بعد استيلائها على السلطة في أفغانستان من جديد، عملت حركة "طالبان" على الظهور بشكل مختلف، عبر محاولتها إقناع المجتمع الدولي بأنها مؤهلة بشكل أكبر لحكم البلاد باعتماد توجه سياسي أقل تشدداً، يحترم حقوق الإنسان، وبالخصوص حقوق المرأة، وينصت للرأي الآخر بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.
لكن توالي الانفجارات في مطار العاصمة كابول، الذي تسبب في مقتل العشرات من الأفغان من بينهم 13 جندياً أميركياً، وتبناها تنظيم "داعش"، تعيد التساؤلات بخصوص تنامي الخطر الإرهابي في زمن حركة "طالبان"، وتكثر التكهنات حول مدى صدقية الحركة في خطابها الناعم، ومدى تمكنها من تقليص الشكوك لدى الدول الغربية، ومدى قدرتها على مكافحة الإرهاب.
خلفيات النشأة
تداخلت عوامل كثيرة في قيام الحركة، فبعد أن شكلت أفغانستان مرتعاً لما عرفوا بـ "الجهاديين العرب" الذين حاربوا الغزو السوفياتي لذلك البلد خلال ثمانينيات القرن الماضي، أخذت بعض الجماعات المبادرة بحثاً عن الاستقرار في بلد يعاني من غياب الأمن.
ويشير الباحث المغربي في المجال الأمني، عبد الواحد أولاد ملود، إلى أنه عند دراسة وضع أفغانستان، نلاحظ أن هذا البلد شهد ويلات انعدام الأمن بخاصة بعد الاحتلال السوفياتي، وقد استخدمت الولايات المتحدة كل الإمكانيات المتاحة لردعه، كإنشاء مكاتب في بعض الدول العربية لتشجيع الهجرة نحو أفغانستان، واصطلح على تسمية هؤلاء المهاجرين، بـ "الأفغان العرب"، موضحاً أن الولايات المتحدة تخلت بعد ذلك عن تقديم الدعم لهؤلاء، وأصبحت أفغانستان على إثر ذلك مرتعاً أو ملجأً لكل الجماعات الإسلامية، وحركات التمرد بمختلف أنواعها، ما أدى في حقيقة الأمر إلى نشوء مجموعة من الحركات الداعية إلى الاستقلال أو إلى أخذ المبادرة لخلق نوع من الأمن في أفغانستان، وتحقيق ما يصطلحون عليه في تلك الفترة بـ "العدالة على أساس الشريعة الإسلامية"، ويضيف الباحث أن كل هذه التداعيات كانت من العوامل الأساسية لنشأة حركة "طالبان" التي قامت عبر التئام الأفغان الذين ترعرعوا في معسكرات اللاجئين ودرسوا في المدارس الدينية سواء في باكستان أو أفغانستان، ومن تم تمكنوا من تشكيل قوة عابرة للحدود.
مأزق الديموقراطية والصدقية
والسؤال، هل ستقوم الحركة بضمان انتقال سلس للسلطة وكسب ثقة الغرب؟
يقول الباحث في العلاقات الدولية، عصام لعروسي، إن وصول "طالبان" إلى السلطة والدخول إلى العاصمة كابول، يشكلان لحظة تاريخية فاصلة في تاريخ أفغانستان والمنطقة ككل، باعتبار أن ما يحصل الآن في أفغانستان هو حدث استثنائي بكل المعايير، لأن المنطقة بما فيها دولة أفغانستان لها وزن جيوسياسي كبير كونها تتواجد في منطقة وسط، وجنوب آسيا، مشيراً في الوقت عينه إلى أن لتلك المنطقة جاذبية قصوى لأنها منطقة صراع وتنافس دولي ما بين الولايات المتحدة، التي غزت أفغانستان لأكثر من 20 عاماً، وبين كل من روسيا والصين وباكستان.
ويشدد لعروسي على المأزق الحقيقي الذي توجد فيه الحركة حالياً، وذلك في ظل التكهنات حول التوجه السياسي الذي ستعتمده بعد الوصول إلى السلطة عبر الانقلاب على الحكومة القائمة، متسائلاً ما إذا كانت تلك السهولة والمرونة، ومساهمة الانسحاب الأميركي في تسليم مقاليد السلطة بشكل سلس ومرن لـ"طالبان"، تشير إلى وجود قوة سياسية ضخمة على اعتبار أن حركة "طالبان" ظلت طيلة هذه السنوات تصول وتجول على الرغم من وجود قوات أميركية على الأرض، وظلت باكستان تساندها أيضاً باعتبار أنها قوة سياسية ضاربة. ويضيف لعروسي أن موقف "طالبان" الآن على المحك، فهي تحاول الانتقال من دكتاتورية الحكم إلى الحكم الديمقراطي عبر تشكيل حكومة مدنية تضم كل الأطياف السياسية، بالتالي إعطاء نوع من الصدقية في ما خصّ الناحية السياسية.
هل غيرت الحركة توجهها؟
يعتبر الباحث المغربي في مجال الجماعات الإسلامية، بلال التليدي، أن "من السابق لأوانه الحديث عن تغيير أيديولوجية الحركة وأطروحتها الفكرية والسياسية، لأن ما نلاحظه اليوم على واقع الأرض سيطرة تامة لهذه الحركة على الوضع، في ظل تريث في الموقف الدولي"، مشيراً إلى التحفظ الكبير دولياً لاعتبارات متعددة أولها "الأيديولوجية السلفية" للحركة، وثانيها كون الحركة لها علاقة بتنظيم "القاعدة"، بالتالي يُخشى دائماً من أن تبقى على المنوال نفسه، وتصبح دولة راعية لمثل هذه الحركات المتطرفة، مضيفاً أن الأمر الثالث يتمثل في دحر الحركة للحلفاء الغربين في أفغانستان، وهي بصدد إنشاء إمارة لها خصوصيتها في المنطقة وربما لها تحالفاتها المختلفة.
ويتابع التليدي أن تلك الليونة التي تبديها الحركة هي نوع من البراغماتية السياسية التي يقصد منها كسب رعاية سياسية واعتراف دولي، ثم عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبتها في السابق وكانت سبباً في كل ما انتهت إليه البلاد من تدخل أجنبي ومن عزل، معتبراً أن الحركة ستبدي قدراً من البراغماتية والانفتاح المحدود لتضم بعض الأطراف التي كانت تنتمي للحكومة السابقة وبعض الأطراف الأخرى التي لا تعرف عنها معاداتها لـ "طالبان".
ويشير الباحث أولاد ملود إلى أنه منذ الأيام الأولى لعودة الحركة إلى السلطة في أفغانستان، يلاحظ تغير على مستوى التدبير، وخطاب الحركة، التي ربما لا تريد العودة إلى وضعية مرحلة بداية التسعينيات، أي على إثر تأسيسها إذ خلقت نوعاً من الرعب والخوف لدى الأفغان، معتبراً أن الحركة تتجه أكثر نحو إعطاء صورة نمطية أخرى معاكسة لتلك الصورة التي روج لها الإعلام الغربي، وقال إن هناك نوعاً من التحول حتى على مستوى بنود الاتفاق بينها وبين الولايات المتحدة، وينص أحد البنود على عدم تسخير الأراضي الأفغانية للحركات أو لخلق قلاقل أمنية لأميركا وحلفائها، وهذا التغيير يلاحظ حتى في بعض خطابات قادة الحركة بعد سيطرتها على العاصمة كابول، فهناك بعض القادة الذين أقروا أنه لا علاقة لهم بتنظيم "القاعدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد أولاد ملود وجود تغير في توجه "طالبان"، مقارنة مع فترة توليها السلطة في نهاية التسعينيات، حيث شنت حملة شرسة في تلك الفترة على الملاهي والملاعب الرياضية، وضيقت مجال حقوق النساء معتمدة توجها سياسياً متطرفاً، مشيراً، في المقابل، إلى اعتمادها حالياً نوعاً من الليونة عبر الإعلان عن نيتها مسك العصا من الوسط في اعتماد تعاليم الشريعة الإسلامية، إضافة إلى تفعيل نوع من التوازن الأمني والحفاظ على حقوق الإنسان، بالتالي فحركة "طالبان" إن هي سارت حقاً في نهجها الحالي، فربما ستنجح في إخراج أفغانستان من دوامة انعدام الاستقرار.
العلاقة بالجماعات المسلحة
يشوب علاقة حركة "طالبان" بالتنظيمات الإرهابية الغموض، وبالخصوص بتنظيم "القاعدة"، لا سيما بعد حماية الحركة زعماء "القاعدة" من بينهم أسامة بن لادن قبل 20 عاماً، ويشار إلى وجود نزاع بين الحركة و"القاعدة"، إضافة إلى وجود نزاع بين الحركة وتنظيم "داعش".
وتوضح دراسة للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف أن "العلاقة بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان أكثر تعقيداً وتشابكاً وتضارباً مما تبدو عليه ظاهرياً، فعلى الرغم من محاولاتهما معاً إخفاء أية مظاهر للخلاف، إلا أن ثمة معطيات تؤكد حدوثه، وإن كان بشكل مستتر مع ترجيح ظهوره للعلن بصورة أكثر وضوحاً قريباً، بخاصة مع وجود إشارات أصدرتها حركة طالبان خلال الأعوام السبعة الأخيرة تفيد بعدم رضاها عن منهج القاعدة المختلفة معها عقائدياً وسياسياً واستراتيجياً".
وسواء كانت علاقة حركة "طالبان" جيدة أو تشوبها نزاعات مع التنظيمات المسلحة، فإن المجتمع الدولي لا يزال متخوفاً من علاقة الحركة بالتنظيمات الموجودة على لائحة الإرهاب، وعبر الجنرال مارك ميلي، رئيس أركان الجيش الأميركي، عن قلقه من أن التنظيمات الإرهابية مثل "القاعدة'"، وتنظيم "داعش" يمكن أن تعيد بناء شبكاتها بسرعة في أفغانستان، كما أكد البنتاغون في تقريره الربع سنوي الموجه إلى الكونغرس أن "طالبان واصلت الحفاظ على العلاقات مع القاعدة، وتوفير ملاذ آمن لجماعة إرهابية في أفغانستان"، مشيراً إلى أن "داعش خراسان" نفذ هجمات على البنية التحتية في الأشهر الأخيرة بهدف النيل من صدقية الحكومة الأفغانية وإظهارها على أنها عاجزة عن توفير الأمن.
من جانبه، يشير الباحث بلال التليدي إلى أن "طالبان" استوعبت الدرس السابق بشكل جيد، وأنها لن تقدم مستقبلاً على دعم أي من "داعش" أو "القاعدة" أو أي تنظيم متطرف آخر، معتبراً أن هناك حذراً شديداً داخل قيادة هذه الحركة من إعادة التجربة السابقة، وأنها تسعى اليوم إلى كسب شرعية كل مكونات المجتمع الأفغاني من جهة، وشرعية الجوار الإقليمي فضلاً عن الشرعية الدولية من جهة أخرى.
يضيف التليدي أنه على الرغم من كون الحركة لن تخفف لغتها بخصوص قضية تطبيق الشريعة، إلا أنها في ما يخص القضايا الأخرى المرتبطة بحقوق الإنسان ودعم الحركات المتطرفة، ستبتعد بشكل كبير عن إطلاق مواقف يمكن أن تحسب عليها بكونها تنتهك حقوق الإنسان أو تضر بحقوق النساء بشكل خاص، وستصبح أبعد ما تكون عن استقبال التنظيمات المتطرفة أو حتى القيادات المتطرفة التي كانت لها علاقات سابقة معها.
العلاقة مع الغرب
منذ سيطرة "طالبان" على السلطة في أفغانستان، هناك ترقب لطريقة تعاطي الدول الغربية مع الحركة، وبالخصوص بعد انتهاء الانسحاب الأميركي نهاية أغسطس (آب)، إذ يسجل تردد غربي بين الاعتراف بالحركة كجزء من السلطة الأفغانية، وبين التوجس من تضييقها حيّز حقوق الإنسان، ومن تمدد الخطر الإرهابي في ظل حكمها.
وقد أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الوجود الدبلوماسي للولايات المتحدة في أفغانستان بعد 31 أغسطس سيعتمد على سلوك الحركة في الأسابيع والأشهر المقبلة، في وقت اعتبر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن أي اعتراف بـ "طالبان"، وأي تعامل معها يجب أن يكونا مشروطين بسماحها بمرور آمن لمن يريدون مغادرة البلاد، وباحترامها حقوق الإنسان.
حكم المصالح
من جانب آخر، يعتبر محللون أن علاقة الحركة بالغرب ستحكمها المصالح التي توجهها الثروات التي تزخر بها البلاد، ويشير عصام لعروسي إلى وجود صراع على مستويات مختلفة، أولها أمني وسياسي، إضافة إلى التنافس الإقليمي بين مجموعة من القوى، موضحاً أن كل الأطراف مهتمة بالمجال الأمني، باعتبار أن الولايات المتحدة تعلم مدى أهمية المنطقة، وأن الحركة تسيطر على هذه المنطقة، متسائلاً إلى أي حد تشكل الحركة مصدر قلق واضطراب، وأيضاً بالنسبة للصين التي تعتبر أن أفغانستان ربما تكون ملاذاً لمجموعة من المتطرفين منها أقليات "الإيغور" التي يمكن أن تلجأ إلى أفغانستان وتستقر هناك، بالتالي تزعزع أمن الصين.
يضيف لعروسي أن الهاجس الثاني متعلق بالجانب الاقتصادي، باعتبار أن "طالبان" تسيطر على كل حقول التعدين الموجودة بكثرة في أفغانستان، فكما يقال إن أفغانستان ترقد على كنوز من المعادن النفيسة، وأهمها النحاس والحديد والليثيوم وعدد من المعادن الأخرى التي تحتاجها الصناعات الإلكترونية الحديثة، وربما هذا هو "مربط الفرس"، لأن هناك صراعاً كبيراً بين هذه القوى على هذه الخيرات، بالتالي، فالولايات المتحدة تحاول أن تتعامل مع الحركة بالليونة أو المرونة المطلوبة لاستمرار هذه التدفقات الاقتصادية، وكذلك الأمر بالنسبة للصين التي تعتبر أن هذه المواد الخام ضرورية وأساسية لتنفيذ استراتيجياتها بما فيها تلك المتعلقة بطريق الحرير، المشروع الكبير الذي تحاول من خلاله الصين أن تسيطر على العالم بخلق مناطق اقتصادية حيوية وموانئ أساسية لمرور سلعها وبضائعها، وفي نهاية المطاف كل الأطراف تتصارع في أفغانستان لأهميتها الجيوسياسية وبقاء الحركة في السلطة رهن بالكيفية التي سوف تتعامل بها مع مطالب الغرب.
هواجس
من جانبه، يستبعد بلال التليدي أن يثق الغرب في يوم من الأيام بحركة "طالبان"، أو بأي حركة من حركات الإسلام السياسي، مشيراً إلى وجود هواجس كثيرة من قبل الغرب صنفها إلى ثلاث، هواجس من فكرة تطبيق الشريعة، وهواجس بخصوص الحريات وحقوق الإنسان، إضافة إلى أخرى مرتبطة بدعم الحركات المتطرفة أو الإرهابية، ويعتبر التليدي أن الحركة يمكنها التخفيف من تلك الهواجس، من خلال بعث خطاب طمأنة تلتزم فيه بالعديد من الخطوات، منها تأمين مطار كابول، والتوقف نهائياً عن القتال، والتحلي بقدر عال من ضبط النفس، فضلاً عن اعتماد حوار منفتح تطبعه المرونة مع بعض مكونات المجتمع الأفغاني وأيضاً مع العواصم الغربية، إضافة إلى إبداء قدر من المرونة في الحوار مع الغرب.
ويخلص التليدي إلى أنه في حال استطاعت الحركة فرض نفسها في الواقع وكسب احترام مكونات المجتمع الأفغاني، وناورت بشكل ذكي مع بعض القوى الدولية والإقليمية، فإن الغرب سيكون مجبراً على التعامل معها، وحتى لو لم يعترف بها، فإنه سيفتح معها قنوات، ذلك لأن أفغانستان اليوم باتت تشكل مركز ثقل في الصراعات المرتبطة بالمصالح الغربية بآسيا الوسطى، مشيراً إلى أن التفاوض الذي جرى في الدوحة لمدة طويلة توّج بالاتفاق على نقاط تحت الطاولة، بالتالي يبدو أن ما يجري اليوم هو نوع من الالتزام المتبادل من الحركة ومن الولايات المتحدة أيضاً، ويعتبر التليدي أن السلطات الأفغانية فقدت شرعيتها ونفوذها وسيطرتها بشكل كامل سواء ارتبط الأمر بالسلطات الحكومية أو الأمنية أو العسكرية، وقال إن الحركة تنتج المواقف الحذرة والبراغماتية من أجل تجاوز هذا السيناريو، وحتى الولايات المتحدة لا تريد أن تقوم بأي شيء يمكن أن يعيد التوتر إلى العلاقة بين الطرفين.