في أجواء صاخبة ومبهجة، افتتح أمس مهرجان البندقية السينمائي (1 سبتمبر (أيلول) 2021) دورته الـ78. للحظة، بدت الإجراءات الاحترازية للحد من جائحة كورونا مجرد حبر على ورق. كافة التعليمات التي كانت صدرت عن الإدارة، كالحفاظ على مسافة جسدية بين الناس وارتداء الكمامات، أضحت بسحر ساحر نكتة سمجة ما إن بدأت الحرارة ترتفع، حرارة اللقاء بالسينما والعودة إلى الصالات.
الحشد أمام القصر في جزيرة الليدو كان كبيراً ولو أن جداراً فاصلاً ارتفع استثنائياً بين السجادة الحمراء والحيز الذي يصطف فيه عادة الوافدون إلى هنا، للتفرج على النجوم الذين يصلون إلى عروض الأفلام والتقاط صور معهم. هذا الجدار لم يمنع الناس من حضور الـ"موسترا" في محاولة لاستعادة الأيام المجيدة التي عاشوها في الماضي، يوم كانت الأشياء تجري بعفوية وسلاسة، من دون قيود وحواجز وخشية من الإصابة بالعدوى. في أي حال، هذا ما بدت عليه سيدة ثمانينية راقبتها لدقائق وفي يدها كاميرا صغيرة. أياً يكن، لا أحد يستطيع أن يلوم هؤلاء بعد أطول فترة إقامة أمضوها في بيوتهم، والسينما بأجوائها اللطيفة أمست بالنسبة إليهم المسامات التي يتنفسون عبرها بعض الحرية.
نجمة الأمسية
بينيلوبي كروز كانت نجمة الأمسية، هي التي أدهشتنا قبل ساعات قليلة بأدائها الباهر في أحدث أفلام بدرو ألمودوفار، "أمّهات موازيات"، الذي عُرض افتتاحاً. أطلت بفستان أسود وأبيض في هيئة مختلفة تماماً عمّا كانت عليها في الميلودراما السياسية والاجتماعية التي جاءنا بها المخرج الإسباني ولعبت فيه دور أم عزباء. كروز بدت معجبة بالإجراءات المتخذة في البندقية ضد الوباء، إذ قالت: "الناس يأخذون التدابير الوقائية هنا على محمل الجد. الجميع يتعامل مع الوضع بمسؤولية. شيء عظيم أن الصناعة السينمائية مستعدة للعودة. المهرجان احتفاء بالسينما، ولكن أيضاً يوفّر فرص عمل للكثير من الناس حول العالم".
على غرارها، هناك العديد من النجوم سيحضرون المهرجان هذا العام بعدما بات من الممكن السفر والتنقّل بين البلدان بحرية نسبية أكبر من العام الماضي، وما عاد الوباء يشكّل خطراً كبيراً على حياتهم. فمعظمهم تلقى اللقاح وباتت شركات التأمين تسمح لهم في الانخراط بأجواء الجمهور، علماً أن عدداً منهم لا يزال يفضّل إجراء المقابلات الصحافية عبر "زوم" في نمط عمل جديد نأمل ألا يتكرس. أما بالنسبة للبعض الآخر مثل المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو الذي يترأس لجنة التحكيم، فـ"الوباء سيمضي ولكن السينما مستمرة".
تكريم روبرتو بينيني
شهدت حفلة الافتتاح تكريم الممثّل والمخرج الإيطالي روبرتو بينيني بجائزة لمجمل أعماله. الفنان الكوميدي الذي بات على مشارف السبعين من العمر كان ذاع صيته مع رائعته "الحياة حلوة" في عام 1997، فيلم يمزج بين الكوميديا والدراما تدور أحداثه في زمن المحرقة النازية، وهو عن أب يحاول إلهاء ابنه الطفل عن المأساة التي يعيشها في معسكر الاعتقال. الفيلم انتشر عالمياً بشكل غير متوقع، وفاز عنه بينيني بجائزة "أوسكار" أفضل تمثيل (لأول مرة أُسندت لممثّل غير ناطق بالإنجليزية) بالإضافة إلى "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، مع التذكير أن مسيرته الفنية كانت بدأت قبل عشرين سنة من تاريخ إنجازه هذا الفيلم، وكان قد تولى أيضاً بطولة آخر فيلم لفيلليني المعنون "صوت القمر".
يقول مدير الـ"موسترا" ألبرتو باربيرا عن بينيني: "منذ ظهوره الذي حدث تحت راية روح الابتكار ونسف القواعد والتقاليد، أثبت بينيني وجوده في بانوراما الترفيه الإيطالي كشخصية مرجعية، لا سابقة لها ولا مثيل. تناوب ظهوره في المسرح والسينما والتلفزيون بنتائج مفاجئة. فرض نفسه على الجميع بحكم حماسته واندفاعه. بينيني انتقائي مثير للإعجاب، سليم من حيث الشكل دائماً. إنه أحد أكثر الكوميديين براعة في مشهد غني بالفنانين الإيطاليين؛ مخرج يصنع أفلاماً ذات شعبية هائلة. أرى فيه تجسيداً لـ"الكوميديا الإلهية" لدانتي. قلة من الفنانين تعادلت قدرتهم معه في الإمساك بالتوقيت الكوميدي المتفجر، والذي غالباً ما يكون مصحوباً بهجاء".
إلى فيلم الافتتاح، ثلاثة أفلام سيطرت على البرمجة في أول أيام المهرجان، تسنى لنا مشاهدة البعض منها في عروض صحافية (لنا عودة نقدية إليها)، علماً أنه، منذ صعود نجم المواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي، قررت الإدارة منع الكتابة عنها أو قول أي رأي علني فيها قبل موعد العرض الرسمي لكل فيلم. والسبب أن بعض المقالات العنيفة في سلبيتها، والآراء التي يعتبرها المهرجان متحاملة في مجملها، أحبطت في الماضي طاقم الفيلم وبثت اليأس في قلوبهم وهم يمشون على السجادة الحمراء، وهذا أمر ما عادت تحبّذه المهرجانات مثل البندقية (وأيضاً كان وبرلين) التي تطمح في النهاية إلى "تكريم" هؤلاء السينمائيين عبر الاحتفاء بأعمالهم، لا في تمريغهم في الوحل. مذ ذاك، بات الشعار الجديد: "اكتبوا ما تريدونه... ولكن بعد العرض الرسمي!".
"قوة الكلب"
أخيراً، نتوقف هنا عند الفيلم الأسترالي "قوة الكلب" لجاين كامبيون المشارك في المسابقة والذي سيُعرض رسمياً اليوم. فيلم كامبيون من نوع الوسترن المتقن الصنع بشخصيات قاسية وأجواء تعيد إلى الأذهان المخرج الأميركي جون فورد الذي استلهمت منه كامبيون أسلوبه في التأطير والتقاط المشهد من خلف الباب. هذا أول فيلم للمخرجة الكبيرة الفائزة بـ"سعفة" مهرجان كان عن البيانو 1993، قبل 12 عاماً. في السنوات الأخيرة من حياتها، شغلت نفسها بمسلسل قصير. هذا الفيلم المقتبس من رواية لتوماس سافاج يدور حول مزارع جذاب يدعى فيل بوربانك (بنديكت كامبرباتش) الذي ينشر الخوف والذعر أينما حل. تدور الأحداث في أوائل القرن العشرين في ولاية مونتانا. وفيل هذا الذي يتميز بشخصية شديدة السادية سيطلق حملة ضد أرملة شابة (كرستن دانست) تزوجت من شقيقه وجاءت للعيش في المزرعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول كامبيون: "كان الوقوع في حب رواية توماس سافاج القوية متعة نادرة، ومع ذلك لم يكن في ودي يوماً نقلها إلى السينما، كونها تنطوي على العديد من الشخصيات الذكورية ومواضيع ذكورية عميقة. ذات يوم سألت توماس عن اسم المخرج الذي يراه مناسباً لأفلمة روايته، فوجدتُ ذراعه ينزلق ببطئ إلى كتفي ويقول: "امرأة مجنونة تعرف كيف تحب الرواية". مذذاك وهبتُ نفسي بالكامل لقصّة سافاح الرائعة وتركتها تكتسحني. شعرتُ بالعاشق في شخصية فيل وكذلك بالوحدة الرهيبة في داخله. رأيتُ أهمية كل شخصية من الشخصيات وقوتها وكيف يتم الكشف عن تفاصيل كل منها في النهاية. لذلك، يشرفني أن أشارك هذا الفيلم مع جمهور حقيقي في سينما حقيقية".