على أعتاب فصل الخريف، يمتشق الصيادون بنادقهم، ويمتطون عربات الدفع الرباعي، ويتجهون فجراً إلى أعماق الجرود سعياً وراء الخير الوفير. لسنوات طويلة، اعتاد سكان المناطق الجبلية في لبنان على صوت الخرطوش من الفجر البازغ، كما كانت تستفز صور أكوام الطيور التي تم اصطيادها أنصار البيئة. إلا أن هذا المشهد، تبدّل بعض الشيء هذا العام، فقد بدت آثار الدولار واضحة على سلوك الناس. فقد ابتعد "أنصار التسلية" وتمضية الوقت عن الساحة، فيما حافظ "عشاق الصيد" على طقوسهم المتوارثة.
شغف الصيد
يستهل الصياد المحترف سمير حديثه عن الصيد باستخدام أسلوب التشبيه، لأن "من يعشق الصيد، لا يمكنه التوقف أبداً، وهو كمن يتعاطى المواد المخدرة، يحتاج إلى علاج عميق". ينتمي علي إلى ضيعة وعائلة تمتهن الصيد منذ الصغر، "شيء يتوارث أباً عن جد"، ويستذكر أنه ورفاقه، كانوا "يجمعون المصروف الأسبوعي ستة آلاف ليرة، من أجل شراء الخردق، حيث يملأون الخرطوش يدوياً، ويدكونه من أجل استعماله في الصيد". ومن ثم، كانت تنتقل الجماعة سيراً على الأقدام، من ضيعتهم في كفر حبو صعوداً نحو إيزال من أجل اصطياد الطيور المحببة.
تطورت هذه الهواية، وانتقلت إلى مرحلة الاحتراف. واستأجر علي مكاناً في أعلى جرود الضنية من أجل ممارسة الصيد مع "رفاق الميدان". ويؤكد أن الصياد المحترف "لا يصطاد الطير الجارح"، أو "الطيور المهاجرة"، أو تلك "التي لا تؤكل"، كما لا يستخدم أساليب مضرة، وتقضي على أعداد كبيرة من الطيور كالشباك، داعياً إلى تنظيم عمليات الصيد وإقامة محميات تديرها الدولة، وتمنح ترخيصاً للصياد باقتناص أعداد محددة، على أن يخضع الصياد للمراقبة وإنزال العقوبة بالمخالفين.
يعتقد سمير أن ما يميز الصياد المحترف عن الجائر، هو نوعية الصيد، لأن الصياد المحترف هو صاحب أخلاق ولا يصطاد الطيور بصورة عشوائية، ويقتصر على صيد السمن والفري وعصافير التين التي تمتاز بالطعم اللذيذ، وتتكاثر بسرعة.
أزمة البنزين والدولار
لاحظ سكان الجرود تأثير أزمة الدولار والبنزين في عدد الصيادين. على سبيل المثال، فإن منطقة داريا التي كانت تعج بالصيادين من كل حدب وصوب وتضيق بالسيارات الرباعية الدفع وتغطي "فراغات الخرطوش" تربتها، تراجع وجودهم فيها، وهي التي "أصبحت محمية بفعل شرعة أخلاقية بين الصيادين لأنها ممر أساسي للطيور المهاجرة". وكذلك الأمر في المناطق الجردية بين الضنية والهرمل، يقول علي "لا شك أن أزمة الدولار والبنزين أثرت إلى حد كبير في موسم الصيد، في السابق كانت الجرود تعج بالصيادين، أما اليوم فقد اقتصرت على أبناء المنطقة والمحترفين".
فمن ناحية، تفتقر السوق المحلية إلى البنزين، ويحاول الأفراد تقنين مشاويرهم إلى أقصى حد. من ناحية أخرى، أصبحت أسعار خرطوش الصيد مرتفعة جداً، فثمن صندوق الخرطوش يبدأ من 53 دولاراً أميركياً، وهو مبلغ يوازي الراتب الشهري للعامل، يقول علي "مما لا شك فيه أن الموظف الذي يقبض مليوناً ونصف المليون ليرة، لن يدفع هذا المبلغ ثمن صندوق خرطوش، أما في السابق عندما كان الدولار على مستوى 1500 ليرة، فكانوا يبذرون إلى أقصى حد، ويفرغون الخرطوش في الهواء للتسلية".
جيل جديد من الصيادين
تتوالى الأجيال في عالم الصيد، ينتمي أشرف الشاب العشريني إلى الجيل الجديد من الصيادين. يضبط عقارب حياته على موسم الصيد، فمن شهر أغسطس (آب) إلى مارس (آذار)، يعطي الأولوية لحرفة الصيد. يخرج مع رفاقه إلى جرود الهرمل، يقطع عشرات الكيلومترات قبل أن يعود بالجني الغزير. يؤكد أن هناك تنافساً بين الصيادين على كمية الطيور التي يتم اصطيادها، فذلك مؤشر على مدى دقة واحتراف الشاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلقن أشرف مبادئ الصيد من والده، ففي عمر العاشرة بدأ بمرافقته في رحلات الصيد، تعلم منه أصول التعامل مع الطيور والأنواع التي يمكن اصطيادها. ينفق أكثرية مدخراته على عدة الصيد، التي يجب أن تتضمن أدوات أساسية يأتي في مقدمتها "البارودة"، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من "السكسيكة" أي الجهاز الذي يصدر صوتاً للعصافير الذي يتراوح ثمنه بين 40 و500 دولار أحياناً، إلى الفلاش الضوئي، بالإضافة إلى البزة الخاصة بالصيد، وسيارات الدفع الرباعي، وبالتأكيد لا يمكن الاستغناء عن الكلب. وتأثرت أسعار العدة بسعر صرف الدولار لأن كل هذه المواد مستوردة من الخارج.
مآدب الطيور
تشكل مأدبة الطيور أحد الخيارات المفضلة لأبناء القرى اللبنانية، يجتمع هؤلاء حول النار من أجل جلسة الشواء، بعد إتمام عملية نتفها، وتنظيفها. بعد عملية فرز الطيور بين كبيرة الحجم وسمينة وطيور نحيلة. تُشوى الطيور الكبيرة، فيما تُقطع الصغيرة إلى أربع قطع، وتُتبَّل ببعض النباتات العطرية، ودبس الرمان، قبل أن تقلى بالزبدة.
مكافحة الصيد الجائر
في عام 2004، صدر قانون الصيد البري في لبنان، الذي ينص على إنشاء المجلس الأعلى للصيد البري، كما يحظر على أي كان أن يصطاد خارج الأوقات المسموح فيها بالصيد، بالإضافة إلى اشتراط حيازة رخصة قانونية وبوليصة تأمين ضد الغير. كما يمنع الصيد منعاً باتاً بواسطة البوم، والدبق، والشباك، والمصايد، والأشراك. إلى جانب وسائل من قبيل الطيور العائمة الصناعية والطبيعية، والطعم، والصيد المحبوس، والأنوار الكاشفة، كما يمنع بواسطة السموم، والغاز، والدخان، والآلات الكهربائية.
فيما حددت الوسائل المتاحة للصيد بواسطة الأسلحة النارية المرخصة، وقوس النشاب، ويجوز استخدام الكلاب، والصقور، والبزاة، والعقبان. وأقر القانون عقوبة الحبس وسحب الرخصة لكل من يضبط وهو يحوز طيوراً أو يمارس الصيد خارج الموسم، أو الأوقات التي يسمح بالصيد فيها.
مبادرات صديقة للبيئة
أخيراً انضمت منطقة داريا إلى قائمة المناطق المحمية من الصيد الجائر بجهود من صيادي الضنية. منذ سنوات ينشط أدونيس الخطيب في مكافحة الصيد الجائر في لبنان، ويقارن بين مرحلتين أساسيتين، فقبل إقرار قانون تنظيم الصيد البري كان هناك شبه الفوضى، ولم يكن هناك تحديد لمفهوم الصيد الجائر. وأدى ذلك إلى إصدار نحو 16500 رخصة في الفترة الأولى فقط. أما في المرحلة اللاحقة، فظهرت شريحة "القواصين" الذين يحتالون على الضوابط والأنظمة من أجل استعمال طرق غير مشروعة في الصيد.
يصر الخطيب رئيس مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام (المنسق الميداني للصيد المسؤول في جمعية حماية الطبيعة) على التمييز بين "الصيادين" و"القواصين"، لافتاً إلى أن "الصياد شريك في حماية الطبيعة. ويعتقد أن مساعي وحدة مكافحة الصيد الجائر التابعة للجمعية بالتعاون مع القوى الأمنية ومنظمة "CABS"، أنجزت نتائج جيدة، وبدأ الصيادون بحماية الطيور المهاجرة في مناطقهم. لذلك بدأت وحدة مكافحة الصيد الجائر في تدريب الصيادين على مداواة الطيور المهاجرة الجريحة، وتطبيبها.
ويحدد الخطيب مفهوم الصيد الجائر بالصيد خارج الموسم، وقتل الطيور المهاجرة خصوصاً المحمية دولياً، واستخدام الشباك، والصيد ليلاً، وتجاوز عدد الطرائد المسموح اصطيادها، مضيفاً أنه من هنا، لا بد من التزام القائمة والأعداد المحددة من أجل الحفاظ على التنوع البيئي، ولافتاً إلى أن الموسم الرسمي يمتد من بداية سبتمبر (أيلول) إلى منتصف فبراير (شباط)، وأنه بدأ التعاون مع قوى الأمن من خلال توثيق المخالفات وإرسالها إليها لملاحقة المخالفين.
لبنان ممر للهجرة
يعتبر لبنان ثاني أهم ممر للهجرة في العالم بعد الممر الذي ينطلق من أميركا الشمالية إلى الجنوبية. ويوضح الخطيب أن الطير يهاجر من أوروبا، مروراً بلبنان، نحو أفريقيا في الخريف، ثم يعود بحركة عكسية في الربيع. لذلك يشبه لبنان بـ"عنق الزجاجة" بسبب مرور الطيور بكثافة، ولا بد من حماية هذا الممر لعدم التأثير في هجرة الطيور على المستوى العالمي.
ومن أهم الطيور المهاجرة الواجب حمايتها؛ البجع، والقلق، والطيور الجارحة، والحوامات، والصقور، والنسور التي كانت تتعرض لجرائم في مناطق متعددة من داريا إلى إغبة والبقاع الغربي. ويعبر عن سعادته لـ"انتشار الوعي في أوساط الصيادين في تلك المناطق من خلال توثيق، ومكافحة المخالفات في مناطقهم".
يشير الخطيب إلى أن وزارة البيئة أنجزت المراسيم التطبيقية، كما أنشأت المجلس الأعلى للصيد البري، وهي تعلن افتتاح موسم الصيد وإغلاقه. لذلك لا بد من بذل جهود إضافية من قبل وزارة الداخلية، والدفاع، والبلديات، من أجل مكافحة الصيد الجائر الذي يعتمد على صيد الشبك، والصيد الليلي، وقنص الطيور المهاجرة، حسب تأكيدات الخطيب. ويشدد على "الشعور بالمسؤولية لدى كل طرف من الأطراف من تاجر سلاح الصيد، إلى الصياد، والجهات الرسمية كافة".
ترميم المنظومة البيئية
تلجأ الكثير من البلاد إلى ترميم الخلل البيئي فيها من خلال تشجيع تكاثر الحيوانات البرية، وإنشاء محميات. يوضح الخطيب أن لبنان شهد على محاولات لتكاثر الحجل "الطائر الوطني"، إلا أنها لم تثمر لأن "الطيور لم تتفاعل مع البيئة". يشير إلى أن هذه الخطوات يجب أن تكون علمية وتتلاءم مع البيئة، فعلى سبيل المثال كان هناك محاولات لتأمين تكاثر طير "الياسمينا" في لبنان، إلا أنه وبسبب انتمائه إلى بيئة مخالفة "كان يخرب أعشاش الطيور".