لا يزال موقف موسكو تجاه ما يحدث في أفغانستان غامضاً ويحمل كل الاحتمالات، ففي الوقت الذي سارعت فيه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية إلى إجلاء رعاياها من كابول بعد سقوطها في أيدي "طالبان"، أعلن السفير الروسي دميتري جيونوف، أنه سيجتمع مع قادة الحركة، فيما هي تقوم بتأمين المجمع الروسي في العاصمة الأفغانية.
وعلى الرغم من أن موسكو استضافت مسؤولين من حركة "طالبان" في عام 2018، وعقدت محادثات سلام بين الطرفين دون الوصول إلى نتائج إيجابية أو تقدم يذكر، إلا أن تلك البادرة منحت الروس فرصة للخروج كمنظم مبادرة دبلوماسية، امتدت مع تعدد اللقاءات بين مسؤولين روس بشكل دوري مع أعضاء "طالبان" في العاصمة القطرية خلال السنوات الماضية.
وقال المبعوث الروسي الخاص إلى أفغانستان زامير غابولوف الشهر الماضي، "بفضل الحوار الروسي المستمر منذ عدة سنوات مع طالبان، يمكن لموسكو الآن التحدث مع أي من القوات في أفغانستان على عكس الغرب". بالتالي من المرجح أن يركز الكرملين مجدداً على الهيمنة الدبلوماسية والعسكرية في منطقة نفوذه في آسيا الوسطى ومحيطها الأفغاني، ما يجعل روسيا واحدة من أكثر دول العالم استعداداً لقطف ثمار الانسحاب، ربما أكثر حتى من واشنطن التي حاولت أن ترتب اتفاقاً مع الغريم المتشدد في أفغانستان عن طريق الدوحة.
يبقى الخوف من المتطرفين
لكن تسارع الأحداث دفع الرئيس الروسي إلى إطلاق تحذير أكد فيه أخيراً أن الصراع في أفغانستان "يؤثر تأثيراً مباشراً على الوضع الأمني في روسيا."
وانتقد بوتين بحسب وكالة "رويترز" فكرة قيام بعض الدول الغربية بإرسال لاجئين من أفغانستان إلى دول آسيا الوسطى المجاورة لحين النظر في تأشيرات دخولهم إلى الولايات المتحدة وأوروبا.
وتحذيرات بوتين لم تشكل هاجساً له خلال سنوات التقارب مع "طالبان"، فبحسب دراسة بعنوان "كارثة بايدن في أفغانستان"، لمعهد واشنطن لسياسات الشرق، فإن موسكو فتحت خط اتصالات مع الحركة منذ 2007.
وعلى الرغم من تصنيف "طالبان" منظمة إرهابية رسمياً في روسيا، فإن الدراسة تشير إلى أن مسؤولين عسكريين أميركيين وأفغان كبار لفتوا إلى أن دعم موسكو تجاوز في وقت ما الدبلوماسية ليشمل توفير الأسلحة.
عدم التعارض
واليوم يغلف الغموض الدبلوماسية الروسية في التعامل مع ملف أفغانستان، فهي تعمل في اتجاهين مختلفين أولهما التواصل مع "طالبان"، والثاني التوسع في التدريبات العسكرية مع طاجيكستان على طول الحدود الأفغانية.
وبحسب تقرير لصحيفة "واشنطن بوست"، فإن روسيا لا تزال تحمل ذكريات مريرة عن الاحتلال السوفياتي الفاشل في الثمانينيات والانسحاب بعد أكثر من تسع سنوات، واليوم ترى منافستها، الولايات المتحدة، تواجه المصير نفسه، وهذا يجعلها ترى إمكان لعب دور أوسع لعلاقاتها ونفوذها مع "طالبان"، ولكن بحذر، إذا أخذت في الاعتبار مخاطر عدم الاستقرار الإقليمي أو التطرف الذي يمكن أن تنزلق فيه كابول مرة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي السياق ذاته، توقعت المحللة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، إيلينا سوبونينا، أن "طالبان" لن تكون قادرة على ضمان الاستقرار في أفغانستان. في حين يرى المحلل في مجلس الشؤون الدولية الروسي كيريل سيمينوف، أن "طالبان" قد تنقسم بين أولئك الذين يسعون إلى نهج أكثر تطرفاً وتشدداً والذين يتخذون موقفاً أكثر ليونة. وقال "هناك احتمال بأن يبدأ الصراع من أجل تقسيم مناطق النفوذ داخل "طالبان" نفسها، وهذا ما يجب أن نقلق بشأنه".
آسيا الوسطى هذي القضية
القلق الروسي مما ستؤول إليه الأمور في كابول، أشار إليه الرئيس الروسي في تصريحات له أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2020، بقوله "أعتقد حتى يومنا هذا أن وجود الأميركيين في أفغانستان لا يتعارض مع مصالحنا الوطنية"، مضيفاً أن الانسحاب الأميركي يثير عديداً من المخاطر بالنسبة إلى روسيا. لكن وزير الخارجية سيرجي لافروف وصف الشهر الماضي "طالبان" بأنها "عاقلة"، فما ستؤول إليه الأمور في آسيا الوسطى هو قضية موسكو الأولى.
كان هذا جلياً في تصريحات لافروف، الذي أضاف "هم أشخاص لا يخططون لخلق مشكلات في آسيا الوسطى". ويرى أنهم الذين سيحاربون "داعش" بلا هوادة، أما نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي كونستانتين كوساتشيف، نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي فيرى، أن الولايات المتحدة ليس لديها أي أساس لادعاء القيادة في ما يتعلق بالاستيطان الأفغاني.
كما اقترح وزير الخارجية الروسي أن "الوجود الأميركي الجديد في آسيا الوسطى خارج أفغانستان سيجعل الحلفاء الروس رهينة للسياسة الأمريكية في الواقع".
وفي حين حذر نائبه سيرجي ريابكوف، الولايات المتحدة من نشر قواتها في آسيا الوسطى بعد الانسحاب من أفغانستان، التقى بوتين زعماء آسيا الوسطى ومجلس الأمن الروسي وأجرى تدريبات عسكرية على الحدود الأفغانية.
ويمكن القول، إن الانسحاب الأميركي من كابول لم يترك أمام بوتين خياراً سوى خيار واحد، هو ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، وهو الذي أيد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان منذ البداية عام 2011، لكن دعمه كان مشروطاً في نهاية المطاف. وفي عام 2009، ضغطت موسكو على قرغيزستان لإغلاق قاعدة ماناس الجوية التي كانت الدولة تؤجرها لواشنطن. كان الوجود الأميركي في آسيا الوسطى يقلق موسكو على الأقل بقدر ما يقلق تهديد "طالبان". لم يرغب بوتين في وجود قواعد أميركية في هذه المنطقة، التي تعد "نقطة ضعف" روسيا التاريخية.
وعلى مر السنين عملت موسكو على بناء نفوذها في أفغانستان لاعتبارات أمنية.
وأشارت الدراسة إلى أنه مع التغيرات الجوهرية على الأراضي الأفغانية سيركز بوتين على التأكد من أن ما يحدث لا يؤثر على مصالح الكرملين، بل وسيجعله يبدو جيداً، لا سيما وأن موسكو ترى أن بالإمكان أن ينمو نفوذها في كابول مع المتغيرات الحالية، على الرغم من تأكيدها على لسان وزير خارجيتها الأسبوع الماضي، أنها لن تتسرع في الاعتراف بحكومة "طالبان"، وأنها ستراقب تصرفات السلطات الجديدة عن كثب لتتخذ القرار.