تبدو حركة "طالبان" الأفغانية الآن في وضع سياسي واقتصادي مشابه لما كانت عليه في فترة حكمها الأولى عام 1996 وهو الاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي ونيل الدعم من باكستان. لكن في ظل تدهور الوضع الاقتصادي بعد رحيل الولايات المتحدة و"الناتو" من الأراضي الأفغانية، يبقى السؤال هو كيف تنظر "طالبان" إلى استراتيجيتها من أجل البقاء السياسي، وهل تعتبر أن حكمها السابق كان خطأ بما يسمح بمزيد من الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة، وهل سيتعامل الغرب مع الحركة من منطلق براغماتي، بحيث تكون له اليد العليا كما فعل في مراحل سابقة مع نظم سياسية أخرى؟
تخمين المستقبل
تعج مؤسسات التفكير والدراسات السياسية في واشنطن بكثير من التحليلات السياسية حول القادة الجدد حول العالم الذين يتولون السلطة في بلدانهم، غير أن التقارير المنشورة عن حركة "طالبان" الأفغانية نادرة، فلا يزال المراقبون يحاولون تخمين ما إذا كانت هذه الجماعة التي استولت على حكم أفغانستان ستكون ذات طبيعة مختلفة عن نسخة التسعينيات أم لا، وهل سيكون للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة أي تأثير على سلوكها؟
تبدو إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حذرة للغاية في تعاملها حتى الآن مع الحركة في أفغانستان، إذ ينتظر البيت الأبيض استكشاف تصرفات "طالبان" المستقبلية، والتي ستجيب عن كثير من الأسئلة الملحة للسياسة الخارجية الأميركية، لكن البعض لا ينتظر التنبؤ بالمستقبل، ويسارع إلى توقع تصرفاتها وتحليل ما إذا كان الغرب سيمتلك أي نفوذ عليها وتكون له اليد العليا في النهاية أم لا.
البقاء في السلطة
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يرى فصيل من المحللين السياسيين في العاصمة الأميركية ومنهم ديشا غيرود، أستاذ علم السياسة والحكم في جامعة جورج تاون الأميركية، أن القادة الجدد يميلون إلى تفضيل الاستمرار والبقاء في السلطة على أي شيء آخر، بخاصة في البلدان التي تعاني من ضغوط سياسية واقتصادية حادة، حيث يكون خطر الانقلاب عليهم كبيراً. ولتوطيد مقعدهم في السلطة، فإنهم يحتاجون إلى المال بسرعة، بهدف تمويل احتياجات شبكات علاقاتهم وتعزيز القدرة العسكرية لقواتهم بهدف ردع الخصوم المحتملين وهزيمتهم إذا تطلب الأمر، وهو ما بدأت بوادره في الظهور عملياً في العمليات القتالية لعناصر "طالبان" في المناطق الشمالية غير الخاضعة لنفوذهم، بحسبما ذكرت بعض التقارير.
ولكي يحصل القادة الجدد على المصادر المالية، فإن أسهل مصدر هو الاعتماد على عائد بيع الموارد الطبيعية ذات الربحية العالية والتي تتطلب الحد الأدنى من العمالة مثل إيرادات النفط، أو القيام بعمليات التعدين لبيع الكوبالت. وإذا لم يتوفر ذلك بسرعة، فإن العامل الثاني لجلب المال هو الحصول على المساعدات من الجهات الخارجية المانحة التي تتوفر لديها مصلحة جيوسياسية في أفغانستان، أو من الجهات المانحة التي لا تكون لديها مصلحة استراتيجية مع الحكومة، ولكن تكون الديمقراطية أو التنمية على رأس أولوياتها.
كيف سيأتي المال؟
والسؤال الذي ربما تبحث "طالبان" عن إجابة عنه، هو ما إذا كان بإمكانها الوصول إلى الموارد الطبيعية المربحة وتحصيل عائداتها المالية. ذلك أن معظم الثروات المعدنية في أفغانستان، التي تقدر بتريليون دولار، لا يزال في باطن الأرض، وبالتالي ليس من المتاح استخراجها بشكل مباشر، ومع ذلك يمكن لعائدات الأفيون والاقتصاد غير الرسمي بشكل عام أن يحمي "طالبان" من نقص الدعم الأجنبي، على الأقل في المدى القصير.
ولكن على المدى البعيد تظل المشكلة قائمة، وسيتعين على الحركة أن تبحث عن دعم ومساعدات خارجية، ولكن أي نوع من الدعم تفضله "طالبان" ويمكن أن يتحقق بسرعة. والجواب هو أن النوع الأول المتمثل في الحصول على الدعم من الجهات التي لديها مصلحة جيوسياسية في أفغانستان ينطبق بشكل مباشر وواضح على باكستان، وهي بالفعل تتلقى تمويلاً كبيراً ودعماً استخباراتياً وخبرة عسكرية من إسلام آباد.
فخ استراتيجي
بالنسبة إلى الغرب، فإنه ينظر الآن إلى أفغانستان على أنها فخ استراتيجي، وكذلك الصين على ما يبدو. فعلى الرغم من أن بكين أدرجت أفغانستان في مبادرة الحزام والطريق، فإن الاستثمارات الصينية فشلت في تحقيق العوائد المتوقعة، لأن أفغانستان كانت غير مستقرة للغاية، ومع إدراك الجميع أن أفغانستان هي مقبرة الإمبراطوريات، فقد ترى الصين أن الاستثمار بلا طائل مقارنة بتكاليف الأمن.
أما روسيا، فقد تسارع إلى مساعدة "طالبان" كي تضغط عليها بهدف هزيمة تنظيم "داعش" في شمال أفغانستان، والذي يشكل تهديداً للمصالح الإقليمية الروسية، وقد تحاول موسكو أيضاً إجبار الحركة على وقف أو إبطاء عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود، والتي تعد مصدر قلق طويل الأمد لها، لكن روسيا قد لا تتورط بقوة بسبب تاريخها السابق والمرير في أفغانستان.
البديل الثالث
ومع عدم توفر موارد داخلية كافية، أو مساعدات خارجية على أساس المصلحة الجيوسياسية، يتبقى بديل ثالث وهو الأموال التي تقدمها الدول والجهات المانحة لأسباب غير استراتيجية والتي تستهدف تحقيق العدالة والديمقراطية والنمو الاقتصادي والرعاية الاجتماعية، لكن الجهات المانحة تهدد عادة بالانسحاب إذا فشل المتلقي في تحقيق الأهداف.
وعلى سبيل المثال، فقدت الحكومات في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية أهميتها الاستراتيجية للقوى الكبرى التي كانت توفر لها الدعم مع نهاية الحرب الباردة، وكانت هذه الحكومات بحاجة إلى تلبية مطالب المانحين غير الاستراتيجيين، وعندما قدم المانحون حوافز لإنفاذ اتفاقيات المساعدات خلال سنوات التسعينيات، كان لدى المتلقين رغبة ودافع للامتثال، ومع هذا التوافق التحفيزي، عززت المساعدات الغربية الديمقراطية والنمو الاقتصادي عبر الجنوب العالمي على نطاق لم يسبق له مثيل.
هل تساعد أميركا؟
على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين لمحوا خلال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان إلى أن واشنطن سوف تواصل تقديم المساعدات الإنسانية إذا اقتضت الضرورة، إلا أن الوضع يبدو الآن مختلفاً عن الـ20 عاماً الماضية بسبب تجربة إدارة بايدن المريرة في أفغانستان، فضلاً عن أن الولايات المتحدة ظلت تعتبر أن تأمين الولاء من متلقي المساعدات أكثر أهمية من نشر الديمقراطية الذي سعت إليه خلال الحرب الباردة، بخاصة أن حروب أميركا بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وحملات مكافحة الإرهاب، حولت البلدان في معظم أنحاء جنوب الكرة الأرضية وبخاصة أفغانستان إلى متلقين مهمين للمساعدات الأميركية بهدف تحقيق المصلحة الاستراتيجية لواشنطن، ونتيجة لذلك ظلت الحكومات الأفغانية المتعاقبة منذ عام 2001 تتجنب الإصلاح المكلف سياسياً، لأن الولايات المتحدة لن تفرض شروطها بتحقيق الديمقراطية والشفافية والعدالة وتخاطر بانهيار الحكومة.
هل يتكرر خطأ "طالبان"؟
أصبحت "طالبان" في وضع جيوسياسي واقتصادي مشابه لما كانت عليه خلال فترة حكمها الأولى في أواخر التسعينيات، أي الاعتماد على الاقتصاد غير الرسمي والدعم الباكستاني المحدود، لكن ذلك لم يكن كافياً لاستمرارها السياسي عام 2001، وهو ما يثير تساؤلات حول رؤية "طالبان" الحالية إلى استراتيجيتها السابقة التي استهدفت البقاء السياسي منذ التسعينيات وما إذا كانت تراها خطأ يجب ألا يتكرر؟
وإذا لم تنظر الحركة إلى ذلك على أنه خطأ، فمن المرجح أن تعود الجماعة إلى الحكم الذي يمقته الغرب، ولكن إذا نظرت "طالبان" إلى استراتيجيتها الأولى على أنها خطأ، فهذا يعني أنه ستكون هناك نافذة تسمح للغرب بنفوذ كبير، لأن الحركة سوف تحتاج إلى الغرب أكثر مما يحتاجها.
وتشير مجلة "فورين بوليسي" إلى أنه إذا قررت الولايات المتحدة والمانحون الغربيون التعامل مع "طالبان"، فإن الشروط السياسية المرتبطة بالمساعدات يجب أن تكون خلاقة وعملية، ولا تحاسب الحركة على حكمها في التسعينيات وإنما تبني تعاونها على أساس حكم "طالبان" أثناء الحرب، بخاصة أنها كشفت في عدة مواضع أنها براغماتية وكانت تحركاتها وتصرفاتها مدفوعة بالضرورة العسكرية والسياسية، بل إنها سمحت للفتيات في بعض مناطق سيطرتها بمواصلة الدراسة، كما سمحت للمنظمات غير الحكومية بتقديم الخدمات الأساسية، وذلك بهدف كسب الدعم المحلي في هذه المناطق.
اليد العليا للغرب
وبحسب ما يرى عدد من المراقبين، فإن للغرب اليد العليا بالفعل في المساومة مع "طالبان"، بعدما جمدت وزارة الخزانة الأميركية الاحتياطيات الأجنبية لأفغانستان. وقال رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو، إن حكومته ليس لديها خطط للاعتراف بالحركة رسمياً، كما أوقف "الناتو" مساعداته، وأوقف صندوق النقد الدولي احتياطيات الطوارئ التي التزم بها لأفغانستان، كما أوقف البنك الدولي مساعدته، وسط إصرار من القوى الغربية على معاقبة "طالبان" إذا انتهكت حقوق الإنسان أو وفرت ملاذاً آمناً للإرهاب الدولي.
وما يشير إلى أن الغرب له اليد العليا، أن "طالبان" أمرت قادتها أن يحكموا بمسؤولية عندما استولوا على السلطة لأنهم كانوا تحت أعين الجميع في الداخل، ومن قبل جهات أجنبية فاعلة يمكن أن تكون في وضع يُمكنها من تحديد ما إذا كان الغرب يريد الاعتراف بها وربما دعمها.
وقابلت "طالبان" خصوماً مثل الرئيس السابق حامد كرزاي، وبدلاً من قتل المسؤولين الحكوميين السابقين، منحتهم عفواً وطالبتهم بالعودة إلى العمل. ولهذا يطالب البعض الولايات المتحدة والقوى الغربية بأن تشجع على تحول الحركة لتصبح أكثر اعتدالاً مع الاستمرار في التشكك من مواقفها وسلوكياتها.