يتميز الكاتب المصري النوبي حجاج أدول (1944) بتنوع إنتاجه الأدبي وغزارته، فهو يكتب الرواية والقصة القصيرة والمسرح، فضلاً عن النقد الفني، متكئاً على ثقافته النوبية أولاً، هو المولود في مدينة الإسكندرية لأسرة نوبية خالصة، التي انطلق منها إلى آفاق إنسانية، باتت سمة غالبة على كثير من أعماله الإبداعية عبر لمسات سحرية لها أصل في التراث النوبي، وحكايات "ألف ليلة وليلة"، وغير ذلك من تجليات آداب ثقافات مختلفة في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية. ومع ذلك فإنه يصر (كما يقول) على ألا يكون سوى نفسه، بل ويرى أنه لا ينافسه أحد، عبر حرصه على تقديم جديد في كل عمل أدبي يصدر له، خصوصاً عبر إنتاج أساطير يعتبرها من بنات مخيلته الخاصة، حتى لو استدعت إلى الذاكرة أساطير مشابهة، على نحو ما، من هنا أو من هناك. وتشمل قائمة إنتاجه الغزير على مدى ما يزيد على 35 عاماً، كثيراً من الأعمال "النوبية"، من أشهرها مسرحية "ناس النهر". وله أيضاً ثلاثية روائية تستدعي فترة حكم المماليك لمصر، تضمنت روايات "خوند حمرا"، "ثلاث برتقالات مملوكية"، و"كديسة". وفازت روايته "معتوق الخير" بجائزة ساويرس، فئة كبار الكتاب، عام 2005، كما فازت مجموعته القصصية "ليالي المسك العتيق" بجائزة الدولة التشجيعية" عام 1990. وعلى خلفية نشاطه المتعلق بحقوق أهل النوبة، أختير ليكون عضواً ممثلاً للنوبيين في "لجنة الخمسين" التي أوكلت إليها مهمة إعداد دستور مصري جديد عقب إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في صيف عام 2013.
حجاج أدول ينافس حجاج أدول، هذا ما خطر على بالي وأنا أرى توالي صدور كتب له في فترة زمنية وجيزة، فهل يوافقني في هذا التصور، أم أن لديك ما يدحضه؟ يقول ردا على السؤال: "هذه ملاحظة ثاقبة. أنا هكذا من بداياتي. ربما ساعدتني ظروفي الخاصة، فأنا بدأت الكتابة الأدبية في الأربعين، فإلى أي جيل أدبي أنتمي؟ هل لجيل الثمانينيات الذين بدأت النشر معهم؟ أم لجيل الستينيات / السبعينيات وأنا أنتمي إليهم بالمولد؟ لا هذا ولا ذاك. أمر آخر، الكتابة في سن متقدمة تعطي الفرصة للأديب لأن يكون كما هو، وتجعل تأثره بالغير جد يسير. أمر إضافي، بداية نشر قصصي كانت في مجلة "إبداع" القاهرية، التي كانت في ثمانينيات القرن الماضي، أهم مجلة أدبية في الشرق الأوسط، عندما كان يتولى رئاسة تحريرها الناقد عبد القادر القط. عندما نشرت لي، تيقنت أنني أديب بحق، فأصررت على أن أكون نفسي، وساعدني على ذلك زخم متنوع في جعبتي".
أدب إنساني
سؤتل بسيط لا بد من طرحه: هل تفضل وصف أدبك بأنه نوبي؟ فيجيب: "قطعاً لا. فأدبي النوبي رافد من نهر متدفق. رافد من الأدب المصري الإنساني المكتوب باللغة العربية. فهل نقرأ شكسبير على أنه إنجليزي؟ ديستويفسكي على أنه روسي؟ غبراييل غارثيا ماركيز على أنه كولومبي؟ نقرأ لهم ولغيرهم على أنهم مبدعون إنسانيون، يبدعون لكل مكان وزمان، للبشر. إذاً، أنا أدبي أولاً أدب إنساني، تتفرع منه أفرع عدة منها النوبي".
أذكره بأن أحد أصدقائه قال عنه أنه كان ثائراً ككل نوبى مخلص لنوبيته ولم يطالب أبداً بانفصال النوبة عن مصر، لكنهم اعتبروه كذلك، وتم وضعه في ثلاجة النسيان... هل لا يزال هذا الوضع قائماً؟ يرد: "منذ سنوات بعيدة، أطلقت شعار "النوبة وصل لا فصل" وكتبت أن النوبة هي الـ "واو" التي تجمع مصر "و" السودان، السودان "و" مصر. وقلت وكتبت أن المدخل الأساسي لمصر جنوباً هو النوبة، فنحن الصلة الأنسب والمقبولة من شمال القارة وجنوبها. والكل فخور بحضارتها. ولا ننسى أن ثوابت الجغرافيا تقول هذا، ومعطيات التاريخ تؤكده. وكتبت أكثر من مقال حددت فيه أسس التقارب المصري في البعد الجنوبي فقلت، أولاً النوبة. ثانياً الدينان الإسلامي والمسيحي، فملايين في الجنوب يدينون بهما. ثالثاً ميراث عبد الناصر المبجل في الجنوب. رابعاً القوى الاقتصادية التي تربط مصلحياً بين الشعوب جنوبها وشمالها. بحيث أن شعوب منابع النيل مثلاً، تحبنا أولاً، وثانياً لمصلحتها أن تحافظ على تدفق مياه النيل شمالاً، أي الحب والمصلحة. والبعض يقول المصلحة أولاً. وهذا موضوع عميق. وخلال تسعينيات القرن الماضي، كتبت خطاباً لوزير الثقافة وقتها الفنان فاروق حسني، طالبت فيه بتقليد فكرة مشروع "أصيلة" في المغرب الذي يجمع ما بين الشمال الأوروبي وأفريقيا، فنجعل المنطقة النوبية مجالاً يربطنا بأفريقيا جنوباً، ثقافياً، تدرس فيه اللغات والعلوم والفنون الأفريقية، مثلاً، مهرجان المسرح الأفريقي والسينما الأفريقية، أولمبياد للرياضات الشعبية. ميدان مانديلا، شوارع لومومبا ونكروما، كلية نجيب محفوظ، ومكتبة تشينوا أتشيبي. مسرح المطربة الثائرة مريم ماكيبا. إستاد أفريقيا... الخ. ثم نُزُل بسيط مفتوح لأي فنان أفريقي يأتي ويقيم فيه بأسعار رمزية. والعمارة كلها عمارة نوبية، والمحتوى مصري أفريقي عام، بما فيه من البند النوبي. تحمس الفنان فاروق حسني ووعد بالتنفيذ، لكن المشروع مشروع دولة لا مشروع وزارة، فتم وأدُ الفكرة في عهد حسني مبارك. ثم الآن وبعد أكثر من ربع قرن وتفجر قضية سد النهضة، بدأت مصر تفكر جنوباً، ولكن لم يذكر أحد المساعي المبكرة التي بذلتُها في هذا الصدد".
موهبتي أنقذتني من التهميش
أسأله: هل تعتقد حقاً أن هناك من يصر على تهميشك ككاتب؟ يوضح: "المناخ العام أقرب إلى السلبية، مع الاعتراف بإيجابيات لا تنكر. ومن السلبيات رفض المبدعين الحقيقيين، والعمل على إفشالهم. ينجحون مع البعض، لكن يفشلون مع الموهوبين المصرين على الإنتاج المستمر، فتضطر جحور السلبيات إلى الاعتراف بهم. والإيجابيات الثقافية تعمل على حماية المبدعين وتشجيعهم، وأنا تعرضت للسلبيات وشجعتني الإيجابيات. ربما كانت محاربتي زائدة قليلاً بسبب عدم انتمائي للجماعات "الشللية"، وأساساً بحجة مناداتي بحقوقي النوبية".
المتتبع لأعمال أدول الأدبية يجد أنها انطلقت من الهم النوبي، إذا جاز التعبير، لتتجاوزه إلى آفاق إنسانية عابرة للإثنيات، فهل يمكن القول إن هذا ميزه على الكتاب النوبيين الآخرين مثل إدريس علي ويحيى مختار، وميزه كذلك بين مجايليه عموماً؟ يجيب: "بدأت بالكتابة للإنسانية عموماً، لكن كتابي الذي نُشر أولاً كان عن النوبة (ليالي المسك العتيقة) الذي فاز بجائزة الدولة التشجيعية عام 1990، ومن هنا ظن كثيرون أن بدايتي نوبية. أما عن إدريس علي ويحيى مختار وهما نوبيان، فأولهما موهوب في القصة القصيرة والرواية، والثاني موهوب في القصة القصيرة. لكنهما لم يكونا فاعلين في القضية النوبية بالدرجة الكافية، وبعدما أثرت قضية الحقوق النوبية بقوة لفتت الأنظار، وحظيت بتأييد النوبيين واحترامهم، هاجماني بشراسة تشكيكاً في وطنيتي المصرية، ولم تكن الوطنية هي الأساس، بل هي المنافسة الأدبية من ناحيتهما، فأنا كما قلتُ، لا أنافس أحداً، وأضيف أنه بعد إنتاجي العزيز الذي تناول النوبة، ومعركتي الاستنزاف عقب هزيمة 1967 والعبور (1973) اللتين شاركت فيهما، وتجوالي في العصر المملوكي، وسياحاتي الأدبية من أقصى الشرق في اليابان والصين، آتياً للهند وتركيا ثم البحر الأبيض، حيث جمعت مارسيليا والإسكندرية، ثم القفز لأميركا الجنوبية وحضارتي الأزتيك والمايا، والغوص في عوالم شهرزادية... الخ: أقول بثقة لا غرور فيها، أنا لا أنافس أحداً، وأيضاً لا ينافسني أحد".
زمن الرواية
أسأله عن فن الرواية لديه: سبق أن قلتَ، ما الرواية إلا حكي فني لذيذ، وداخل هذا الحكي اللذيذ ينابيع متعددة من اللذائذ، منها تعدد النماذج البشرية، وبيان عواطفهم المتباينة، ومنها الحوادث المتوقعة والصادمة، الهزليات والمآسي، ومنها الخبرات، ومنها الفكر، وأيضاً منها ما لا يُصنف، وأحلاها هو ما لا يُصنف، ما هي الأعمال الروائية التي كتبتها وتضعها في خانة "ما لا يُصنف"؟ فيجيب باختصار تام: "كل إنتاجي الأدبي، فيه جانب لا يُصنف".
هل يرى أدول أننا نعيش زمن الرواية، كما يقول بذلك الناقد جابر عصفور؟ يقول:"نعيش زمن الرواية بالفعل، وأكيد سيأتي زمن يتصدر فيه نوع أدبي آخر، فتكون الرواية موجودة لكنها ليست في الصدارة كما هي الآن، فهل في عصر الرواية تم حجب الشعر أو القصة القصيرة أو المسرح؟ الحراك الأدبي لا يتوقف".
وعودة إلى خزين ذكرياته أسأله: "سبق أن قلتَ، "مصر في حقيقتها تنويعات من الحلاوة من أقصى الجنوب لأقصى الشمال ومن سيناء لمطروح وما بينهما... النوبة كانت جميلة بدرجة مدهشة وبكل أسف أغرقوها بقسوة لم يكن لها داع، على الأقل كانوا "طلعوهم لفوق زي ما عملوا مع المعابد"، وكلمة فوق معناها مسطحات على الأقل فيها مليون ونصف مليون فدان قابلة للزراعة"، هل تعتقد الآن أنه ما عاد هناك أمل في أن يلتئم النوبيون المصريون مجدداً في نطاق جغرافي يخصهم؟ يقول ردا: "الأمل يخبو أحياناً عند نسبة من النوبيين، لكنه موجود دوماً. ستتحقق العودة، لأن نسبة المصريين الذين يتعرفون على مأساة "نوبتهم" المصرية، تزداد يوماً بعد يوم. يبقى أن نجد حكومات تعي أهمية النوبة بالنسبة إلى مصر. وقتها سيبدأ الأمل في التحقق".
كيف يشعرأدول تجاه المتابعة النقدية لإنتاجك الأدبي؟ يقول: "أنا لا أشكو، ففي الشكوى انحناء. فقط أركز على كتاباتي".
حالة سكندرية خاصة
أسأله عن إمكان اعتباره من زاوية ما، من الأدباء السكندريين، بحكم نشأته وإقامته في الإسكندرية التي جاء منها إدوار الخراط وإبراهيم عبد المجيد ومحمد حافظ رجب ومصطفى نصر ومحمد جبريل، ومن قبلهم داريل وكفافيس، فيوضح: "أنا حالة خاصة، سكندري من أقصى شمال الوطن، ونوبي من أقصى جنوبه. أعشق سكندريتي ومتألم من مآسي "نوبتي". أدبي خاص بي، علماً بأن الأدباء السكندريين كلهم أتوا من الأقاليم، وانقطعوا عن أقاليمهم الأساسية، أنا نوبيتي مستمرة، لذا أدبي له نكهة خاصة. والنكهة الخاصة مصرية في أساسها، بعكس داريل وكفافيس، فنكهتهما الخاصة أوروبية. وعلى كل لا يهم أي تصنيف، السؤال الحقيقي، هل المكتوب أدب جيد أم لا؟".
ولكن إلى أي مدى انعكست سكندرية أدول على إنتاجه الأدبي المتنوع والغزير؟ يقول: "أول مسرحية لي "النزلاية" أحداثها سكندرية ترصد عصر الانفتاح وما فعله في المجتمع السكندري. وروايتي "كَديسَة" تقع أحداثها بين الإسكندرية ومارسيليا، وهي جديدة تماماً في تناولها للإسكندرية. لكن معظم إنتاجي يركز على الإنسانية عموماً، فلا تركيز لا على الإسكندرية ولا على النوبة".
هل يتابع إنتاج الأجيال الجديدة من الروائيين وكتاب القصة القصيرة؟ يقول: "تقدمي في العمر، مع بعض الرتوش المرضية، قلل كثيراً من متابعاتي بكل أسف".
هل يمكن القول بأن أدول ليس آخر الكتاب النوبيين، إذا نظرنا إلى أعمال كتاب مثل سمر نور وشريف عبد المجيد وياسر عبد اللطيف؟ يرد: "لا يوجد آخِر. يوجد أول. فبداية الأدب النوبي المعاصر المكتوب بالعربية، ترجع إلى عام 1948 بديوان "ظلال النخيل" للشاعر عبد الرحيم إدريس. ثم الموجة الثانية عام 1967، برواية "الشمندورة" لمحمد خليل قاسم. ثم الموجة الثالثة عام 1989 بمجموعة "القمر بوبا" لإبراهيم فهمي. أي أن النبع النوبي مستمر، وستكون كل موجة لها مذاقها الخاص، حسب العصر وحسب المعطيات النوبية الجديدة".
تأثير السينما
أطلب منه أن يحدثنا عن تأثير السينما في إبداعك، فيستطرد: "قبل سن السادسة، وأنا مدمن مشاهدة الأفلام. وأصبحتُ حكَّاء الأطفال، أشاهد الفيلم وأحكي لهم. وحين كبرنا كانوا يسألونني مندهشين، كنتَ صغيراً لا تستطيع قراءة الترجمة العربية للفيلم، ولا تعرف الإنجليزية، فكيف كنتَ تحرف قصة الفيلم وتحكيه لنا؟! فتكون إجابتي، وكيف كنتم تصدقونني وتحثونني على مواصلة الحكي؟ إنها مخيلة الأطفال التي ليس لها حدود. ثم استمر عشق السينما حتى الآن. ومن عشقي للسينما المستمر، تأثرت كتاباتي بالصورة السينمائية، وهذا واضح في إنتاجي الأدبي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حصل ادول على منحتي تفرغ من المجلس الأعلى للثقافة، لينجز رواية "معتوق الخير"، ثم رواية "خوند حمرا"، فإلى أي مدى يرى أن تلك المنحة مفيدة للكاتب عموماً في الوقت الراهن، وهل لديه ملاحظات على تجربته في هذا السياق؟ يقول: "منحة التفرغ بالنسبة إلي كانت طوق نجاة. "معتوق الخير" أخذت مني تسع سنوات. ولم تكن تأخذ أكثر من خمس سنوات، لولا ضيق ذات اليد. فحين تجف الموارد ويجف الزيت في البيت، فكيف أستمر في كتابة رواية تخطت الألف صفحة من القطع الكبير؟ وهذا ما كان مع رواية "خوند حمرا"، فصفحاتها تخطت الخمسمائة.
أسأله: "رواية "ليالي المسك العتيق" تُرجمت إلى الإنجليزية، فماذا عن حال أعمالك الأخرى مع الترجمة؟ يرد بسرعة تخفي مرارة: "ربما تكون مثل "في انتظار غودو".
هل تلجأ إلى الرمز لتتجنب الصدام مع السلطة؟ أسأله، يقول: "كتبتُ قصصاً ضد إسرائيل في وقت كان هذا تحدياً. أما رواية "خوند حمرا" وهي عن العصر المملوكي، ففيها إسقاطات على السلطة، ولا أعد هذا تجنباً للصدام، ففعلاً عصر المماليك يعيد نفسه، سواء رضينا أم أبينا".
يكتسي أدب أدول في غالبيته بالطابع الأسطزري، فما هي المنابع التي كانت وراء تلك السمة؟ يجيب: "في رواية "الكُشَر" أساطير النيل النوبية كانت المعين. بقية الأساطير كلها شهرزادية من مخيلتي التي أراها تستطيع خلق أساطيرها الخاصة".