريخ تلك الحرب التي انتهت بالقضاء على "المرشد" وثورته بعد ثلاث حملات بالغة العنف، لكن يوسا يركز عليها في روايته إلى ذلك المنظر الماركسي الاسكتلندي الذي، دون خلق الله جميعاً من المشاركين في الأحداث يقف إلى جانب "ثورة المحرومين" معتبراً أنها تستجيب للمعايير الماركسية دون أن يرف له جفن!